فصل: تفسير الآيات (22- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق. وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع سليمان في ملك عظيم، وفي خير عميم. ذلك إذ يقص الهدهد على سليمان: {إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله} وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين. فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم.
وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طاب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون:
{لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}..
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن؛ وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق، فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سداً به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها وفق حاجتهم. فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم. وقد عرف باسم سد مأرب.
وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب. وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له}...
وذكروا بالنعمة. نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات.
{بلدة طيبة ورب غفور}..
سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء. وسماحة في السماء بالعفو والغفران. فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران؟. ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا:
{فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}..
أعرضوا عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه؛ وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت.
وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة:
{وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}..
والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك. والأثل شجر يشبه الطرفاء. والسدر النبق. وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل!
{ذلك جزيناهم بما كفروا}..
والأرجح أنه كفران النعمة..
{وهل نجازي إلا الكفور}..
وكانوا إلى هذا الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم. ضيق الله عليهم في الرزق، وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة؛ ولكنه لم يمزقهم ولم يفرقهم. وكان العمران ما يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة: مكة في الجزيرة، وبيت المقدس في الشام. فقد كانت اليمن ما تزال عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة. والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون:
{وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدّرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين}..
وقيل كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام. فكان السفر فيها محدود المسافات، مأموناً على المسافرين. كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب المحطات في الطريق.
وغلبت الشقوة على سبأ، فلم ينفعهم النذير الأول؛ ولم يوجههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء. بل دعوا دعوة الحمق والجهل:
{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا}..
تطلبوا الأسفار البعيدة المدى؛ التي لا تقع إلا مرات متباعدة على مدار العام. لا تلك السفرات القصيرة المتداخلة المنازل، التي لا تشبع لذة الرحلات! وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس:
{وظلموا أنفسهم}..
واستجيبت دعوتهم، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر:
{فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق}..
شردوا ومزقوا؛ وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل؛ وعادوا أحاديث يرويها الرواة، وقصة على الألسنة والأفواه. بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة.
{إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}..
يذكر الصبر إلى جوار الشكر.. الصبر في البأساء. والشكر في النعماء. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
هذا فهم في الآية. وهناك فهم آخر. فقد يكون المقصود بقوله: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة}.. أي قرى غالبة ذات سلطان. بينما تحول سبأ إلى قوم فقراء، حياتهم صحراوية جافة. وكثرت أسفارهم وانتقالاتهم وراء المراعي ومواضع الماء. فلم يصبروا على الابتلاء. وقالوا: {ربنا باعد بين أسفارنا}.. أي قلل من أسفارنا فقد تعبنا. ولم يصحبوا هذا الدعاء باستجابة وإنابة لله تستحق استجابته لدعائهم. وكانوا قد بطروا النعمة، ولم يصبروا للمحنة. ففعل الله بهم ما فعل، ومزقهم كل ممزق؛ فأصبحوا أثراً بعد عين، وحديثاً يروى وقصة تحكى.. ويكون التعقيب: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}.. مناسباً لقلة شكرهم على النعمة، وقلة صبرهم على المحنة.. وهو وجه رأيته في الآية والله أعلم بمراده.

.تفسير الآيات (22- 27):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
إنها جولة قصيرة حول قضية الشرك والتوحيد. ولكنها جولة تطوّف بالقلب البشري في مجال الوجود كله. ظاهره وخافيه. حاضره وغيبه. سمائه وأرضه. دنياه وآخرته. وتقف به مواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال؛ ويغشاها الذهول من الجلال. كما تقف به أمام رزقه وكسبه، وحسابه وجزائه. وفي زحمة التجمع والاختلاط، وفي موقف الفصل والعزل والتميز والانفراد.. كل أولئك في إيقاعات قوية، وفواصل متلاحقة، وضربات كأنها المطارق: قل.. قل.. قل.. كل قولة منها تدمغ بالحجة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}..
إنه التحدي في مجال السماوات والأرض على الإطلاق:
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله}..
ادعوهم. فليأتوا. وليظهروا. وليقولوا أو لتقولوا أنتم ماذا يملكون من شيء في السماوات أو في الأرض جل أو هان؟
{لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}..
ولا سبيل لأن يدعوا ملكية شيء في السماوات أو في الأرض. فالمالك لشيء يتصرف فيه وفق مشيئته. فماذا يملك أولئك المزعومون من دون الله؟ وفي أي شيء يتصرفون تصرف المالك في هذا الكون العريض؟
لا يملكون في السماوات والأرض مثقال ذرة ملكية خالصة، ولا على سبيل المشاركة:
{وما لهم فيهما من شرك}..
والله سبحانه لا يستعين بهم في شيء. فما هو في حاجة إلى معين:
{وما له منهم من ظهير}..
ويظهر أن الآية هنا تشير إلى نوع خاص من الشركاء المزعومين. وهم الملائكة الذين كانت العرب تدعوهم بنات الله؛ وتزعم لهم شفاعة عند الله. ولعلهم ممن قالوا عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.. ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية. وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال:
{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}..
فالشفاعة مرهونة بإذن الله. والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته. فأما الذين يشركون به فليسوا أهلاً لأن يأذن بالشفاعة فيهم، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء!
ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة؛ وهو مشهد مذهل مرهوب:
{حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}..
إنه مشهد في اليوم العصيب. يوم يقف الناس، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام. ويطول الانتظار. ويطول التوقع. وتعنو الوجوه. وتسكن الأصوات. وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام.
ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم.
ويتوقف إدراكهم عن الإدراك.
{حتى إذا فزّع عن قلوبهم}.. وكشف الفزع الذي أصابهم، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم. {قالوا ماذا قال ربكم} يقولها بعضهم لبعض. لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى. {قالوا الحق}.. ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة: {قالوا الحق}.. قال ربكم: الحق. الحق الكلي. الحق الأزلي. الحق اللدني. فكل قوله الحق. {وهو العلي الكبير}.. وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب..
وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة!
فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب. وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم. فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله، شفعاء في من يشرك بالله؟!
ذلك هو الإيقاع الأول، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير.. ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به، ويغفلون عن مصدره، الدال على وحدة الخالق الرازق. الباسط القابض، الذي ليس له شريك:
{قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}..
والرزق مسألة واقعة في حياتهم. رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور.. ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آناً بعد آن.. ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز.. وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان..
{قل من يرزقكم من السماوات والأرض}..
{قل الله}..
فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه.
قل: الله. ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله. فأحد كما لابد مهتد وأحد كما لابد ضال. ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال:
{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}..
وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: إن أحدنا لابد أن يكون على هدى، والآخر لابد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام!
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام، المستكبرين على الإذعان والاستسلام، وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة..
ومنه كذلك الإيقاع الثالث، الذي يقف كل قلب أمام عمله وتبعته، في أدب كذلك وقصد وإنصاف:
{قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون}.