فصل: تفسير الآيات (94- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



... والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى. ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به الرسول الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه. وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه. والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضى الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها.
ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة- ولو قيد شعره- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض. وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد.. ثم انظروا إلى ما كسب الجهاد من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين، حتى إن القرآن ليحكم بالنفاق على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض. ذلك أن الجهاد هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق، ليس غير. وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين. وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق.. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب، فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك؟
إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام. فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند الله الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها.
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله لله، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم.. إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت- تحت رايته- بكل ما فيها من تضحيات؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول، كما أنها أذل وأحقر!.. إنه يدعوهم للكرامة، وللسلامة، في آن..
لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة:
{قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها..}..
ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه.
بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل، الذي وسع كل شيء علماً. فهو في مواجهة ربه، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره، ويدع له قياده وزمامه، ويعلن خضوعه واستسلامه:
{إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً}..
إنه يفوض الأمر لله ربه، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه.. إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت، من العودة في ملتهم؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته.. ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة الله به وبهم.. فالأمر موكول إلى هذه المشيئة، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون، وربهم وسع كل شيء علماً. فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم.
إنه أدب ولي الله مع الله. الأدب الذي يلتزم به أمره، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره. ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه.
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق.
{على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}..
وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر: مشهد تجلي حقيقة الألوهية في نفس ولي الله ونبيه..
إنه يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان. ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مفر. إلا بفتح من ربه ونصر.
عندئذ يتوجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم. ليفتنوهم عن دينهم: {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون}..
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير.. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل.. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب؛ ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم- وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل- ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان.
ولكنه من سنة الله الجارية أنه عندما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة الله التي لا تتخلف.. وهكذا كان..
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}..
الرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة..
ويرد السياق على قولتهم: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون}.. وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة! فيقرر- في تهكم واضح- أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً، إنما كان من نصيب قوم آخرين:
{الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها.
الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين}..
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين. لا حياة ولا حراك. كأن لم يعمروا هذه الدار، وكأن لم يكن لهم فيها آثار!
ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال، والمفارقة والانفصال، من رسولهم الذي كان أخاهم، ثم افترق طريقه عن طريقهم، فافترق مصيره عن مصيرهم، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم، وعلى ضيعتهم في الغابرين:
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}..
إنه من ملة وهم من ملة. فهو أمة وهم أمة. أما صلة الأنساب والأقوام، فلا اعتبار لها في هذا الدين، ولا وزن لها في ميزان الله.. فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل الله المتين..

.تفسير الآيات (94- 102):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}
هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين؛ ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل.. أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء؛ لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون.. كل ذلك للابتلاء.. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: {وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء}! أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله.. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار..
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها.. يحذرهم الغفلة والغرة، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى، ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها...} لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.. فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها..
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ الإنسان في هذه الأرض.
وأن الرسالة ذاتها- على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس- وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافاً؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض- كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان!- وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس..
ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون!
إن إرادة الإنسان وحركته- في التصور الإسلامي- عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً. ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل.. والله بكل شيء محيط.. وإرادة الإنسان وحركته- في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل- يتعاملان مع الوجود كله؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً.. فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة؛ مما يبدو إلى جانبه التفسير الاقتصادي للتاريخ، والتفسير البيولوجي للتاريخ، والتفسير الجغرافي للتاريخ... بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة. وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير!.
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون}..
فليس للعبث- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة- كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له- والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} «ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً. ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على معصيته- سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً» (كما جاء في الحديث القدسي).
ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم- كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم. وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد!