فصل: تفسير الآيات (103- 137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام:
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات}..
فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان. وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا. إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها. فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب:
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}..
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة:
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}..
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف. كما يقع في كل جاهلية. إذا تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية.
وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه. فلابد أن تتفرق به السبل، ولابد أن ينحرف، ولابد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف..

.تفسير الآيات (103- 137):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}
يتضمن هذا الدرس قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه. من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين. وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة. وغلبة الحق على الباطل. وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل. واستعلان الحق في نفوسهم على هذا التوعد وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة. ثم ماتلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل. وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات. ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب. حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه؛ وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات. حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك- ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة.. لتعقبها فتنة الرخاء..
وقد اخترنا أن نجعل هذا القطاع من القصة درساً؛ ونجعل القطاع الآخر الخاص بقصة موسى- عليه السلام- مع قومه بعد ذلك درساً يليه لاختلاف طبيعة القطاعين، واختلاف مجالهما كذلك..
والقصة تبدأ هنا بمجمل عن بدئها ونهايتها، يوحي بالغرض الذي جاءت من أجله في سياق هذه السورة:
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
فيصرح النص بالغرض من سياقة القصة في هذا الموضع.. إنه النظر إلى عاقبة المفسدين.. وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية، تعرض الحلقات التي تفي بهذه الغاية، وتصورها تفصيلاً.
والقصة تقطع إلى مشاهد حية، تموج بالحركة وبالحوار، وتزخر بالانفعالات والسمات، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى رب العالمين وبين الطواغيت المتسلطة على عباد الله، المدعية للربوبية من دون الله، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن، فلا تخشى سلطان الطواغيت، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد..
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها، كانت بعثة موسى.. والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها. كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها. لقد ظلموا بهذه الآيات- أي كفروا وجحدوا- والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة الظلم وكلمة الفسق في موضع كلمة الكفر أو كلمة الشرك.
وهذه من تلك المواضع التي يكثر ورودها في التعبير القرآني. ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق.. والذين يكفرون أو يشركون يظلمون الحقيقة الكبرى- حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد- ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة. ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية لله الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة.. وليس بعد ذلك ظلم.. ومن ثم فالكفر هو الظلم {والكافرون هم الظالمون} كما يقول التعبير القرآني الكريم.. وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسق ويخرج عن طريق الله وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه- سبحانه- إنما تؤدي إلى الجحيم!
ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا.
{فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
وهذه العاقبة ستجيء في السياق عن قريب.. أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة: {المفسدين} وهي مرادف لكلمة {الكافرين} أو {الظالمين} في هذا الموضع.. إنهم ظلموا بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا فانظر كيف كان عاقبة {المفسدين} هؤلاء.
إنهم مفسدون لأنهم ظلموا- أي كفروا وجحدوا.. ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد. وأشنع الإفساد.. إن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد، والعبودية لإله واحد.. وإن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس.. إن العبودية لله وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة، وشهوات البشر الصغيرة!.. إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد- من دون الله- وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم لله وحده- عقيدة وعبادة وشريعة- وما تحرر الإنسان قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة.. ومن ثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه:
{فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
وكل طاغوت يُخضع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من {المفسدين} الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون!
وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص. وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة، وللمحور الذي تدور حوله. لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى- تحقيقاً للهدف من سياقتها- ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها.
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه؟
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما:
{وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق.
قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم}..
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.. مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى {رب العالمين} وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين!
{وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل}..
{يا فرعون}.. لم يقل له: يا مولاي! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز. ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود:
{إني رسول من رب العالمين}..
لقد جاء موسى- عليه السلام- بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله. حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً.. ألوهية واحدة وعبودية شاملة.. لا كما يقول الخابطون في الظلام من علماء الأديان ومن يتبعهم في زعمهم عن تطور العقيدة إطلاقاً، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين!.. إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها. ولا تتطور من الآلهة المتعددة، إلى التثنية، إلى الوحدانية في نهاية المطاف.. فأما جاهليات البشر- حين ينحرفون عن العقيدة الربانية- فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية.. وسائر أنواع العقائد الجاهلية.. ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح.
ولقد واجه موسى- عليه السلام- فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي- قبله أو بعده- عقائد الجاهلية الفاسدة.. واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه.. إن ربوبية الله للعالمين تعني- أول ما تعني- إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له- من دون الله- بإخضاعهم لشرعه هو وأمره.. واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين.. ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله.
{حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق}..
فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله، ليقول عليه إلا الحق، وهو يعلم قدره؛ ويجد حقيقته- سبحانه- في نفسه.
{قد جئتكم ببينة من ربكم}..
تدلكم على صدق قولي: إني رسول من رب العالمين.
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة.. حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين.. طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل..