فصل: تفسير الآيات (27- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم}..
لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه. فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. والعذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيراً. والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع؛ ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة. والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
{إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}..
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
{إذ تلقونه بألسنتكم}.. لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم}.. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. {وتحسبونه هيناً} أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية؛ وأن تتهموا صحابياً مجاهداً في سبيل الله. وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلته بربه، ورعاية الله له.. {وتحسبونه هيناً}.. {وهو عند الله عظيم}.. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء.
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، وأن تتحرج من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضوعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
{ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا.
سبحانك هذا بهتان عظيم}..
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت.. عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم:
{يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين}..
{يعظكم}.. في أسلوب التربية المؤثر. في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار. مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً}.. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: {إن كنتم مؤمنين}.. فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف، وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:
{ويبين الله لكم الآيات}.. على مثال ما بين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء: {والله عليم حكيم} يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف؛ ويعلم مداخل القلوب، ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها، وتدبير أمرها، ووضع النظم والحدود التي تصلح بها..
ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلف عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله، مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
والذين يرمون المحصنات وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها.. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثم يعقب بقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.. ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته:
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم}.
إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته.. ذلك ما وقاهم السوء.. ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان. وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم. وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم}..
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن، ويرتجف لها وجدانه، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}.. وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه. وهو نموذج منفر شنيع.
وإن الإنسان لضعيف، معرض للنزعات، عرضة للتلوث. إلا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه.
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشآء}..
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه. ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر. والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكيه. ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد {والله سميع عليم}..
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب:
{ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}..
نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه. وهو قريبة. وهو من فقراء المهاجرين.
وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً.
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم بعضهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، وإن كانوا قد أخطأوا وأساءوا..
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه. فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانيه ذلك السؤال الموحي: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على منطق البيئة. وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله. فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبداً. ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبداً نظيفاً طاهراً زكياً مشرقاً بالنور..
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به. إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبيّ فلا سماحة ولا عفو. ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
{إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين}..
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها؛ وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهن من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنان لا يحذرن شيئاً، لأنهن لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله لهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة. ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم}.. فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.
{يؤمئذ يوفيهم الله دينهم الحق}.. ويجزيهم جزاءهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق. ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}.

.تفسير الآيات (27- 34):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
إن الإسلام كما أسلفنا لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية. ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة..
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة. مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة..
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون.. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات.
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء. فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء.. وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء.
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام.
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيهآ أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}..
لقد جعل الله البيوت سكناً، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم. وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان، يجعل أعينهم تقع على عورات؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات؛ وتهيِّئ الفرصة للغواية، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.