فصل: تفسير الآيات (285- 286):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}..
إن المدين- الذي عليه الحق- هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله.. ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرب الأجل، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته. والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن. فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر. ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي.. وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين- وهو يملي- أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى.. فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره. أو ضعيفاً- أي صغيراً أو ضعيف العقل- أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية.. فليملل ولي أمره القيم عليه.. {بالعدل}.. والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة. فربما تهاون الولي- ولو قليلاً- لأن الدين لا يخصه شخصياً. كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد.
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد، نقطة الشهادة:
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}..
إنه لابد من شاهدين على العقد- {ممن ترضون من الشهداء}- والرضى يشمل معنيين: الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة. والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد.. ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً. فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان.. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}.. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة.
فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء.. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة.. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة:
{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}..
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً. فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق. والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية، بدون تضرر أو تلكؤ. وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما.
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر. غرض عام للتشريع. يؤكد ضرورة الكتابة- كبر الدين أم صغر- ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً:
{ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}.
لا تسأموا.. فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته.. {ذلكم أقسط عند الله}.. أعدل وأفضل. وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره. {وأقوم للشهادة}. فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها. وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة. {وأدنى ألا ترتابوا}: أقرب لعدم الريبة. الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد.
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته. إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة.
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل.
أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة. وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها:
{إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم}.
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها. أما الإشهاد فموجَب. وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب. ولكن الأرجح هو ذاك.
والآن- وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة- على الوجوب وعلى الرخصة- فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل.. لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة. فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة.
{ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}.
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه. وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه. وهو احتياط لابد منه. لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة. فلابد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال. ثم- وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص- يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان:
{واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم}.
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام.. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً. فتيسيراً للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين:
{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة}.
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله. فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها:
{فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}.
والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه.
والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي. وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء.. وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان. ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر. والإئتمان خاص بهذه الحالة. والدائن والمدين كلاهما- في هذه الحالة- مؤتمن.
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة- عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد- لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه:
{ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}.
ويتكئ التعبير هنا على القلب. فينسب إليه الإثم. تنسيقاً بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة. فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب. ويعقب عليه بتهديد ملفوف. فليس هناك خاف على الله.
{والله بما تعملون عليم}.
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب!
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب!
{لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}..
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء. فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية.. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم.. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان. فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له. صنعة إلهية متكاملة متناسقة. تربية وتشريع. وتقوى وسلطان.. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان. فأنى تذهب شرائع الأرض. وقوانين الأرض، ومناهج الأرض، أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها. ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه. الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر.. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها. ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله.. وكانت الشقوة وكان البلاء!!
فأما نحن- نحن الذين نزعم الإسلام- فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟!

.تفسير الآيات (285- 286):

{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
هذا ختام السورة الكبيرة.. الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعاً ضخماً رحيباً من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود؛ وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها؛ ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى.. كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي.. إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.
هذا ختام السورة الكبيرة.. في آيتين اثنتين.. ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة. يصلح ختاماً لها. ختاماً متناسقاً مع موضوعاتها وجوها وأهدافها.
لقد بدأت السورة بقوله تعالى: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعاً.. وها هي ذي تختم بقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله...} وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب!
وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة.. كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم.. وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله- سبحانه- لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها- كما زعمت يهود عن ربها- ولا يتركها سدى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}..
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل؛ وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود؛ وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا...}.