فصل: تفسير الآيات (10- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وفي الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه: {كتاب أنزل إليك}.. وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}. فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره.. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتاباً، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر.
ولأن المحاولة ضخمة.. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها بالله، وبالكون، وبالناس..
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً.. وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا، ومصائرهم كذلك في الآخرة:
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن مصارع الغابرين خير مذكر، وخير منذر.. والقرآن يستصحب هذه الحقائق، فيجعلها مؤثرات موحية، ومطارق موقظة، للقلوب البشرية الغافلة.
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها. أهلكت وهي غارة غافلة. في الليل وفي ساعة القيلولة، حيث يسترخي الناس للنوم، ويستسلمون للأمن:
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون}.
وكلتاهما.
البيات والقيلولة.. ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا. وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط!
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار!
{فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}..
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! {إنا كنا ظالمين}.. فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك!
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!
وبينما المشهد معروض في الدنيا، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة. فإن الندم قد فات موعده، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب..
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة. بلا توقف ولا فاصل. فالشريط المعروض موصول المشاهد، والنقلة تتخطى الزمان والمكان، وتصل الدنيا بالآخرة، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي، خاصية من خواص القرآن.. إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة. وفي سطر من كتاب. لتلتحم الدنيا بالآخرة؛ ويتصل البدء بالختام!
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون: {إنا كنا ظالمين}..
ولكنه السؤال الجديد، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}.
فهو السؤال الدقيق الوافي، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين.. وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق!.. يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون. ويسأل الرسل فيجيبون. ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه! يقصه عليهم- سبحانه- بعلم فقد كان حاضراً كل شيء. وما كان- سبحانه- غائباً عن شيء.. وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير!
{والوزن يومئذ الحق}..
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين.
{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}..
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق. وجزاؤها إذن هو الفلاح.. وأي فلاح بعد النجاة من النار، والعودة إلى الجنة، في نهاية الرحلة المديدة، وفي ختام المطاف الطويل؟
{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ. وقد خسروا أنفسهم. فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه. فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله: {بما كانوا بآياتنا يظلمون} والظلم- كما أسلفنا- يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر: {إن الشرك لظلم عظيم} ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان- كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر الإسلامي!.. فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل. مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء.. وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق.. من أن الحساب يومئذ بالحق، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع.

.تفسير الآيات (10- 25):

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}
من هنا تبدأ الرحلة الكبرى.. تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض، كحقيقة مطلقة، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً.
{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون}:
إن خالق الأرض وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض. هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش..
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر، ودورتها حول الشمس، وميلها على محورها، وسرعة دورتها.. إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها، وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً.. وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض، قادراً على تطويعها واستخدامها؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته.
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن يقهر الطبيعة كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة!
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة.. هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى- بجهده وحده- وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها قهراً للطبيعة في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني!
إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة!
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة- كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلاً! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي- بزعمهم- التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق.. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته... وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه. ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة!
وفي ظل هذا التصور يعيش الإنسان في كون مأنوس صديق؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة.
يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه.. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة.. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه.. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله!
إن مأساة الوجودية الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث.. تصور الوجود الكوني- بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها- معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لابد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم.. وهما سواء..
وهي ليست مأساة الوجودية وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله- بكل مذاهبه واتجاهاته- بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها، المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة، التي تنشئ في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة.
إن الإنسان هو ابن هذه الأرض؛ وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه الله من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده- حين يتعرف إليها على بصيرة- وتيسر حياته..
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون.. ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون.. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون: وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى:
{قليلاً ما تشكرون}.
بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة.. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب، في رحاب الملأ الأعلى.. يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم؛ زيادة في الحفاوة والتكريم. وتحتشد له الملائكة- وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس- وتشهده السماوات والأرض؛ وما خلق الله من شيء.. إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود:
{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
قال ما منعك أَلا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}..
هذا هو المشهد الأول.. وهو مشهد مثير.. ومشهد خطير.. ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء؛ ونرجئ التعليق عليها، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها..