فصل: سورة فاطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برواسب غامضة من آثار الماضي، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح، وليس لها قوام متماسك. ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك. أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك:
{ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم}..
ولكن هذا وحده لا يكفي. فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس. ومن ثم اتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله:
{وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى}..
والإفك هو الكذب والافتراء؛ ولكنهم يزيدونه توكيداً: {ما هذا إلا إفك مفترى}..
ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي.
ثم مضوا يصفون القرآن ذاته:
{وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين}..
فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب، فلا يكفي أن يقولوا: إنه مفترى. فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب.
فقالوا: إنه سحر مبين!
فهي سلسلة من الاتهامات، حلقة بعد حلقة، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب. ولا دليل لهم على دعواهم. ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير. أما الذين كانوا يقولون هذا القول وهم الكبراء والسادة فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم، فوق مقدور البشر، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر القرآن؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس!
وقد كشف القرآن أمرهم، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتاباً يقيسون به الكتب؛ ويعرفون به الوحي؛ فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتاباً وليس وحياً، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول. فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون:
{وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير}!
ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل. وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون. من علم، ومن مال، ومن قوة، ومن تعمير.. فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير. أي الهجوم المدوي المنكر الشديد:
{وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير}..
ولقد كان النكير عليهم مدمراً مهلكاً. وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة. فهذا التذكير يكفي. وهذا السؤال التهكمي {فكيف كان نكير} سؤال موح يلمس المخاطبين. وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير!
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}..
إنها دعوة إلى القيام لله. بعيداً عن الهوى. بعيداً عن المصلحة. بعيداً عن ملابسات الأرض. بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله. بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة.
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة؛ ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.
دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه.
وهي واحدة.. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله.
لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
{أن تقوموا لله مثنى وفرادى}.. مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء.. وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق.
{ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}.. فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين.
{إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}..
لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة. لينقذ من يستمع. كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير فوق أنه صادق بارع موح مثير..
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فنادى ثلاث مرات: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم. فبعثوا رجلاً يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه. أيها الناس أتيتم. أيها الناس أتيتم. أيها الناس أتيتم».
وروي بهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة جميعاً. إن كادت لتسبقني».
ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي. يتبعه الإيقاع الثاني:
{قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد}..
دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادئ البريء.. ما بصاحبكم من جنة.. ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية:
{قل ما سألتكم من أجر فهو لكم}!
خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكم. وفيه توجيه. وفيه تنبيه.
{إن أجري إلا على الله}..
هو الذي كلفني. وهو الذي يأجرني. وأجره هو الذي أتطلع إليه. ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير.
{وهو على كل شيء شهيد}..
يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء. وهو عليّ شهيد. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول.
ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه:
{قل إن ربي يقذف بالحق علاّم الغيوب}.
وهذا الذي جئتكم به هو الحق. الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك. وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق.. يقذف بها الله {علاّم الغيوب} فهو يقذف بها عن علم، ويوجهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق. فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور!
ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته:
{قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}..
جاء هذا الحق في صورة من صوره، في الرسالة، وفي قرآنها، وفي منهجها المستقيم. قل: جاء الحق. أعلن هذا الإعلان. وقرر هذا الحدث. واصدع بهذا النبأ. جاء الحق. جاء بقوته. جاء بدفعته. جاء باستعلائه وسيطرته {وما يبدئ الباطل وما يعيد}.. فقد انتهى أمره. وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال.
إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال.
وإنه لكذلك. فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح. ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق. إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح.
والإيقاع الأخير:
{قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي إنه سميع قريب}..
فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتدياً فإن الله هو الذي هداني بوحيه، لا املك لنفسي منه شيئاً إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.
{إنه سميع قريب}..
وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية. كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة؛ وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره. في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حياً، واقعاً، بسيطاً، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.
{إنه سميع قريب}..
وأخيراً يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف:
{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به}.

.سورة فاطر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها. أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد. فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها. إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود، وروعة هذا الكون؛ وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه، المتناثرة في صفحاته؛ وليتذكر آلاء الله، ويشعر برحمته ورعايته؛ وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة؛ وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله، وآثار يده في أطواء الكون، وفي أغوار النفس، وفي حياة البشر، وفي أحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة.. ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك، ويتأثر تأثر الأحياء.
والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات. يصعب تقسيمها إل فصول متميزة الموضوعات. فهي كلها موضوع واحد. كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث. فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع، إلى الإيمان والخشوع والإذعان.
والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة. وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها؛ وتقبضها وتبسطها، وتشدها وترخيها. بلا معقب ولا شريك ولا ظهير.
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة، وتطرد إلى ختامها..
هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}..
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض. بلا معقب ولا شريك:
{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}..
والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} {إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير} وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} والعزة كلها لله ومنه وحده تستمد: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير}
وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان: