فصل: سورة المنافقون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها».
وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى».
والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع وسائر نشاط المعاش بمجرد سماعهم للأذان:
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}..
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت:
{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}..
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب. وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلابد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض، ليخلو إلى ربه، ويتجرد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره، من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه!
ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله:
{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.. وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي. والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب. وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر. وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. وذكر الله لابد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة. ولكنه مع هذا لابد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد الممحض. كما توحي هاتان الآيتان.
وكان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني. فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين».. (رواه ابن أبي حاتم).. هذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جداً، في بساطة تامة، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك!
ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية. مما تصوره الآية الأخيرة في السورة:
{وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}..
عن جابر رضي الله عنه قال: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

.سورة المنافقون:

.تفسير الآيات (1- 11):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص المنافقون الدال على موضوعها.. ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين، ووصف أحوالهم ومكائدهم. فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحاً أو تصريحاً. ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم.
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب.
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم من صفة من صفات المنافقين، ولو من بعيد. وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله، والغفلة عن ذكره اشتغالاً بالأموال والأولاد، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات.
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريباً، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين.. هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها؛ وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدراً كبيراً؛ وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين.
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب: سيرة الرسول: صورة مقتبسة من القرآن الكريم لمؤلفه الأستاذ محمد عزة دروزة نقتطف منه فقرات كاشفة: وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام. ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهاراً، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ؛ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فراراً بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولاً، ثم إلى يثرب؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه، أو بالإغراء والتهويش؛ وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب..
أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفاً جداً. فالنبي صلى الله عليه وسلم استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصاراً أقوياء من الأوس والخزرج؛ ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه، ولم يبق تقريباً بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام.
ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به إما عن جهالة وغباء، وإما عن غيظ وحقد وعناد، لأنهم رأوا في قدوم النبي حداً لنفوذهم وسلطانهم موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار؛ وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم، وغدوا يرون في النبي رسول الله، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ونفوذه أن يظهروا علناً في نزعتهم وعدائهم، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام، والقيام بأركانه، والتضامن مع قبائلهم. وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه، وإذا كانوا وقفوا أحياناً مواقف علنية فيها كيد ودس، وعليها طابع من النفاق بارز، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط؛ ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتاً. وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم، وتحذر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة.
ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية، حتى لكأنه نضال قوي، يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة، وإن اختلفت الأدوار والنتائج؛ إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد، ودائرة الإسلام تتسع، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز؛ وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيراً متناسباً عكسياً مع ما كان من تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام، وتوطد عزته وسلطانه.
ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون، وخاصة في أوائل العهد، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبياً بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخاً كافياً؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان محوطاً بالمشركين الجاحدين من كل جانب، وأهل مكة خصومه الألداء، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى، والتضامن في موقف المعارضة والكيد، حتى ليمكن القول: إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم، وكفاه شرهم.
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله. وحلفهم كذباً ليصدقهم المسلمون، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم، ويخدعون المسلمين فيهم:
{إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون}..
فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان، لا يقصدون بها وجه الحق، إنما يقولونها للتقية، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين. فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها، ويداروا أنفسهم بقولها. ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة: {والله يعلم إنك لرسوله}.. {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}.
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه. فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين. ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقاً ولا يشهدون بها خالصي الضمير!
{اتخذوا أيمانهم جنة}.. وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم، أو عرف عنهم كيد أو تدبير، أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين. كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم، فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها، ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم.
{فصدوا عن سبيل الله}.. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون}.. وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل!؟
ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة، وأيمان مكذوبة خادعة، وصد عن سبيل الله وسوء عمل.. يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان، واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام:
{ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}..
فهم عرفوا الإيمان إذن، ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر. وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه، أو تذوق، أو حياة. وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف، ويطلع على التصور الإيماني للوجود، وعلى التذوق الإيماني للحياة، ويتنفس في جو الإيمان الذكي، ويحيا في نور الإيمان الوضيء، ويتفيأ ظلال الإيمان الندية... ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود، الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد! {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}..
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود. بل تنصبهم تمثالاً وهدفاً للسخرية في معرض الوجود:
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}..
فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون.. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة.. {تسمع لقولهم كأنهم خشب}.. ولكنها ليست خشباً فحسب. إنما هي {خشب مسندة}.. لا حركة لها، ملطوعة بجانب الجدار!
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم:
{يحسبون كل صيحة عليهم}..