فصل: تفسير الآيات (35- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}..
{واستبقا الباب}..
فهو قد آثر التخلص بعد أن استفاق.. وهي عدت خلفه لتمسك به، وهي ما تزال في هياجها الحيواني.
{وقدت قميصه من دبر}..
نتيجة جذبها له لترده عن الباب..
وتقع المفاجأة:
{وألفيا سيدها لدى الباب}..
وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضراً على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب. إنها تتهم الفتى:
{قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً}..
ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه، فتشير بالعقاب المأمون.
{إلا أن يسجن أو عذاب أليم}!
ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل:
{قال هي راودتني عن نفسي}!
وهنا يذكر السياق أن أحد أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع:
{وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين}..
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه؟ هل كان مع زوجها (سيدها بتعبير أهل مصر) وشهد الواقعة؟ أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر، كما يقع في مثل هذه الأحوال أن يستدعي الرجل كبيراً من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم!
هذا وذلك جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئاً. وقد سمي قوله هذا شهادة، لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين ولكل منها ومن يوسف قول سميت فتواه هذه شهادة، لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه.. فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق.. وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها وكذبه، فهي السيدة وهو فتى، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول! والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة.
{فلما رأى قميصه قدّ من دُبر}..
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت، وهي التي دبرت الاتهام.. وهنا تبدو لنا صورة من الطبقة الراقية في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة.
رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية؛ وميل إلى كتمانها عن المجتمع، وهذا هو المهم كله:
{قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}!
هكذا. إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم.. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق. والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم!
والتفاتة إلى يوسف البرئ:
{يوسف أعرض عن هذا}..
فأهملْه ولا تُعِرْه اهتماماً ولا تتحدث به.. وهذا هو المهم.. محافظة على الظواهر!
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه:
{واستغفري لذنبك إنك من الخاطئين}..
إنها الطبقة الأرستقراطية، من رجال الحاشية، في كل جاهلية. قريب من قريب!
ويسدل الستار على المشهد وما فيه.. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشئ منها معرضاً للنزوة الحيوانية الجاهرة، ولا مستنقعاً للوحل الجنسي المقبوح!
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور! ولكن للقصور جدراناً، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستوراً. وبخاصة في الوسط الأرستقراطي، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات:
{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر أي كبير وزرائها ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة:
{امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه}..
ثم بيان لحالها معه:
{قد شغفها حباً}..
فهي مفتونة به، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق:
{إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهي السيدة الكبيرة زوجة الكبير، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟!
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن:
{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن.
فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لُمْتُنَّني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}..
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكيناً تستعملها في الطعام ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأواً بعيداً، وأن الترف في القصور كان عظيماً. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف:
{وقالت اخرج عليهن}..
{فلما رأينه أكبرنه}..
بهتن لطلعته، ودهشن.
{وقطعن أيديهن}..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
{وقلن حاش لله}..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيراً عن الدهشة بصنع الله..
{ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}..
وهذه التعبيرات دليل كما قلنا في تقديم السورة على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى:
{قالت فذلكن الذي لمتنني فيه}..
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب!
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}..
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها! ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأساً من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء:
{ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}!
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.
ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار؛ فإذا هو يناجي ربه:
{قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.
ولم يقل: ما تدعوني إليه. فهن جميعاً كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات.. وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه، ويدعو الله أن ينقذه منه:
{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.
وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيداً من عناية الله وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
{فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم}..
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثراً منه. أو بهما جميعاً.
{إنه هو السميع العليم} الذي يسمع ويعلم، يسمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة.

.تفسير الآيات (35- 53):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
وهذه هي الحلقة الثالثة والمحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف؛ فكل ما بعدها رخاء، وابتلاء لصبره على الرخاء، بعد ابتلاء صبره على الشدة. والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة. والسجن للبريء المظلوم أقسى، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى.
وفي فترة المحنة هذه تتجلى نعمة الله على يوسف، بما وهبه من علم لدني بتعبير الرؤيا وبعض الغيب القريب الذي تبدو أوائله فيعرف تأويله. ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيراً بإعلان براءته الكاملة إعلاناً رسمياً بحضرة الملك، وظهور مواهبه التي تؤهله لما هو مكنون له في عالم الغيب من مكانة مرموقة وثقة مطلقة، وسلطان عظيم.
{ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}..
وهكذا جو القصور، وجو الحكم المطلق، وجو الأوساط الأرستقراطية، وجو الجاهلية! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حباً، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقاً، ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه، والمرأة تعلن في مجتمع النساء دون حياء أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، وإما أن يلقى السجن والصغار، فيختار السجن على ما يؤمر به!.
بعد هذا كله، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين!
ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشاراً في طبقات الشعب الأخرى.. وهنا لابد أن تحفظ سمعة البيوتات! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من الوسط الراقي! قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية!