فصل: تفسير الآيات (37- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض، أو بسوء الأدب، أو بالتبجح في الإنكار. فهو إنما يتقدم بالحسنة. فهو في المقام الرفيع؛ وغيره يتقدم بالسيئة. فهو في المكان الدون:
{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}.
وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة والصبر والتسامح، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين:
{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.

.تفسير الآيات (37- 54):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
هذا شوط جديد مع القلب البشري في مجال الدعوة. يبدأ بجولة مع آيات الله الكونية: الليل والنهار والشمس والقمر، وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله. وهما من خلق الله. ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه. ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة، كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله. إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية، ويجادلون في آياته القرآنية؛ وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية. وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة. ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان، وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر. ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله. وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك..
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}..
وهذه الآيات معروضة للأنظار، يراها العالم والجاهل. ولها في القلب البشري روعة مباشرة. ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية. فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية. بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة، وفي الفطرة، وفي التكوين. فهو منها وهي منه. تكوينه تكوينها، ومادته مادتها، وفطرته فطرتها، وناموسه ناموسها، وإلهه إلهها.. فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق!
لهذا يكتفي القرآن غالباً بتوجيه القلب إليها، وإيقاظه من غفلته عنها، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة، فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور.
وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا. فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة. ويقول لهم: إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر.. {واسجدوا لله الذي خلقهن} فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين. والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه. ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً: {خلقهن} باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان!
فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات، وبعد هذا البيان، فلن يقدم هذا أو يؤخر؛ ولن يزيد هذا أو ينقص.
فغيرهم يعبد غير مستكبر:
{فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}..
وأقرب ما يرد على القلب عند ذكر {الذين عند ربك} الملائكة. ولكن قد يكون هناك غير الملائكة من عباد الله المقربين؛ وهل نعلم نحن شيئاً إلا اليسير الضئيل؟!
هؤلاء. الذين عند ربك. وهم أرفع وأعلى. وهم أكرم وأمثل. لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض. ولا يغترون بقرب مكانهم من الله. ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً {وهم لا يسأمون}.. فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع؟
وهنالك الأرض أمهم التي تقوتهم الأرض التي منها خرجوا وإليها يعودون. الأرض التي هم على سطحها نمال تدب ولا طعام لها ولا شراب إلا ما تستمده منها.. هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة:
{ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}..
ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع. فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها. فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة. ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح، فجيء بالأرض في هذا المشهد، شخصاً من شخوص المشهد، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة..
ونستعير هنا صفحة من كتاب التصوير الفني في القرآن عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير: عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر. وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها {هامدة}، ومرة بأنها {خاشعة}. وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير. فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان: لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو: وردت {هامدة} في هذا السياق: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شياً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} ووردت {خاشعة} في هذا السياق: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون.
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}.
وعند التأمل السريع في هذين السياقين، يتبين وجه التناسق في {هامدة} و{خاشعة}. إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض {هامدة} ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، يتسق معه تصوير الأرض {خاشعة} فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت.
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا، الإنبات والإخراج، كما زاد هناك، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود. ولم تجئ {اهتزت وربت} هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك. إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها. وهذه الحركة هي المقصودة هنا، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً، وكل الأجزاء تتحرك من حوله. وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير الخ. الخ.
ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}..
ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة، ودليلاً كذلك على القدرة. ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول، والحياة حين تنبض من بين الموات، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور. والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق.
وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة؛ فيكفرون بها، أو يغالطون فيها:
{إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.
ويبدأ التهديد ملفوفاً ولكنه مخيف: {لا يخفون علينا}.. فهم مكشوفون لعلم الله. وهم مأخذون بما يلحدون، مهما غالطوا والتووا، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس.
ثم يصرح بالتهديد: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة}.. وهو تعريض بهم، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين.
وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.. ويا خوف من يترك ليعمل فليحد في آيات الله. والله بما يعمل بصير.
ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد:
{إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد}.
والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم. فلا يذكر الخبر: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم..} كأنما ليقال: إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها!
لذلك يترك النص خبر {إن} لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها:
{وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حيكم حميد}..
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب. وهو صادر من الله الحق. يصدع بالحق. ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟
وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز. محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره. يجده في روحه ويجده في نصه. يجده في بساطة ويسر. حقاً مطمئناً فطرياً، يخاطب أعماق الفطرة، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب.
وهو {تنزيل من حكيم حميد}.. والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق. والله الذي نزله خليق بالحمد. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير.
ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله؛ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل قبله. ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثاً واحداً، ترتبط به أرواحها وقلوبها، وتتصل به طريقها ودعوتها؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجر وارفة عميقة الجذور، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ:
{ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}..
إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة.. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس، والقوة، والصبر، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامه والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}.