فصل: سورة الفجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وإلى الجبال كيف نصبت}.. والجبال عند العربي بصفة خاصة ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية بصفة عامة جلالاً واستهوالاً. حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين، ويخشع للجلال السامق الرزين. والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله؛ وتشعر أنها إليه أقرب، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة. ولم يكن عبثاً ولا مصادفة أن يتحنث محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء في جبل ثور. وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان!
والجبال هنا {كيف نصبت} لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء.
{وإلى الأرض كيف سطحت}.. والأرض مسطوحة أمام النظر، ممهدة للحياة والسير والعمل، والناس لم يسطحوها كذلك. فقد سحطت قبل أن يكونوا هم.. أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها، ويسألون: من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيداً؟
إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئاً. بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي. وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب. وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق.
ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني، وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود..
إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال {منصوبة} السنان لا راسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السنام.. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة. ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال.
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة، يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة:
{فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم}..
فذكر بهذا وذاك. ذكرهم بالآخرة وما فيها. وذكرهم بالكون وما فيه. إنما أنت مذكر. هذه وظيفتك على وجه التحديد. وهذا دورك في هذه الدعوة، ليس لك ولا عليك شيء وراءه. عليك أن تذكر. فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه.
{لست عليهم بمسيطر}.. فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئاً. حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان. فالقلوب بين أصابع الرحمن، لا يقدر عليها إنسان.
فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان لإزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول.
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى. في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير، إلحاح عنيف جداً يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهمّ من آمن وهمّ من كفر.
ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة، وتقل الاستجابة، ويكثر المعرضون والمخاصمون.
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة، هذه التوجيهات المتكررة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو تأدباً بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله.. ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان..
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. ولا يذهب المكذبون ناجين، ولا يتولون سالمين. إن هنالك الله وإليه تصير الأمور:
{إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر}..
وهم راجعون إلى الله وحده قطعاً، وهو مجازيهم وحده حتماً. وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد.
{إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم}..
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة. ودور كل داعية إليها بعده.. إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله. ولا مفر لهم من العودة إليه، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه. غير أنه ينبغي أن نفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير. فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء، بلا تقصير فيها ولا اعتداء..

.سورة الفجر:

.تفسير الآيات (1- 30):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر.. ولكنها تتضمن ألواناً شتى من الجولات والإيقاعات والظلال. ألواناً متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحناً واحداً متعدد النغمات موحد الإيقاع!
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد.. {الفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر..}.
وفي بعض مشاهدها شد وقصف. سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف: {كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.. وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة. تتناسق فيها المناظر والأنغام، كهذا الختام: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}..
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين، وإيقاعها بين بين. بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد}.
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيراً وإيقاعاً: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن..}.
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم: {كلا بل لا تكرمون اليتم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جماً}..
ويلاحظ أَن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم. فقد جاء بعده: {كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً...} إلخ.. فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير!
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها.. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي. بحسب تنوع المعاني والمشاهد. فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموماً من جمال ملحوظ مأنوس!
فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل. فنعرضها فيما يلي بالتفصيل:
{والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر}.
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق. ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة: {والفجر}.. ساعة تنفس الحياة في يسر، وفرح، وابتسام، وإيناس ودود ندي، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً، وكأن أنفاسه مناجاة، وكأن تفتحه ابتهال!
{وليال عشر} أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى.. قيل هي العشر من ذي الحجة، وقيل هي العشر من المحرم. وقيل هي العشر من رمضان.. وإطلاقها هكذا أوقع وأندى. فهي ليال عشر يعلمها الله. ولها عنده شأن. تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة. وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف!
{والشفع والوتر}.. يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب. جو الفجر والليالي العشر.. ومن الصلاة الشفع والوتر (كما جاء في حديث أخرجه الترمذي) وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو. حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة، وروح الفجر الوضيئة.
{والليل إذا يسر}.. والليل هنا مخلوق حي، يسري في الكون، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لأناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر، والليالي العشر. والشفع والوتر!
إنها ليست ألفاظاً وعبارات. إنما هي أنسام من أنسام الفجر، وأنداء مشعشعة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟
إنه الجمال.. الجمال الحبيب الهامس اللطيف. الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة. لأنه الجمال الإبداعي، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة.
ومن ثم يعقب عليه في النهاية: {هل في ذلك قسم لذي حجر}؟ وهو سؤال للتقرير. إن في ذلك قسماً لذي لب وعقل. إن في ذلك مقنعاً لمن له إدراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام مع إفادتها التقرير أرق حاشية. فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق!
أما المقسم عليه بذلك القسم، فقد طواه السياق، ليفسره ما بعده، فهو موضوع الطغيان والفساد، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال:
{ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد}..
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء. ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة، وإضافة الفعل إلى {ربك} فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة.
وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة، وعسف الجبارين من المشركين، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد.
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم.. مصرع: عاد إرم وهي عاد الأولى. وقيل: إنها من العرب العاربة أو البادية. وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال. في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن. وكانوا بدواً ذوي خيام تقوم على عماد. وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} في ذلك الأوان..
{وثمود الذين جابوا الصخر بالواد}.. وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام. وقد قطعت الصخر وشيدته قصوراً؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات..
{وفرعون ذي الأوتاد}.. وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان. وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار.
هؤلاء هم {الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد}.. وليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال..
إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد؛ ويتخذ له مكاناً في الأرض غير مكان العبد المستخلف؛ وكذلك قال فرعون.. {أنا ربكم الأعلى} عندما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد.
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعاً لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميداناً للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد..
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلابد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة.. وهو فساد أي فساد.