فصل: سورة المدثر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً}.. واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم. فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}..
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام! ولقد خفف الله عن المسلمين، فجعل قيام الليل لهم تطوعاً لا فريضة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى على نهجه مع ربه، لا يقل قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربه، في خلوة من الليل وهدأة، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد. على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه، فقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم دائماً مشغولاً بذكر الله، متبتلاً لمولاه. وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه. على ثقل ما يحمل على عاتقه، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال..

.سورة المدثر:

.تفسير الآيات (1- 56):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة المزمل. فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: {يا أيها المدثر}.. قلت: يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً. فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً قال: فدثروني وصبوا عليّ ماء بارداً. قال: فنزلت: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر}».
وقد رواه مسلم من طريق عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. قال: أخبرني جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر إلى والرجز فاهجر}» قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمي الوحي وتتابع.. ورواه البخاري من هذا الوجه أيضاً.. وهذا لفظ البخاري.
وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله: وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل، حين أتاه بقوله.. {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} ثم إنه حصل بعد هذا الفترة، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة..
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى.. قال الطبراني. حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البجلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر.
وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن. وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر. وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: بل سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن، وقنع رأسه، وتدثر. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر}..
وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة (المزمل).. مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولاً. والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك.
غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى: {ولربك فاصبر} ربما يكون قد نزل مبكراً في أوائل أيام الدعوة. شأنه شان مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم للنهوض بالتبعة الكبرى، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهاراً وكافة، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق.. ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر، وما تلا هذا في سورة المزمل، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم، وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم.
إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلاً بما تلاه في هذه السورة وفي تلك، بمناسبة واحدة، وهي التكذيب، واغتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم للكيد الذي كادته قريش ودبرته.. ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك.
وأياً ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يا أيها المدثر قم فأنذر}.. مع توجيهه صلى الله عليه وسلم إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه: {وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر}.. وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل!
وتضمنت السورة بعد هذا تهديداً ووعيداً للمكذبين بالآخرة، وبحرب الله المباشرة، كما تضمنت سورة المزمل سواء: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير.
ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيداً سأرهقه صعوداً}..
وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته، وترسم مشهداً من مشاهد كيده على نحو ما ورد في سورة القلم، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحداً، قيل: إنه الوليد بن المغيرة (كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص) وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له: {إنه فكَّر وقدَّر فقتل كيف قدَّر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر إن هذآ إلا قول البشر}.. ثم تذكر مصيره: {سأصليه سقر ومآ أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر}..
وبمناسبة مشهد سقر. والقائمين عليها التسعة عشر. وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله، واختصاصه بهذا الغيب، وهي كوة تلقي ضوءاً على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهذا مثلاً كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر}..
ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير: {كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذآ أسفر إنها لإحدى الكبر نذيراً للبشر لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر}..
كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين، حيث يعترف المكذبون اعترافاً طويلاً بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتسآءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين}..
وفي ظل هذا المشهد المخزي، والاعتراف المهين، يتساءل مستنكراً موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير، ويرسم لهم مشهداً ساخراً يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس: {فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}.
ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح. {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}.
فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة! والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى: {كلا بل لا يخافون الآخرة}..
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه: {كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره} ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}..
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب.. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل، وسورة القلم، مما يدل على أنها جميعاً نزلت متقاربة، لمواجهة حالات متشابهة.. وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه كما تقدم.
وهذه السورة قصيرة الآيات. سريعة الجريان. منوعة الفواصل والقوافي. يتئد إيقاعها أحياناً، ويجري لاهثاً أحياناً! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر.. وتصوير مشهد سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر.. ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة!
وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقاً خاصاً؛ ولاسيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة: المدثر. أنذر. فكبر.. وعودتها بعد فترة: قدر. بسر. استكبر. سقر.. وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص. عند قوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}.. ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر. وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر! وهكذا..
والآن نأخذ في الاستعراض التفصيلي للسورة:
{يا أيها المدّثّر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر}..
إنه النداء العلوي الجليل، للأمر العظيم الثقيل.. نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.. وهو واجب ثقيل شاق، حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والالتواء والتفصي من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود!
{يا أيها المدثر قم فأنذر}.. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون. وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد، وهم لا ينقصون في ملكه شيئاً حين يضلون، ولا يزيدون في ملكه شيئاً حين يهتدون. غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة، ومن الشر الموبق في الدنيا.
وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله!
ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره:
يوجهه إلى تكبير ربه: {وربك فكبر}.. ربك وحده.. فهو وحده الكبير، الذي يستحق التكبير. وهو توجيه يقرر جانباً من التصور الإيماني لمعنى الألوهية، ومعنى التوحيد.
إن كل أحد، وكل شيء، وكل قيمة، وكل حقيقة.. صغير.. والله وحده هو الكبير.. وتتوارى الأجرام والأحجام، والقوى والقيم، والأحداث والأحوال، والمعاني والأشكال؛ وتنمحي في ظلال الجلال والكمال، لله الواحد الكبير المتعال.