فصل: سورة الزمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر. لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود؛ ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود؛ ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضاً واقعياً، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ الذين يهمهم دائماً أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ.. ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان..
ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم واختياره من بينهم، لينزل عليه الذكر. وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية. فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جداً. وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وأن محمداً ليس إلا حاملاً لهذا النبأ ومبلغاً؛ وأنه لم يبتدعه ابتداعاً؛ وما كان له أن يعلم ما وراءه لولا تعليم الله إياه؛ وما كان حاضراَ ما دار في الملأ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله:
{ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين}.
وعند هذا يأخذ السياق في عرض قصة البشرية؛ وما دار في الملأ الأعلى بشأنها منذ البدء. مما يحدد خط سيرها، ويرسم أقدارها ومصائرها. وهو ما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه وينذر به في آخر الزمان:
{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}..
وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة. وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ولا ندري عن كنههم إلا ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله.
ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه. إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن.
لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين. كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين. فمن الطين كل عناصرها. فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر. وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً. من الطين كل عناصر جسده. فهو من أمه الأرض. ومن عناصرها تكون. وهو يستحيل إلى تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول؛ وتفارقه مع آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في الحياة.
ونحن نجهل كنه هذه النفخة؛ ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بخاصية القابلية للرقي العقلي والروحي. هي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه يتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول، ليتصل بالمجهول للحواس والعقول.
وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها سائر الأحياء في هذه الأرض. وقد عاصر مولد الإنسان الأول أجناس وأنواع شتى من الأحياء. ولم يقع في هذا التاريخ الطويل أن ارتقى نوع أو جنس ولا أحد أفراده عقلياً أو روحياً. حتى مع التسليم بوقوع الارتقاء العضوي.
لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض؛ وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات.
لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة. ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة، واستمد من هذا المصدر في استقامة. فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطراً على سلامة اتجاهه. إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي. ولو تضخمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة.
وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة.. ما كان له أن ينال شيئاً من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة.. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء. وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم. ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه.
فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم. فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد.. من طين!
ولقد استجاب الملائكة لأمر ربهم كما هي فطرتهم:
{فسجد الملائكة كلهم أجمعون}..
كيف؟ وأين؟ ومتى؟ كل أولئك غيب من غيب الله. ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئاً. هذا المغزى الذي يبرز في تقدير قيمة هذا الإنسان المخلوق من الطين؛ بعدما ارتفع عن أصله بتلك النفخة من روح الله العظيم.
سجد الملائكة امتثالاً لأمر الله. وشعوراً بحكمته فيما يراه.
{إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين}..
فهل كان إبليس من الملائكة؟ الظاهر أنه لا. لأنه لو كان من الملائكة ما عصى. فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.. وسيجيء أنه خلق من نار. والمأثور أن الملائكة خلق من نور.. ولكنه كان مع الملائكة وكان مأموراً بالسجود. ولم يخص بالذكر الصريح عنه الأمر إهمالاً لشأنه بسبب ما كان من عصيانه. إنما عرفنا أن الأمر كان قد وجه إليه من توجيه التوبيخ إليه:
{قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين}..
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ والله خالق كل شيء. فلابد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه. هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية.
أستكبرت؟ عن أمري {أم كنت من العالين} الذين لا يخضعون؟
{قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}!
إنه الحسد ينضح من هذا الرد. والغفلة أو الإغفال للعنصر الكريم الزائد على الطين في آدم، والذي يستحق هذا التكريم. وهو الرد القبيح الذي يصدر عن الطبيعة التي تجردت من الخير كله في هذا الموقف المشهود.
هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح:
{قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين}..
ولا نملك أن نحدد عائد الضمير في قوله: {منها} فهل هي الجنة؟ أم هل هي رحمة الله.. هذا وذلك جائز. ولا محل للجدل الكثير. فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم.
هنا تحول الحسد إلى حقد. وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس:
{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون}..
واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب، وأن يمنحه الفرصة التي أراد:
{قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}..
وكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق في حقده:
{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}..
وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه.

.سورة الزمر:

.تفسير الآيات (1- 7):

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد. وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة. ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها؛ يعرض في صور شتى.
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص...} إلخ.. وتترد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً. وإما مفهوماً..
نصاً كقوله: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه...} إلخ أو قوله: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} ومفهوماً كقوله: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} أو قوله: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة. ذلك كقوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة. إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها. وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها. ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة.
مثل هذه الإشارات: {أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {أليس في جهنم مثوى للكافرين} {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين..} وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً، وتظلل جوها بظلال الآخرة.
أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة..
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار}..
ومشهد آخر في وسطها: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين.
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر، وفي أغوار نفوسهم، تتوزع في ثناياها.
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون}.
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل...} إلخ {فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة..} ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا.
حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} هذا الظل يتناسق مع جو السورة، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها. فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش. ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته. نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب، والتخويف منه: {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم} {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون} ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع.