فصل: تفسير الآيات (93- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}.
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة تقعدهم؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به.
ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله، لا يغشون ولا يخدعون، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه- دون القتال- من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين. ليس عليهم جناح، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون، فلا جناح على المحسنين، إنما الجناح على المسيئين.
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة. فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً، لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف الروايات في تعيين أسمائهم، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة.
روى العوفي عن ابن عباس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً: فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه.
وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن من مزينة.
وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف: سالم بن عوف، ومن بني واقف: حرمي ابن عمر، ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى: فضل الله ومن بني سلمة: عمرو بن عتمة وعبد الله بن عمرو والمزني.
وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلية بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو والمزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة: قال: {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}.
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك العصبة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر. وإلا فلنسدد ولنقارب والله المستعان.

.تفسير الآيات (93- 96):

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا يجد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة.. من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة.. إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود وهم أغنياء قادرون، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج.. إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور..
هؤلاء هم المؤاخذون بتخلفهم عن الخروج، والاستئذان في القعود، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون، لا يؤدون حق الله عليهم وقد أغناهم وأقدرهم؛ ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم؛ ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم.. ومن ثم يختار الله- سبحانه- لهم هذا الوصف: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}..
فهو سقوط الهمة، وضعف العزيمة، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد.. وهم معذورون.. فأما أولئك فما هم بمعذورين!
{وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}.. فقد أغلق الله فيهم منافذ الشعور والعلم، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة. وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر، وتطبع على القلوب والعقول. والحركة دليل الحياة، ومحرك في الوقت ذاته للحياة. ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل، وتشد العضل، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة.. وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة.
ويمضي السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف..
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة، سقوط الهمة، وذلة النفس، وانحناء الهامة، والتهرب من المواجهة والمصارحة: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم}.
وهذا من إنباء الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة. مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة.
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية؛ وهي ضعف الإيمان، وإيثار السلامة، والإشفاق من الجهاد!
{قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم}!
قل: وفروا عليكم معاذيركم. فلن نطمئن إليكم، ولن نصدقكم، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل. ذلك أن الله قد كشف لنا حقيقتكم، وما تنطوي عليه صدوركم؛ وقص علينا دوافع أعمالكم؛ وحدثنا عن حالكم، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم.
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى: {لن نؤمن لكم} ذو دلالة خاصة. فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان. تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب، وثقة من المؤمن بربه، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه. وللتعبير القرآني دائماً دلالته وإيحاؤه.
قل: لا تعتذروا. فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام. ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان: {وسيرى الله عملكم ورسوله}. والله لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيزن قولكم بعملكم. وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم.
ولن ينتهي الأمر- على كل حال- بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا. فوراء ذلك حساب وجزاء، يقومان على علم الله المطلق بالظواهر والسرائر: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.. والغيب ما غاب عن الناس علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه. والله سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى. وبمعنى أشمل وأكبر. فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة.. وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبين: {فينبئكم بما كنتم تعملون}.. إيماءة مقصودة. فهم يعلمون ما كانوا يعملون. ولكن الله- سبحانه- أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله، والله أعلم به منه! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها، والله يعلمها دون صاحبها!.. والمقصود- بطبيعة الحال- هو نتيجة الإنباء. وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال. ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق.
{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون}.. وهذا إنباء آخر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما سيكون من أمر القوم عندما يعود إليهم هو والمؤمنون الخلص معه سالمين آمنين. وكان المنافقون قد ظنوا أنهم لا يعودون من لقاء الروم!
فقد علم الله وأخبر نبيه أنهم سيؤكدون معاذيرهم بالحلف بالله؛ لعل المسلمين يعرضون عن فعلتهم وتخلفهم عفواً وصفحاً؛ ولا يحاسبونهم عليها ويجازونهم بها.
ثم يوجهه ربه إلى الإعراض عنهم فعلاً، لكن لا بمعنى العفو والصفح؛ إنما بمعنى الإهمال والاجتناب.
معللاً ذلك بأنهم دنس يتجنب ويتوقى: {فأعرضوا عنهم إنهم رجس}.. وهو التجسيم الحسي للدنس المعنوي. فهم ليسوا رجساً- أي دنساً- بأجسادهم وذواتهم؛ إنما هم رجس بأرواحهم وأعمالهم. ولكنها الصورة المجسمة أشد بشاعة وأبين قذارة، وأدعى إلى التقزز والاشمئزاز، وإلى الاحتقار كذلك والازدراء!
والقاعدون في الجماعة المكافحة- وهم قادرون على الحركة- الذين يقعد بهم إيثار السلامة عن الجهاد.. رجس ودنس. ما في ذلك شك ولا ريب.. رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر؛ كالجثة المنتنة في وسط الأحياء تؤذي وتعدي!
{ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون}.. وهم يحسبون أنهم يكسبون بالتخلف؛ ويربحون بالقعود؛ ويجنون السلامة والراحة؛ ويحتفظون بالعافية والمال.. ولكن الحقيقة أنهم دنس في الدنيا، وأنهم يضيعون نصيبهم في الآخرة. فهي الخسارة المطبقة بكل ألوانها وأشكالها.. ومن أصدق من الله حديثاً؟
ثم يمضي السياق ينبئ عما سيقع من هؤلاء القاعدين بعد عودة المجاهدين: {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}.. إنهم يطلبون ابتداء من المسلمين أن يعرضوا عن فعلتهم صفحاً وعفواً. ثم يتدرجون من هذا إلى طلب رضى المسلمين عنهم ليضمنوا السلامة في المجتمع المسلم بهذا الرضى! ويضمنوا أن يظل المسلمون يعاملونهم بظاهر إسلامهم كما كانوا يعاملونهم؛ ولا يجاهدونهم ويغلظون عليهم كما أمرهم الله في هذه السورة أن يفعلوا؛ محدداً بذلك العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين فيهم.
ولكن الله سبحانه يقرر أنهم فسقوا عن دين الله بهذا القعود الناشئ عن النفاق؛ وأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين. حتى ولو استطاعوا أن يحلفوا ويعتذروا حتى يرضى عنهم المسلمون!.. وحكم الله فيهم هو الحكم. ورضا الناس- ولو كانوا هم المسلمين- في هذه الحالة لا يغير من غضب الله عليهم، ولا يجديهم فتيلاً. إنما السبيل إلى إرضاء الله هو الرجوع عن هذا الفسق، والعودة إلى دين الله القويم!
وهكذا كشف الله هؤلاء القاعدين- من غير عذر- في الجماعة المسلمة؛ وقرر العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين. كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبين المسلمين وأهل الكتاب. وكانت هذه السورة هي الحكم النهائي الأخير.

.تفسير الآيات (97- 110):

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
هذا الدرس بجملته تصنيف للمجتمع الإسلامي في ذلك الحين- إبان غزوة تبوك- يصور طوائفه وطبقاته الإيمانية الداخلة في تركيبه العضوي العام، مع تميز كل منها بصفاته وأعماله.
ولقد فصلنا القول في الجزء العاشر عند تقديم السورة عن الأسباب التاريخية التي أنشأت هذه المستويات الإيمانية المتعددة في الجماعة المسلمة في المدينة. فنجتزئ هنا من ذلك التفصيل بالفقرات الأخيرة منه، لاستحضار الملابسات التي كانت تحيط بوجود هذه المستويات المتعددة في المجتمع الواحد:... لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزاً قوياً دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة- فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك- فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها!... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف؛ وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائياً، فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير.. كان ذلك إيذاناً بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.