فصل: تفسير الآيات (22- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



كذلك الشمس والقمر. وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها، {والنجوم مسخرات بأمره} للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله..
وكل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}..
والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان:
{وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون}..
وما خلق الله في الأرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان. ونظرة إلى هذه الذخائر المخبوءة في الارض، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوماً بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها. وكلما قيل: إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر غني، من رزق الله المدخر للعباد.. {إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} ولا ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت لهم هذه الكنوز.
والفوج الخامس من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي، ولكنه يشتمل على صنوف من آلاء الله على الإنسان:
{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}..
ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه.
فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام. وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال: {وترى الفلك مواخر فيه} فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها: رؤية الفلك {مواخر} تشق الماء وتفرق العباب.. ومرة اخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلى الجمال في مظاهر الكون، بجانب الضرورة والحاجة، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات.
كذلك يوجهنا السياق أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه إلى ابتغاء فضل الله ورزقه، وإلى شكره على ما سخر من طعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج: {ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.
والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة:
{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون}.
فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا. يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات. ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض. وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث.
وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري، والسبل السوالك. والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال، ففي الجبال في الغالب تكون منافع الأنهار؛ حيث مساقط الأمطار. والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار. وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال. وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي يهتدي بها السالكون في الأرض من جبال ومرتفعات ومنفرجات، وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين في البر والبحر سواء.
وعندما ينتهي استعراض آيات الخلق، وآيات النعمة، وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب السياق عليه بما سيق هذا الاستعراض من أجله. فقد ساقه في صدد قضية التعريف بالله سبحانه وتوحيده وتنزيهه عما يشركون:
{أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}..
وهو تعقيب يجيء في أوانه، والنفس متهيئة للإقرار بمضمونه: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}.. فهل هنالك إلا جواب واحد: لا. وكلا: أفيجوز أن يسوي إنسان في حسه وتقديره.. بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيرا ولا صغيراً؟ {أفلا تذكرون} فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر، فيتضح الأمر ويتجلى اليقين.
ولقد استعرض ألوانا من النعمة. فهو يعقب عليها: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.. فضلاً على أن تشكروها. وأكثر النعم لا يدريها الإنسان، لأنه يألفها فلا يشعر بها إلا حين يفتقدها.. وهذا تركيب جسده ووظائفه متى يشعر بما فيه من إنعام إلا حين يدركه المرض فيحس بالاختلال؟ إنما يسعه غفران الله للتقصير ورحمته بالإنسان الضعيف {إن الله لغفور رحيم}..
والخالق يعلم ما خلق. يعلم الخافي والظاهر: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} فكيف يسوونه في حسهم وتقديرهم بتلك الآلهة المدعاة وهم لا يخلقون شيئا ولا يعلمون شيئا، بل إنهم لأموات غير قابلين للحياة على الإطلاق. ومن ثم فهم لا يشعرون:
{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}..
والإشارة هنا إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق لابد أن يعلم موعد البعث. لأن البعث تكملة للخلق. وعنده يستوفي الأحياء جزاءهم على ما قدموا. فالآلهة التي لا تعلم متى يبعث عبادها هي آلهة لا تستحق التأليه، بل هي سخرية الساخرين. فالخالق يبعث مخاليقه ويعلم متى يبعثهم على التحقيق!

.تفسير الآيات (22- 50):

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
وقفنا في الدرس السابق عند استعراض آيات الخالق في خلقه، وفي نعمته على عباده، وفي علمه بالسر والعلن.. بينما الآلهة المدعاة، لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة. ولا تعلم شيئا، بل هي ميتة لا تنتظر لها حياة. وهي لا تعلم متى يبعث عبادها للجزاء! وهذا وذلك قاطع في بطلان عبادتها، وفي بطلان عقيدة الشرك كافة.. وكان هذا هو الشوط الأول في قضية التوحيد في السورة مع إشارة إلى قضية البعث أيضا.
وها نحن أولاء نبدأ في الدرس الجديد من حيث انتهينا في الدرس السابق. نبدأ شوطا جديدا، يفتتح بتقرير وحدة الألوهية، ويعلل عدم إيمان الذين لا يؤمنون بالآخرة بأن قلوبهم منكرة، فالجحود صفة كامنة فيها تصدهم عن الإقرار بالآيات البينات، وهم مستكبرون، فالاستكبار يصدهم عن الإذعان والتسليم.. ويختم بمشهد مؤثر: مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، والملائكة، قد برئت نفوسهم من الاستكبار، وامتلأت بالخوف من الله، والطاعة لأمره بلا جدال.. هذا المشد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المنكرة قلوبهم في مفتتح هذا الشوط الجديد.
وبين المطلع والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين عن الوحي والقرآن إذ يزعمون أنه أساطير الأولين. ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه الله، إذ يدعون أن الله أراد منهم الشر وارتضاه. ومقولاتهم عن البعث والقيامة إذ يقسمون جهدهم لا يبعث الله من يموت. ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا. ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرأون من تلك المقولات الباطلة، كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم، ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون، وهم في تقلبهم في البلاد، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب.. وإلى جوار هذا يعرض صورا من مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء. وينتهي بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في الأرض والسماء..
{إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين}..
ويجمع السياق بين الإيمان بوحدة لله والإيمان بالآخرة. بل يجعل إحداهما دالة على الأخرى لارتباط عبادة الله الواحد بعقيدة البعث والجزاء. فبالآخرة تتم حكمة الخالق الواحد ويتجلى عدله في الجزاء..
{إلهكم إله واحد} وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة، الواضحة الآثار في نواميس الكون وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث.
فالذين لا يسلمون بهذه الحقيقة، ولا يؤمنون بالآخرة وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق وحكمته وعدله هؤلاء لا تنقصهم الآيات ولا تنقصهم البراهين، إنما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم.
إن قلوبهم منكرة جاحدة لا تقر بما ترى من الآيات، وهم مستكبرون لا يريدون التسليم بالبراهين والاستسلام لله والرسول. فالعلة أصيلة والداء كامن في الطباع والقلوب!.
والله الذي خلقهم يعلم ذلك منهم. فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. يعلمه دون شك ولا ريب ويكرهه فيهم. {إنه لا يحب المستكبرين} فالقلب المستكبر لا يرجى له أن يقتنع أو يسلم. ومن ثم فهم مكروهون من الله لاستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون.
{وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}.
هؤلاء المستكبرون ذوو القلوب المنكرة التي لا تقتنع ولا تستجيب إذا سئلوا {ماذا أنزل ربكم} لم يجيبوا الجواب الطبيعي المباشر، فيتلوا شيئا من القرآن أو يلخصوا فحواه، فيكونوا أمناء في النقل، ولو لم يعتقدوه. إنما هم يعدلون عن الجواب الأمين فيقولون: {أساطير الأولين} والأساطير هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة.. وهكذا يصفون هذا القرآن الذي يعالج النفوس والعقول، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس وعلاقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل. هكذا يصفونه لما يحويه من قصص الأولين. وهكذا يؤدي بهم ذلك الإنكار والاستهتار إلى حمل ذنوبهم وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول، ويصدونهم عن القرآن والإيمان، وهم جاهلون به لا يعلمون حقيقته.. ويصور التعبير هذه الذنوب أحمالا ذات ثقل وساءت احمالاً وأثقالا! فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور، وهي تثقل القلوب، كما تثقل الأحمال العواتق، وهي تتعب وتشقي كما تتعب الأثقال حامليها بل هي أدهى وأنكى!
روى ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمعت قريش، فقالوا: إن محمداً رجل حلو اللسان، إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوا في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم، قال أحدهم: انا فلان ابن فلان. فيعرفه نسبه، ويقول له: أنا أخبرك عن محمد. إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع الوافد. فذلك قوله تعالى: {إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين}. فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره.
فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون: خيراً....
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة، ويديرها امثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان. فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر، وليسوا أول من يمكر. والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم، ومصيرهم يوم القيامة، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم. يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة:
{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}.