فصل: تفسير الآيات (35- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 53):

{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى؛ ومواجهة واقع الجاهلية العربية- وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها- في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى؛ وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى..
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم.. نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة.. قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها. وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها.. إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم. وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة:
{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
هذا هو عهد الله لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه- سبحانه- في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس، ومكنه فيها، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد؛ وإلا فإن عمله ردٌّ في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله؛ وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً.
{فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش- وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته- وتقودهم إلى الطيبات والطاعات؛ وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير.
{والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.. لأن التكذيب والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار؛ حيث يحق وعد الله: {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}..
ومن هنا يأخذ السياق في عرض مشهد الاحتضار- عند نهاية الأجل المشار إليه في نهاية الجولة الماضية: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.. ثم مشهد الحشر والحساب. ومشهد الفصل والجزاء.. كأنها تفصيل لذلك الإجمال عن شأن المتقين المستكبرين؛ وتصوير لحال المتقين وحال المستكبرين؛ بعد الأجل المعلوم. تصوير على طريقة القرآن الفريدة التي تستحضر المشهد حياً متحركاً يراه قارئ القرآن وسامعه؛ ويشهده، بكل كينونته.
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة.. البعث والحساب، والنعيم والعذاب.. عناية واضحة. فلم يعد ذلك العالم الذي وعده الله الناس، بعد هذا العالم الحاضر، موصوفاً فحسب، بل عاد مصوراً محسوساً، وحياً متحركاً، وبارزاً شاخصاً.. وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة. رأوا مشاهده وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولاح لهم من بعيد لفح النار، ورفت إليهم من الجنة أنسام! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود.
والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا؛ وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار، ومن أرض إلى أرض، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة.. ولم يكن ذلك العالم مستقبلاً موعوداً في حسهم، وإنما كان واقعاً مشهوداً..
وربما كانت هذه المشاهد- المعروضة هنا- أطول مشاهد القيامة في القرآن، وأحفلها بالحركة، وبالمناظر المتتابعة، وبالحوار المتنوع، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة!
وهي تجيء في السورة- كما أسلفنا- تعقيباً على قصة آدم، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما، وتحذير الله لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة.. ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار، ومشاهد القيامة- وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان!- فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها. وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا الله، قد ردوا إلى الجنة، ونودوا من الملأ الأعلى: {أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}.. فكأنما هي أوبة المهاجرين، وعودة المغتربين، إلى دار النعيم!
وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى، على مشهد من الملائكة- يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة، وأخرجهما من الجنة- وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة.. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق.
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة.
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على الله الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به الله، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل- وهي شرع الله المستيقن- وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب:
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}.
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار:
{قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله}..
أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه:
{قالوا ضلوا عنا}!
غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقراً، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً!.. فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان!
{وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}..
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا: {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار!.. ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار!
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}.
{ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار}.
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس.. هنا في النار.. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟.. فادخلوا إذن جميعاً.. ادخلوا سابقين ولاحقين.. فكلكم أولياء.. وكلكم سواء!
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها؛ ويملي متبوعها لتابعها.. فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها:
{كلما دخلت أمة لعنت أختها}!
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه!
{حتى إذا اداركوا فيها جميعاً}.
وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال:
{قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار}..
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء؛ يتهم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويطلب له من {ربنا} شر الجزاء.. من {ربنا} الذين كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء. ولكن أية استجابة؟!
{قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون}.
لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب!
وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة.. كلنا سواء.. في هذا الجزاء:
{وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}!
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل- وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم-:
{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين}..
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب.. مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة. فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ- وحينئذ فقط- أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم- وقد فات الأوان- وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء!
{وكذلك نجزي المجرمين}..
ثم إليك هيئتهم في النار:
{لهم من جهنم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ}..
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه- للسخرية- مهاداً، وما هو مهد ولا لين ولا مريح!- ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم!
{وكذلك نجزي الظالمين}..
والظالمون هم المجرمون. والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله.. كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.
والآن فلننظرإلى المشهد المقابل:
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}..
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم.
هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها- بإذن الله وفضله- ورثها لهم- برحمته- بعملهم الصالح مع الإيمان.. جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان. وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم- في حدود طاقتهم- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى.. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة. ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا. فكتب على نفسه الرحمة؛ وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف؛ وكتب لهم به الجنة، فضلاً منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة..
وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء:
{ونزعنا ما في صدورهم من غل}..
فهم بشر. وهم عاشوا بشراً. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه.. ولكن تبقى في القلب منه آثار.
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين».. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}..
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام:
{تجري من تحتهم الأنهار}..