فصل: تفسير الآيات (36- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فأما شطر الآية الثاني: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} فيقرر كذلك حقيقة خطيرة. يعد العلماء كشفها وتقريرها أمراً عظيماً. ويمجدون دارون لاهتدائه إليها! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول.
وهي حقيقة تثير الانتباه حقاً. وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى ما يقال هنا كذلك: إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات.
ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: {أفلا يؤمنون} وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم؟
ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة:
{وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم}.
فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى. فقد يكون توازناً بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة: وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر.. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن فذلك مجالها الأصيل. ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير:
{وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون}..
وذكر الفجاج في الجبال وهي الفجوات بين جواجزها العالية، وتتخذ سبلاً وطرقاً.. ذكر هذه الفجاج هنا مع الإشارة إلى الاهتداء يصور الحقيقة الواقعة أولاً، ثم يشير من طرف خفي إلى شأن آخر في عالم العقيدة. فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان، كما يهتدون في فجاج الجبال!
{وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}..
والسماء كل ما علا. ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف. والقرآن يقرر أن السماء سقف محفوظ. محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق. ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزاً للعلو الذي تتنزل منه آيات الله.. {وهم عن آياتها معرضون}..
{وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون}.
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة بحياة الإنسان في الأرض. وبالحياة كلها.. والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر. بهذه الدقة التي لا تختل مرة؛ وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة.. جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس، ووحدة الإرادة، ووحدة الخالق المدبر القدير.
وفي نهاية الشوط يربط السياق بين نواميس الكون في خلقه وتكوينه وتصريفه؛ ونواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها:
{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}..
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعملون عمل أهل الموتى؟ وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟
{كل نفس ذائقة الموت}. هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي ليست لها استثناء. فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق!
إنه الموت نهاية كل حي، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض.

.تفسير الآيات (36- 47):

{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
بعد ذلك الشوط البعيد المديد في أرجاء الكون، وفي نواميس الوجود، وفي سنن الدعوات، وفي مصائر البشر، وفي مصارع الغابرين.. يرتد السياق إلى مثل ما بدأ به في مطلع السورة عن استقبال المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الوحي؛ واستهزائهم به وإصرارهم على الشرك..
ثم يتحدث عن طبيعة الإنسان العجول، واستعجالهم بالعذاب. فيحذرهم ما يستعجلون به. وينذرهم عاقبة الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعرض لهم مشهداً من تقلص ظلال الغالبين المسيطرين في الدنيا. ومشهداً من عذاب المكذبين في الآخرة.
ويختم الشوط بدقة الحساب والجزاء في يوم القيامة. فيربط الحساب والجزاء بنواميس الكون وفطرة الإنسان وسنة الله في حياة البشر وفي الدعوات..
{وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}.
إن هؤلاء الكفار يكفرون بالرحمن، خالق الكون ومدبره، ليستنكرون على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم الأصنام بالسوء، بينما هم يكفرون بالرحمن دون أن يتحرجوا أو يتلوموا.. وهو أمر عجيب جد عجيب!
وإنهم ليلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزء، يستكثرون عليه أن ينال من أصنامهم تلك: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} ولا يستكثرون على أنفسهم وهم عبيد من عبيد الله أن يكفروا به، ويعرضوا عما أنزل لهم من قرآن.. وهي مفارقة عجيبة تكشف عن مدى الفساد الذي أصاب فطرتهم وتقديرهم للأمور!
ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب؛ ويحذرهم من عاقبته. والإنسان بطبعه عجول:
{خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}..
{خلق الإنسان من عجل}.. فالعجلة في طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائماً إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد ان يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه. ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر واطمئنان.
وهؤلاء المشركون كانوا يستعجلون بالعذاب، ويسألون متى هذا الوعد. الوعد بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا.. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهداً من عذاب الآخرة، ويحذرهم ما أصاب المستهزئين قبلهم من عذاب الدنيا:
{لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}.
لو يعلمون ما سيكون لكان لهم شأن غير شأنهم، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم.. فلينظروا ماذا سيكون.
ها هم أولاء تنوشهم النار من كل جانب، فيحاولون في حركة مخبلة يرسمها التعبير من وراء السطور أن يكفوا النار عن وجوههم وعن ظهورهم، ولكنهم لا يستطيعون. وكأنما تلقفتهم النار من كل جانب، فلا هم يستطيعون ردها، ولا هم يؤخرون عنها، ولا هم يمهلون إلى أجل قريب.
وهذه المباغتة جزاء الاستعجال. فلقد كانوا يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} فكان الرد هو هذه البغتة التي تذهل العقول، وتشل الإرادة، وتعجزهم عن التفكير والعمل، وتحرمهم مهلة الإنظار والتأجيل.
ذلك عذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فقد حل بالمستهزئين قبلهم. فإذا كانوا هم لم يقدر عليهم عذاب الاستئصال، فعذاب القتل والأسر والغلب غير ممنوع. وليحذروا الاستهزاء برسولهم. وإلا فمصير المستهزئين بالرسل معروف، جرت به السنة التي لا تتخلف وشهدت به مصارع المستهزئين.
أم إن لهم من يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون الله؟
{قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصبحون}.
إن الله هو الحارس على كل نفس بالليل والنهار. وصفته هي الرحمة الكبرى، وليس من دونه راع ولا حام. فاسألهم: هل لهم حارس سواه؟
وهو سؤال للإنكار، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولا راعي لهم سواه: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون}.
ثم يعيد عليهم السؤال في صورة أخرى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} فتكون هي التي تحرسهم إذن وتحفظهم؟ كلا فهؤلاء الآلهة {لا يستطيعون نصر أنفسهم} فهم من باب أولى لا يستطيعون نصر سواهم. {ولا هم منا يصحبون} فيستمدوا القوة من صحبة القدرة لهم كما استمدها هارون وموسى وربهما يقول لهما: {إنني معكما أسمع وأرى} إن هذه الآلهة مجردة من القوة بذاتها؛ وليس لها مدد من الله تستمد منه القوة. فهي عاجزة عاجزة.
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل.. يضرب السياق عن مجادلتهم؛ ويكشف عن علة لجاجتهم؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب، وهو يواجهها إلى تأمل يد القدرة، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير، بعد السعة والمنعة والسلطان!
{بل متعنا هؤلاء وآبآءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون}..
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم.