فصل: سورة الذاريات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.سورة الذاريات:

.تفسير الآيات (1- 60):

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}
هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة.. من أمر الله.. في لفظ مبهم الدلالة، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله- تعالى على أمر: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}..
والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات.. مدلولاتها ليست متعارفة، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء: {والسماء ذات الحبك}.. يقسم بها الله تعالى. على أمر: {إنكم لفي قول مختلف}.. لا استقرار له ولا تناسق فيه، قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين..
هذه السورة: بافتتاحها على هذا النحو، ثم بسياقها كله، تستهدف أمراً واضحاً في سياقها كله.. ربط القلب البشري بالسماء؛ وتعليقه بغيب الله المكنون؛ وتخليصه من أوهاق الأرض، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله، والانطلاق إليه جملة، والفرار إليه كلية، استجابة لقوله في السورة: {ففروا إلى الله}.. وتحقيقاً لإرادته في عباده: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}..
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقط عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.. {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.. وإما تعريضاً كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل- أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة- بعجل سمين، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه، وبمجرد إلقاء السلام عليه، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة!
فتخليص القلب من أوهاق الأرض، وإطلاقه من إسار الرزق، وتعليقه بالسماء، ترف أشواقه حولها، ويتطلع إلى خالقها في علاه، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق، ويعوقه عن الفرار إلى الله. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الافتتاح، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها، وكان القسم بعده بالسماء، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضاً..
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة: {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. فهي صورة التطلع إلى الله، والتجرد له، والقيام في عبادته بالليل، والتوجه إليه في الأسحار.
ومع إرخاص المال، والتخلص من ضغطه، وجعل نصيب السائل والمحروم حقاً فيه.
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون}..
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة، وتمهيده للأرض في يسر، وخلقه ما فيها من أزواج، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}..
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس، ووظيفتهما الرئيسية الأولى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}..
فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء!
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط، وقصة موسى، وقصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم نوح، وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة: {إن ما توعدون لصادق} والذي أشار إليه في ختامها إنذاراً للمشركين: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون}.. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون}..
فالقصص في السورة- على هذا النحو- مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة الله، وتخليصه من جميع العوائق، ووصله بالسماء. بالإيمان أولاً واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم.
{والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}..
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة، بتلك العبارات الغامضة الدلالة، تلقي في الحس- كما تقدم- إيحاء خاصاً، وتلقي ظلاً معيناً، يعلق القلب بأمر ذي بال، وشأن يستحق الانتباه. وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات، والحاملات، والجاريات، والمقسمات..
قال ابن كثير في التفسير: قال شعبة بن الحجاج، عن سماك بن خالد بن عرعرة، أنه سمع علياً رضي الله عنه وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، أنه سمع علياً رضي الله عنه وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك.
فقام ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى: {والذاريات ذروا}؟ قال علي- رضي الله عنه: الريح. قال: {فالحاملات وقرا}؟ قال- رضي الله عنه-: السحاب. قال: {فالجاريات يسرا}؟ قال- رضي الله عنه-: السفن. قال: {فالمقسمات أمرا}؟ قال- رضي الله عنه-: الملائكة.
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وقد أحس عمر رضي الله عنه أنه يسأل عنها تعنتاً وعناداً فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة: ما يجد في نفسه مما يجد شيئاً.. وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها!
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم- ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك (كما قال ابن كثير).
أقسم الله- سبحانه- بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل. وبالسحاب الحاملات وقراً من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء. وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير. ثم بالملائكة المقسمات أمراً، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته، فتفصل في الشؤون المختصة بها، وتقسم الأمور في الكون بحسبها.
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله، يتخذها أداة لقدرته، وستاراً لمشيئته، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده. وهو يقسم بها- سبحانه- للتعظيم من شأنها، وتوجيه القلوب إليها، لتدبر ما وراءها من دلالة؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم. وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي.
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق، الذي يعنى سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه، وإعفائه من أثقاله. فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه.
أما الملائكة وتقسيمها للأمر، فإن الرزق أحد هذه القسم. ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى.
يقسم الله- سبحانه- بهذه الخلائق الأربع على: {إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}.. وقد وعد الله الناس: أنه مجازيهم بالإحسان إحساناً، ومجازيهم بالسوء سوءاً. وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض، فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لابد منه هناك! {وإن الدين لواقع}.. فالوعد صادق حتماً إما هنا وإما هناك.. ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطاً أو مقدراً- وفق مشيئته ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن.
ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها، وفي الوقت الذي يريده، وما يحتاج الأمر إلى قسم منه- سبحانه- إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها- كما تقدم- وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله- بارئ هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير- لابد صادق؛ وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لابد واقع. فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثاً ولا مصادفة ولا جزافاً.. وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتاً، ويوجه الحس إليها توجيهاً. فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية. ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطاباً مباشراً!
والقسم الثاني كذلك..
{والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك}..
يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب. كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات.. وقد تكون هذه إحدى هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح. وقد يكون هذا وضعاً دائماً لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة.
يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف، مضطرب لا قوام له ولا قرار، ولا ثبات له ولا استقرار، يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي، فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات. بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال. وكذلك الباطل دائماً أرض مرجرجة مهتزة؛ وتيه لا معالم فيه ولا نور؛ وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت، ولا ميزان دقيق. ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين؛ ويدب الخلاف بينهم والشقاق..
ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج: حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب.
ثم يستطرد فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة، لا يستندون فيها إلى حق أو يقين. فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين. ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون:
{قتل الخراصون.
الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون}..
والخرص: الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق. والله- سبحانه- يدعو عليهم بالقتل. فيا للهول! ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل! {قتل الخراصون} ويزيد أمرهم وضوحاً: {الذين هم في غمرة ساهون} فهم مغمورون بالأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون. والتعبير يلقي ظلاً خاصاً، يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يتبينون. كأنهم سكارى مذهولون!
ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح، الذي يراه ويوقن به كل واع غير مذهول؛ فهم {يسألون أيان يوم الدين}؟ يسألون هكذا، لا طلباً للعلم والمعرفة، ولكن استنكاراً وتكذيباً، واستعباداً لمجيئه، يعبر عنه لفظ {أيان} المقصود!