فصل: تفسير الآيات (4- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس، قادراً على أن ينشئ بآياته تلك أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله.. ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب، فتأخذها جداً، وتتمثلها حقاً. حقاً تحسه، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار..
ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية..
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة.. واجهتني في ذات اللحظة. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيراً. ومررت بها من قبل كثيراً. ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا.. نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها. فانظر كيف تكون!
إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته.

.تفسير الآيات (4- 8):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}
انتهى المقطع الأول من السورة بتلك الإيقاعات الثلاثة العميقة، بتلك الحقائق الكبيرة الأصيلة: حقيقة وحدانية الخالق المبدع. وحقيقة الاختصاص بالرحمة. وحقيقة الانفراد بالرزق.
وفي المقطع الثاني يتجه أولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له، ويرجع الأمر كله إلى الله. ويتجه ثانياً إلى الناس يهتف بهم: إن وعد الله حق، ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق الكبرى، ويذهب بهم إلى السعير وهو عدوهم الأصيل ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء المخدوعين بالعدو الأصيل! ويتجه أخيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى والضلال بيد الله. والله عليم بما يصنعون.
يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
{وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور}..
تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة؛ فإن يكذبوك فلا عليك من التكذيب، فلست بدعاً من الرسل: {فقد كذبت رسل من قبلك} والأمر كله لله، وإليه ترجع الأمور، وما التبليغ والتكذيب إلا وسائل وأسباب. والعواقب متروكة لله وحده، يدبر أمرها كيف يريد.
ويهتف بالناس:
{يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}..
إن وعد الله حق.. إنه آت لا ريب فيه. إنه واقع لا يتخلف. إنه حق والحق لابد أن يقع، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد. ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع. {فلا تغرنكم الحياة الدنيا}. ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم {ولا يغرنكم بالله الغرور}.. والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم {فاتخذوه عدواً} لا تركنوا إليه، ولا تتخذوه ناصحاً لكم، ولا تتبعوا خطاه، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟!
إنها لمسة وجدانية صادقة. فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات. يتحفز لدفع الغواية والإغراء؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم!
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير. حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان.
حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً.
ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفز ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان، وحالة المؤمنين الذين طاردوه:
{الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير}..
ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله؛ ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه:
{أمن زين له سوء عمله فرآه حسناً...}..
هذا هو مفتاح الشر كله.. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً. أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها. ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، لأنه واثق من أنه لا يخطئ! متأكد أنه دائماً على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته. لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر. وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه. لأنه حسن في عين نفسه. مزين لنفسه وحسه. لا مجال فيه للنقد، ولا موضع فيه للنقصان!
هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان؛ وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال. فإلى البوار!
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب. فلا يأمن مكر الله. ولا يأمن تقلب القلب. ولا يأمن الخطأ والزلل. ولا يأمن النقص والعجز. فهو دائم التفتيش في عمله. دائم الحساب لنفسه. دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله.
وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار.
إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة:
{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً}..
إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير. ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين. هو هذا الغرور. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق. ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء. ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطئ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح!
إنه باب الشر. ونافذة السوء. ومفتاح الضلال الأخير..
ويدع السؤال بلا جواب.. {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً}.. ليشمل كل جواب. كأن يقال: أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟ أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟.. إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال.

.تفسير الآيات (9- 14):

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}
هذا المقطع الثالث جولات متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلائل الإيمان؛ ويتخذ من مشاهده المعروضة للبصائر والأبصار أدلته وبراهينه.
وهذه الجولات المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلال، وعن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض المعرضين. وتفويض هذا الأمر لصاحبه العليم بما يصنعون.. فمن شأن أن يؤمن فهذه أدلة الإيمان معروضة في صفحة الكون حيث لا خفاء فيها ولا غموض. ومن شاء أن يضل فهو يضل عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب.
وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة. وفيه دليل على البعث والنشور. وفي خلق الإنسان من تراب، ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة. وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في كتاب مبين.
وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة. وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان.
وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران حجة. وفيهما على التقدير والتدبير دليل. وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب.
هذه كلها حجج ودلائل معروضة في المجال الكوني الفسيح. وهذا هو الله خالقها ومالكها. والذين يدعون من دون الله ما يملكون من قطمير. ولا يسمعون ولا يستجيبون. ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلاّل. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور}..
وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن. مشهد الرياح، تثير السحب؛ تثيرها من البحار، فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار؛ والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً؛ ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة، فتذهب يميناً وشمالاً إلى حيث يريد الله لها أن تذهب، وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات، حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل.. إلى بلد ميت.. مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب. والماء حياة كل شيء في هذه الأرض. {فأحيينا به الأرض بعد موتها}.. وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها. وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة. وهو يقع بين أيديهم في الدنيا.. {كذلك النشور}.. في بساطة ويسر، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد!
هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس، لا سبيل إلى المكابرة فيه. ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقاً حين تتملاه وهي يقظى؛ ويلمس المشاعر لمساً موحياً حين تتجه إلى تأمله.
وهو مشهد بهيج جميل مثير. وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء. ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء. والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم، مما يمرون عليه غافلين. وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون.
ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة شيئاً إلى معنى نفسي ومطلب شعوري.
ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء. ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله. كما يعرض الصفحة المقابلة. صفحة التدبير السيّئ والمكر الخبيث، وهو يهلك ويبور:
{من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور}..
ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات، والكلمة الطيبة والعمل الصالح، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة. وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم. {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة؛ وما فيهما من حياة ونماء. والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء!
وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة. وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان. العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال. مما جعلهم يقولون: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} فالله يقول لهم:
{من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً}
وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً!
إن العزة كلها لله. وليس شيء منها عند أحد سواه. فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره. ليطلبها عند الله. فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد، ولا في أي كنف، ولا بأي سبب {فلله العزّة جميعاً}..