فصل: تفسير الآيات (1- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 25):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
السورة كلها- كما أسلفنا في تقديمها- لحمة واحدة، يصعب تقسيمها إلى مقاطع: شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع- مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص- فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية؛ تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري، وتخاطبه بإيقاعات منوعة.. من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن. إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله سبحانه.. إلى عرض مشاهد القيامة. إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم. إلى عرض مصارع الغابرين.. إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة.
وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة. فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعاً واحداً يتدفق بهذه الموجات المتتابعة. ثم تجيء قصة نوح- ومن بعده في اختصار- وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس؛ فتؤلف مقطعاً آخر. ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير.
ونظراً لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة- أو مجموعة من الموجات المتناسقة- كما هي طبيعتها المتميزة..
أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة. {ألف لام را} كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك. يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره: {تلك آيات الكتاب الحكيم}..
ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب. من الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر الناس ويبشر المؤمنين، والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر.. إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما.. إلى جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب.. إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير..
ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء، وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير؛ وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم. ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود، وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال.
ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير. وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى، ونسيانهم له عند كشف الضر. ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه، دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته، ولقيت مصارعها في ذلك الطريق!
ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه.
غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله، وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل. وهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء، ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله. ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن، غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون.
ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر، وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة، في مشهد من المشاهد النابضة المتحركة المؤثرة. في ركوب البحر عندما تسير الفلك في أول الأمر رخاء، ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان.
ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا، وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة، وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب.. ذلك والله يدعو إلى دار السلام. دار الأمن والاطمئنان. الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة.. {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.. ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير.
{ألر تلك آيات الكتاب الحكيم}..
من هذه الحروف وأمثالها، تتألف آيات الكتاب الحكيم، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول. وهذه الحروف في متناول أيديهم، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب- كما يتحداهم في هذه السورة- ولا يقودهم هذا إلى التدبر، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزاً عن تأليف آية واحدة، من هذه الحروف المبذولة للجميع.
{تلك آيات الكتاب الحكيم}..
الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية، نجد مصداقها في كل جيل.
والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه. في السماء والأرض. وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار.. وفي مصارع القرون الأولى، وفي قصص الرسل فيهم.. وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود..
{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين}..
سؤال استنكاري. يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل.
لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول: أبعث الله بشراً رسولاً؟ ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة الإنسان. عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة الإنسان الذي يتمثل فيهم. فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله، وأن يتصل الله به- عن طريق الوحي- فيكلفه هداية الناس.
إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكاً أو خلقاً آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله. غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق؛ ومن تكريمه أن يكون أهلاً لحمل رسالته؛ وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص:
هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وشبهة أمثالهم في القرون الأولى. فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتاً عن تلك!
إنهم يسألون: كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق.
والذي ليس كمثله شيء؟
وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علماً بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية، كما أحاط علماً بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه. وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله، ويعرف حدود هذا العقل. بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد، ولم يقف العلم بعد حتى يقال: إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك. فضلاً على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائماً آفاق من المجهول بعد آفاق!
ففي الإنسان إذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله. والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة. وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة. ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية، وكل بنية، وكل مخلوق؛ وقادر على أن يطوع لإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها.
ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب. ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه. فللعلم ميدان. هو الميدان الذي يملك أدواته. وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها. والعلم لم يدع أنه يعرف شيئاً حقيقياً عن الروح. فهي ليست داخلة في نطاق عمله، لأنها ليست شيئاً قابلاً للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله. لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح. أما ما يسمى بالعلوم الروحانية فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاء من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس. إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية. والعقل هنا في غير ميدانه. وليس معه أدواته. لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان.
{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}.
فهذه خلاصة الوحي: إنذار الناس بعاقبة المخالفة، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة. وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب. فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال.
والإنذار للناس جميعاً. فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير: والبشرى للذين آمنوا وحدهم. وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار.. تلك المعاني التي توحي بها كلمة (صدق) مضافة إلى القدم. في جو الإنذار والتخويف. {قدم صدق}.. قدم ثاتبة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف، وفي ساعات الحرج.. {قدم صدق عند ربهم}.. في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة. حينما تتزلزل القلوب والأقدام.
وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم. رجل يعرفهم ويعرفونه، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج. أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائماً كلما غم عليه الأمر، وأحاطت به الشبهات، وجذبته التيارات والشهوات، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحياناً من النقيض إلى النقيض. هو في حاجة إلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه، وينزل على إرشاده، ويرجع إلى الصواب على هداه. وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله.
وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها؛ فيعرضها على هذا الميزان الثابت، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها.. والقول بأن دين الله هو دائماً مفهوم البشر لدين الله وأنه من ثم متطور في أصوله يعرّض هذه القاعدة الأساسية في دين الله- وهي ثبات حقيقته وميزانه- لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية. بحيث لا يبقى هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية..
والمسافة قصيرة بين هذا القول، والقول بأن الدين من صنع البشر.. فالنتيجة النهائية واحدة، والمزلق خطر وخطير للغاية، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد.. منه ومن نتائجة القريبة والبعيدة..
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمراً عجيباً:
{قال الكافرون إن هذا لساحر مبين}..
ساحر لأن ما ينطق به معجز. وأولى لهم- لو كانوا يتدبرون- أن يقولوا: نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز. فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راقٍ، وما يرتكز عليه نظام متفرد.
ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها؛ ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله؛ فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها.
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}..
وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة. قضية الربوبية.. فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين. فهم كانوا يعتقدون بوجود الله- لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف- ولكنهم كانوا يشركون مع الله أرباباً يتوجهون إليهم بالعبادة. إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله.
والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية- كالذي جدَّ فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية- إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر:
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل. وقدر اختلاف الليل والنهار.. هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك.. إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه.. أليست قضية منطقية حية واقعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟!