فصل: تفسير الآيات (49- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فأما النبي الذي يبلغهم اختيار الله لهم؛ ويحقق بسنته العملية ما اختاره الله وشرعه للعباد، فيلتفت السياق التفاتة كذلك إلى بيان وظيفته وفضله على المؤمنين في هذا المقام:
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}..
فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أن يكون {شاهداً} عليهم؛ فليعلموا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور، ولا تبدل، ولا تغير. وأن يكون {مبشراً} لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران، ومن فضل وتكريم. وأن يكون {نذيراً} للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال، فلا يؤخذوا على غرة، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار. {وداعياً إلى الله}.. لا إلى دنيا، ولا إلى مجد، ولا إلى عزة قومية، ولا إلى عصبية جاهلية، ولا إلى مغنم، ولا إلى سلطان أو جاه. ولكن داعياً إلى الله. في طريق واحد يصل إلى الله {بإذنه}.. فما هو بمبتدع، ولا بمتطوع، ولا بقائل من عنده شيئاً. إنما هو إذن الله له وأمره لا يتعداه. {وسراجاً منيراً}.. يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير الطريق، نوراً هادئاً هادياً كالسراج المنير في الظلمات.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور. جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود، ولعلاقة الوجود بالخالق، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه؛ وللمنشأ والمصير، والهدف والغاية، والطريق والوسيلة.

.تفسير الآيات (49- 62):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}
هذا الشوط من السورة يتضمن في أوله حكماً عاماً من أحكام القرآن التشريعية في تنظيم شؤون الأسرة. ذلك حكم المطلقات قبل الدخول. يجيء بعده أحكام خاصة لتنظيم حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياته الزوجية الخاصة مع نسائه وعلاقات نسائه كذلك ببقية الرجال، وعلاقة المسلمين ببيت الرسول. وكرامة الرسول وبيته على الله وعلى ملائكته والملأ الأعلى.. وينتهي بحكم عام يشترك فيه نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، يأمرهن فيه بإرخاء جلابيبهن عند الخروج لقضاء الحاجة حتى يتميزن بهذا الزي السابغ ويعرفن، فلا يتعرض لهن ذوو السيرة السيئة من المنافقين والمرجفين والفساق الذين كانوا يتعرضون للنساء في المدينة! ويختم بتهديد هؤلاء المنافقين والمرجفين بالإجلاء عن المدينة ما لم ينتهوا عن إيذاء المؤمنات وإشاعة الفساد..
وهذه التشريعات والتوجيهات طرف من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. فأما ما يختص بحياة الرسول الشخصية، فقد شاء الله أن يجعل حياة هذا البيت صفحة معروضة للأجيال، فضمنها هذا القرآن الباقي، المتلو في كل زمان ومكان؛ وهي في الوقت ذاته آية تكريم الله سبحانه لهذا البيت، الذي يتولى بذاته العلية أمره، ويعرضه للبشرية كافة في قرآنه الخالد على الزمان..
{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً}..
ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى:
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر، فلها نصف ذلك المهر المسمى. وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقاً.. وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة. فقرر أن لا عدة عليها. إذ أنه لم يكن دخول بها. والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق، كي لا تختلط الأنساب، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة. فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة، ولا عدة إذن ولا انتظار: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.. {فمتعوهن} إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية.
{وسرحوهن سراحاً جميلاً}.. لا عضل فيه ولا أذى. ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة.
وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة.
بعد ذلك يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يحل له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعاً: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء، تزوج بكل منهن لمعنى خاص. عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر. وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تكريمهن، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب، إنما كان معنى التكريم لهن خالصاً في هذا الزواج. وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى، وعرفناه في قصتها. ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى، توثيقاً لعلاقته بالقبائل، وتكريماً لهما، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة.
وكن قد أصبحن أمهات المؤمنين ونلن شرف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير. فكان صعباً على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء. وقد نظر الله إليهن، فاستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك القيد، وأحل له استبقاء نسائه جميعاً في عصمته، وجعلهن كلهن حلاً له، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحداً، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى. فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.. وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات:
{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكي لا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك.
ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيباً}..
ففي الآية يحل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أنواع النساء المذكورات فيها ولو كن فوق الأربع مما هو محرم على غيره. وهذه الأنواع هي: الأزواج اللواتي أمهرهن. وما ملكت يمينه إطلاقاً من الفيء، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن إكراماً للمهاجرات وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي. إن أراد النبي نكاحها (وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج، والأرجح أنه زوّج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين) وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعاً. فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم. ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه.
ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك. ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء.. وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد. ثم يعود.. {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن}.. فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه. {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً}.
ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلاً، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم:
{لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} لا يستثني من ذلك {إلا ما ملكت يمينك}.. فله منهن ما يشاء.. {وكان الله على كل شيء رقيباً}.. والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب.
وقد روت عائشة رضي الله عنها أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتركت له حرية الزواج. ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة.
فكن هن أمهات المؤمنين..
بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم وبنسائه أمهات المؤمنين في حياته وبعد وفاته كذلك. ويواجه حالة كانت واقعة، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته وفي نسائه، فيحذرهم تحذيراً شديداً، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته. ويهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر:
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً}..
روى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم. فأرسلت على الطعام داعياً. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون. ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه. فقلت: يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه. قال: «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاث رهط يتحدثون في البيت. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته». قالت: وعليك السلام ورحمة الله. كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك. فتقرى حجر نسائه، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن كما قالت عائشة. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء. فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا. فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه. أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
والآية تتضمن آداباً لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة.
وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاماً يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم وأهله. وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي زينب بنت جحش جالسة وجهها إلى الحائط! والنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم! حتى تولى الله سبحانه عنه الجهر بالحق {والله لا يستحيي من الحق}.
ومما يذكر أن عمر رضي الله عنه بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب؛ وكان يتمناه على ربه. حتى نزل القرآن الكريم مصدقاً لاقتراحه مجيباً لحساسيته!
من رواية للبخاري بإسناده عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله. يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب..