فصل: باب: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

المرور في الوقائع الجزئية، والممر أنْ يتخذه طريقًا ويعتادَ به، فوضح الفَرْقُ بين المرور والممر‏.‏

باب‏:‏ يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي المَسْجِد

باب‏:‏ المُرُورِ فِي المَسْجِد

وبوَّب عليه الطَّحاوي‏.‏

وحاصلهُ‏:‏ أنَّه جائز إذا لم تَقَع منه ضجة في المسجد وتضمن معنى صحيحًا‏.‏

453- قوله‏:‏ ‏(‏يستشهِدُ أبا هريرة‏)‏ رضي الله تعالى عنه، ووجهه أنَّه أنشد شِعْرَا فأراد عُمر رضي الله عنه أنْ يُعزِّرَه فاضطر إلى الاستشهاد‏.‏

فائدة

واعلم أنَّ الفعل إن كان لازمًا كاستوى وَنَزَلَ فما بعده من متعلقاتِ الصِّفَة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 54‏)‏ معناه تعلق صِفة الاستواء بالعرش، وإن كان متعديًا فما بعده مفعول به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السموات والأرض‏}‏‏.‏

453- قوله‏:‏ ‏(‏أيِّدْهُ بِرُوح القُدُس‏)‏ وأظنُّ أَنَّ هذه الواقعة في غزوة الأحزاب، وفيها تصريح أَنَّ حسانًا رضي الله عنه قرأها على المِنْبَرِ كما عند الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينصب لحسان مِنْبَرًا في المسجدِ فيقوم عليه يهجو الكُفَّار»‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذا مِمَّا استدللتُ به على خلاف الحافظِ رحمه الله تعالى من أنَّ المِنْبَرَ قد كان متقدمًا بكثير لا كما زَعَمَهُ الحافظ رحمه الله تعالى أنَّه متأخر جدًا، وفي ثبوتِ تَقَدُّم المنبر نفع للحنفية في مسألة نسخ الكلامِ وقد مرَّ مني التنبيه عليه، وكذلك قد عَلِمْتَ أنَّه لا استدلال فيه للبخاري على توسيع في أحكام المسجد، فإنَّ الآمر ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلّم والغرضُ المدافعة عنه فلا يَدُل على التوسيع أصلا بل الإِنشاد عبادة في مثل هذه الحال‏.‏

باب‏:‏ الشِّعْرِ فِي المَسْجِد

باب‏:‏ أَصْحَابِ الحِرَابِ فِي المَسْجِد

وفي الحديث اللعب بالحراب قلتُ‏:‏ وثبت عندي عن مالك رحمه الله تعالى أنَّه كان خارجَ المسجد لا دَاخِلَه، وظاهرُ كلامِ المصنِّف رحمه الله تعالى أنَّه حَمَلَهُ على داخل متن المسجد‏.‏

454- قوله‏:‏ ‏(‏يستُرُني‏)‏ إنْ كان قبلَ الحِجَابِ فالأمرُ ظاهر، ولا بَأْسَ إِنْ كان بعده أيضًا فإنَّه جائزٌ أيضًا بشرطِ عدم الفتنة‏.‏

باب‏:‏ ذِكْرِ البَيعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى المِنْبَرِ فِي المَسْجِد

وفي فِقْهِنا أنَّ المُسَاوَمَة والإيجاب والقَبول جائزٌ للمعتِكف لا إحضار السِّلْعة‏.‏ والحديثُ لا يَرِد علينا، لأنَّهُ لا بيعٌ فيه ولا شراءٌ، وإنَّما ذَكَرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلّم بطريقِ المَسْأَلة وهو بمعزلٍ عن البحث‏.‏

456- قوله‏:‏ ‏(‏وقال أَهْلُهَا‏:‏ إنْ شِئْتِ أعطيْتِهَا مَا بَقِي‏)‏ يعني ويكون الولاءُ لَهُم، ومعنى قولِهِم‏:‏ «إنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِها» يعني إنْ شئتِ صرتِ سببًا لإعْتَاقِهَا بشرائِك إيَّاها، والمسألةُ أنَّ الولاء يكون لِمَنْ عُتِقَت على مِلْكِهِ‏.‏

456- قوله‏:‏ ‏(‏ابتاعِيها‏)‏ ويجوزُ بيعُ المُكَاتَب والمُدَبَّر عندَهم، ولا يجوز عندنا إلا بيع المُكَاتَب عند العَجْزِ، فقالوا‏:‏ ابتاعيها دليلٌ على جَوَازِ شراء المُكَاتب‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنَّه يكون تَعْجِيزًا عن الكِتَابة في ضمن الابتياع‏.‏ وراجع «شرح الوقاية» من قوله‏:‏ أعتق عني فلانًا بألف درهم، وفي لفظة‏:‏ «اشترطي لهم الولاء»‏.‏

وأَشْكَل معناه بوجهين‏:‏ الأول‏:‏ أَنَّ الولاءَ لها قطعًا، فما معنى كونُ الولاءَ لهم‏؟‏ ثُمَّ إذا اشْترَطت الولأَ لهم وصار الولاءُ لها ففيه خُلْف الوَعْد أيضًا، ونِعْمَ الحلُّ ما ذَكَرَهُ شيخُنا أنَّ معنَاه دعيهم لِيَشْتَرِطوا يعني به أَنَّ هذا الاشتراط لغوٌ لا أَثَرَ لهُ، وهكذا وقع عند البخاري في طريق آخر‏.‏

456- قوله‏:‏ ‏(‏شُرُوطًا ليس في كتاب الله‏)‏ وظاهره أَنَّ المرادَ منه ما لم يُنص به في الكتابِ وسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وكان مسكوتًا عنه، ويمكِنُ أَنْ يفسر بما لا يُلائِم كتابَ الله‏.‏

فائدة

واعلم أنَّ الشُّروط إما ملائِمة أو غير ملائِمة، ولا تأثير للثانية أصلا، وهذه الحقيقة سَرَتْ إلى مسألةِ التَّعْلِيق في الأجنبية فإنَّهم قالوا‏:‏ إنَّه لو قال للأجنبية إنْ دَخَلْت الدارَ فَأَنْتِ طالق فَنَكَحها ثم دخلت الدار أنَّها لا تطلق، ويَبْطل هذا التعليق لأنَّهم فهموا أنَّه شَرْط غيرُ ملائم لأنَّه لا حَقَّ له على الأجنبيةِ أن يُخَاطِبَها بقوله‏:‏ إنْ دخلتِ فلغا، بخلافِ ما إذا أَضَافَهُ إلى المِلك أو إلى سببه، فإنه يصير به مُلائِمًا ويَخرج عَنْ كونِهِ غير مُلائِم، فإنْ كانت الحقيقة كما قُلنا وإنْ لم يكتبوها، فليُنظر في مثل هذه المواضِع، فينبغي أَنْ يُعتبر لكلِّ شرط مُلائم وإن لم يَكُنْ مضافًا إلى الملك أو سببه فإنَّ اشْتِرَاط الإِضافة لأحداث المُلأَمة، فإنْ ظَهَرَت الملاءَمة بدُونِهَا يَنْبَغِي أَنْ يكونَ كالمُضَافِ إلى المِلْك أو سبَبِهِ وهذا وإنْ لم يَقْرَع سَمْعَك لكنَّهُ يكون صوابًا إنْ شاء الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ التَّقَاضِي وَالمُلازَمَةِ في المَسْجِد

والملازمة أي ملازمةُ الغريم يدور معه حيثما دار، وأخرجه المصنِّف رحمه الله تعالى في باب الصُّلْح وفيه‏:‏ ‏(‏فلقيه فلزمه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهو موضعُ الترجمةِ‏.‏

457- قوله‏:‏ ‏(‏في المسجد‏)‏ متعلقٌ بالتقاضي‏.‏

457- قوله‏:‏ ‏(‏وهو فِي بَيْتِهِ‏)‏ يعني وهو في معتكَفِه المُتَخَذِ مِنْ حَصِير في المسجد، كذا حَرَّرَهُ الشارحون لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم كان إِذْ ذاكَ مُعْتَكِفًا، ولعلَّ عِلْمُ ليلةِ القدر ارتفعَ من هذا التلاحي والمراد به عِلمُ خصوص ليلة هذه السنة لا مطلق الليلة، وقد مرَّ الكلامُ في العِلم، وليس عندي نقل صريحٌ في أنَّ الرجلين كانا هذيْنِ وإنَّما هو تَخْمِين مني‏.‏

457- قوله‏:‏ ‏(‏فاقْضِهِ‏)‏ واعلم أَنَّ بعض الأشياءِ يَرِدُ في الأحاديث ويكون من باب المُروءة، فلو يم يُجْرِه العلماءُ إلى مسائل الفقه لكان أحسن، فإني قدُ أَجِدَ أشياءَ ما لا يَدْخُل تحت قواعِدِهم ويكونُ مِنْ باب المُروءة وحُسْنِ المعاملة، فعلى المتيقِظِ أَنْ يراعيَهُ»‏.‏

فائدة

قال الشيخ ابنُ الهُمام رحمه الله تعالى في «الفتح»‏:‏ إنَّ الكلامَ في المسجد يأكل الحسنات وقيده في «البحر»‏:‏ إذا قصد ذلك، أما إذا جَاءَ للصَّلاةِ فتشاغل بالتَّكلُّمِ فلا‏.‏

باب‏:‏ كَنْسِ المَسْجِدِ، وَالتِقَاطِ الخِرَقِ وَالقَذَى وَالعِيدَان

ومن عادة المصنِّف رحمه الله تعالى كما قد عَلِمْتَ مِرَارًا أنَّه يَبْسط الأبوابَ على الجزئيات التي سُمِّيَت في الأحاديث وإنْ لم يكن مدارًا للمسألة‏.‏

458- قوله‏:‏ ‏(‏يَقُمُّ‏)‏ أي يَكْنُس، وعند أبي داود في باب في حَصَى المسجد عن أبي صالح قال‏:‏ «كان يُقَال إنَّ الرَّجُلَ إذا أَخْرَج الحصى من المسجدِ، يُنَاشِده»‏.‏ وفي رواية أخرى رَفَعَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم «أَنَّ الحصاة لتناشِد الذي يُخْرِجها من المسجد»‏.‏ قلت‏:‏ إنَّها تُنَاشِد لأنَّ فَضْلها فيه، ونحن نُخْرِجُها فإنَّ الفضل لنا فيه فَدَعْهَا تناشدك‏.‏

458- قوله‏:‏ ‏(‏مات‏)‏ أي في الليل فلم يُوقِظُوا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّم لكراهَةِ إيقاظِ النَّبيَ صلى الله عليه وسلّم وخِفة أمره عندهم كما هو عند مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصلى عليها‏)‏ قال أبو عمرو في «التمهيد»‏:‏ إنَّه قد ثَبَت سبعة أحاديث في الصَّلاةِ على القبرِ وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى إلا أنَّ النووي نسب إليه خلافه فقال‏:‏ أصحابُ مالك منعوا الصَّلاةَ على القبرِ والمسألة فيها عندنا أنَّه لو دُفِن بدونِ الصَّلاةِ يُصلَّى على قَبْرِهِ ما لم يَتَفَسَّخ، وعيَّنَهُ المشايخ بِثلاثةِ أيام وإنْ لم يكن الوليُّ حاضرًا فله أَنْ يُصلّي عليه وإنْ كان قد صلى عليه مرة، ثم صرحوا أنَّ الفريضةَ قَدْ سَقَطت مِنَ الأُوْلَى وصلاتُهُ الثانية قضاء لحقه فقط، ثم إنَّه هل يُصلِّي منفرِدَا أو يُصلِّي معه من لم يُصلِّ أوَّل مرة أيضًا، ويُعْلَم من كُتِب الشافعية أنَّه يدخل معه ما لم يصلِّ أول مرة، وأظنُّ فيه خلافًا عن مشايخنا، وتستفاد الإِجازة مِنْ كلامِ البعض والممانعة من بعض، وليس فيه عندي نَقْلٌ صريح إلا ما قال السَّرَخْسِي في تعدد الصَّلوات على النبي صلى الله عليه وسلّم إنَّ الوَلِيَّ كان هو الصديق الأكبر فصلى عليه بعد كونه أميرًا، وإنْ كانت قد صُلِّيَت عليه قبله أيضًا‏.‏ ورأيت في الخارج أنَّه صلى معه آخرون منا، وهو مشعر بجواز دخول آخرين مع الولي‏.‏

وأمَّا في حديث البابِ فادَّعى الحنفية أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم كان وليًا فلا بأس بإعادته‏.‏ وفي «الخصائص الصُّغْرى» للسيوطي رحمه الله تعالى عن بَعْضِ الحنفية‏:‏ أنَّ صلاة الجَنَازَة لا تصح بدون حضور النَّبي صلى الله عليه وسلّم إِذَا أَمْكَن شِرْكَتَه‏.‏ قلت‏:‏ ومَنْ ذَهَبَ هذا المذهب فقد أصاب وأجاد، وهو الذي يُعْلَم من التتبع أنَّ الصَّلاة وقتيةً كانت أو جنازة لا تَصِح بدونه صلى الله عليه وسلّم وهو الذي نبه عليه أبو بكر رضي الله عنه ولم يَفْهَمْهُ النَّاس ولا أدركوا كلامه حيث قال‏:‏ ما كان لابن أبي قُحافة أَنْ يَتَقَدَّم بين يَدَيِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم

وحاصله‏:‏ أنَّ غيرَ النَّبي لا يَصْلِح لإمامة النَّبي صلى الله عليه وسلّم فكيف يصلح لي أمامتك‏؟‏ ثم في «المسند» لأحمد رحمه الله تعالى أَنَّهُ لا يُتوَفَّى نبي ما لم يَؤمه أحَدٌ مِنْ أمّته، وكان هذا نداء على رحيل النبيِّ وأنّ أمته قد صهرت وبهرت، ودينه قد كمل وتمَّ حيث يصلح منهم من يؤم نبيًا، وأمَّا إمامة المهدي لعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنما يكون في أول صلاة يصلي بهم وذلك أيضًا بعد تقريرِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنَّما لم يُؤخره لأنَّه كان بَلَغَ موضِعَ الإمامة وقد أُقِيمَت الصَّلاة ولم يَبْقَ إلا التحريمة، فلو أَخَّرَه لربما تُوهم عدم أهليتِهِ لها، ولذا وَرَدَ في بعضِ أَلفاظهِ‏:‏ أنَّها لك أقيمت، وبعدَه يكونُ الإمامُ هو عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الصلاة بمحضر النبي لا تصحُ بدونه ما لم تُوجَد قرينة الإِجازة من جانبه، وههنا قد أمكن شِرْكَتُه ولنا أيضًا أن نعدَّها من خصائِصهِ صلى الله عليه وسلّم لِما عند مسِلم «إِنَّ هذه القُبور مملوءة ظُلمة على أهْلِها، وإنَّ الله لَيُدْخِل عليهم نورًا من صلاتي»، أو كما قال‏.‏ فَعُلِم منه وجه الخصوصية، ومن يكون بَعْدَهُ من يُدخل بصلاته نورٌ على أهل القبور‏.‏ ومرَّ عليه الحافظ وقال‏:‏ إنَّه مدرج دخلت فيه قطعة من الحديث الآخر، وهو وهم من الراوي‏.‏

قلتُ‏:‏ وإذا كان حديثًا فكيفما كان يكون حجة، وإليه أشار محمد رحمه الله تعالى في الصَّلاة على الغائب، وقال‏:‏ وليس النَّبي صلى الله عليه وسلّم في هذا كغيرِهِ، يعني به الإِشارة إلى الخصوصية وقد ذكرناه‏.‏

باب‏:‏ تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الخَمْرِ فِي المَسْجِد

أي لا بأس بِذِكْرِ المسألة، وإنْ كانت الخمر خبيثة نجسة لا سيما إذا كان ذُكِرَ تحريمها‏.‏

459- قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ حَرَّم تجارةَ الخمر‏)‏ وأما التناسب بين الرِّبا والخمر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسّ‏}‏ وهذا التخبط في الخمر أيضًا، وقيل‏:‏ لا حاجةَ إلى بيان التناسب، وإنَّما ذَكَرَ الأمرين بيانًا للنَّاس، ثم إنه متى حُرِّم الربا‏؟‏ فحرَّرَه الطحاوي في «مشكِله»‏.‏

باب‏:‏ الخَدَمِ لِلمَسْجِد

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏ومحرَّرًا‏}‏‏)‏ وهو في الفِقه مَنْ رُفِعَ عنه قَيد الرَّقبة أي مُعْتَقًا، ومعناه ههنا من اختص بأمر وترك لأجله، وكان من عاداتهم النذر بذكور أولادِهم وولدت أنثى فقالت اعتذارًا ‏{‏رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى‏}‏‏.‏

باب‏:‏ الأَسِيرِ أَوِ الغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي المَسْجِد

لم يكن دار الحبس في زمنه صلى الله عليه وسلّم وإنَّما كانوا يشدون بسارية من سواري المسجد ثم بناه عمر رضي الله عنه‏.‏

461- قوله‏:‏ ‏(‏عِفْريت‏)‏ سركش طاغ‏.‏

461- قوله‏:‏ ‏(‏تَفلَّتَ عليَّ‏)‏ وفي مصنَّف عبد الرزاق‏:‏ أنَّه كانَ في صورة الهرة، وفي كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي‏:‏ أنَّه تقدَّم إليه بِشُعْلَةٍ من نارٍ في وجهه صلى الله عليه وسلّم

461- قوله‏:‏ ‏(‏ليَقْطع عليَّ الصَّلاة‏)‏ إما بالمرورِ بين يديهِ أو إلجائِهِ إلى العملِ الكثير، واختارَهُ في «أحكام المُرجان» للقاضي بدر الدين الشِّبْلي وهو تلميذ الذهبي عالمٌ جليل القدر، إلا أنَّه توفي في شبابه فلم يُشْتَهر بين الناس وَكَتَبَ ترجمتَه أستاذُهُ؛ والقَطْع على الأول على معناه الحقيقي، فإنَّك قد عَلِمت أنَّ بين المُصلِّي وبين ربه جل وعلا وصلة المناجات، فإنَّ المصلي يناجي ربَّهُ، وإنَّ رَبَّهُ بينه وبين القِبْلَة، وإنَّ الرحمةَ تواجِهُه كلُّها عبارة عن تلك الوِصلة، فإِذا مرَّ بين يديهِ فقد قَطَع تلك الوَصْلَة حقيقة، وليس القَطْع بمعنى قَطْع الخُشوع ولا بمعنى الفساد كما حَمَله أحمد رحمه الله في مرور الكلبِ، قال الترمذي في باب ما جاء أنَّه لا يقطعُ الصَّلاةَ إلا الكلبَ والحمارَ والمرأةَ، قال أحمد رحمه الله‏:‏ الذي لا شك فيه أنَّ الكلبَ الأسودَ يَقْطَعُ الصَّلاةَ، وفي نفسه من الحمارِ والمرأةِ شيء‏.‏

قلتُ‏:‏ وذلك لأنَّ فيهما عِنْدَهُ حديثًا، أما في المرأةِ فما روتْهُ عائشةُ رضي الله عنها «أنَّها كانت تعترض بين يدي النَّبي صلى الله عليه وسلّم اعتراض الجنازة وهو يصلي»، وأما في الحمار فحديث ابن عباس «أنَّه جاء على أتان وأرسلها تَرْتَع بين أيدي المُصلين» وأما الكلب فليس عنده شيء يخالفُ حديثَ القَطْعِ فأبقاه على عمومه، والقطع على الشرح الثاني بمعنى الفساد فإنَّه إذا اضطرَّهُ إلى العمل تَفْسد صلاتُهُ لا محالة‏.‏

461- قوله‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لأحدٍ من بعدي‏)‏ واعلم أنَّ المشي في الدعاء والنَّذر يكونُ على الألفاظِ لا على الغرض‏.‏ والمعنى كما يدل عليه ما في «مسند أحمد»‏:‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ مرةً من عند عائشةَ رضي الله عنها وقال‏:‏ «قطع اللَّهُ يديك»، أو كلمة مثلها، فلمَّا رجع رأى يديها شُلتا، فسأل ما بالُ يديها قالت‏:‏ هي كذلك منذ قلت ما قلت إلخ، أو كما قال‏.‏ مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لم يُرِد به قَطْعَ يديها حقيقة، ولكن مشى التكوينُ على عموم ألفاظه فاعلمه، ومن ثمرة دعائه تسخير الجن، ولا بحث للبخاري بكونه جنًا أو غيره فاسْتَدلَّ به على الأسير مطلقًا‏.‏

واعلم أنَّه قد بَيّنّا لك في المقدمة أنَّ العامَّ ظني عند ما وراء النهرين مِنْ أصحابِنَا وهو مذهبُ الجمهور، ولا يقومُ حجة ما لم تَتَّصِل به قرائن مِنْ خَارج، فإِذَا وَرَدَ خاصٌ في موضع وشَمِلَه العام أيضًا وتعارض في الحُكْمَين لا يُعتدُّ بهذا العام أصلا ويكون الحكم حكم الخاص، ألا ترى أَنَّ رَفْعَ اليدين إذا ثبت في العيدين خاصًا، أخذه الحنفية ولم يتركوه بالعمومات، وهكذا إذا ثبت البيع بما ليس عندك في السَّلَم اختاروه ولم يأخذوا بالعمومات، وهذا غير قليل في الأحاديث‏.‏

ثم إنَّ جماعة من الأشاعرة ذهبوا إلى أنَّ الدليل اللفظي لا يفيد القطع أصلا، وذهب الماتُرِيديَّة إلى خلافِهِ وقالوا‏:‏ يمكن أَنْ يُفيدَ القطعَ؛ وكَتَب الرازي في «تفسيره» أنَّ الدَّليلَ اللفظي وإنْ تواتر في النَّقَلِ لكنَّه لا يمكن أَنْ يكونَ قطعيًا في الدَّلالة، لعدم انقطاع الاحتمالات عنه، وصَرَّحَ في «المحصول» بخلافِهِ، وقال‏:‏ إنَّه يمكن أَنْ يُفيد القَطع‏.‏ فلعلَّ ما في «الكبير» باعتبارِ الأغلب والأكثر، وبَحَثَ فيه صدر الشريعة أيضًا، ولعلَّه بَلَغَهُ إنكارُ الأشاعرةِ القَطْعَ، فإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهم ترددوا في إفادة نفس الدَّلِيل اللفظي القَطْعَ فكيف بِقَطْعِيةِ العام‏.‏ ولا غَرْوَ أنْ يكونَ خلافُهم في تلك المسألةِ مؤثِّرَا في قَطْعِيَّة العام وظنيته أيضًا، ومع هذا أقول‏:‏ إنَّه قد يَبْقَى العام على عمومه، كما في الدعاء والنذر، فإن المشي فيهما يكون على الألفاظ، ولا بَحْث عن كون المدعو عليه أهلا له أو لا، فكل موضع يكون المشي فيه على الألفاظِ يُترك فيه العامُ على عمومه‏.‏

ولذَا نَهَى في «المشكاة» عن الدعاء على الأولادِ لئلا يُوافِقَ ساعةً من ساعاتِ الإجابة، فيسْتَجِيب له ويَمْضِي دعاءَهُ على ظَاهِرِهِ مع أنَّه لا يريدُه، ومِنْ هذا الباب دعاءُ سليمان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولذا لم يَرْبِطْه النَّبي صلى الله عليه وسلّم إبقاءٍ لدعاءه على عمومه، ولو رَبَطَهُ لما خالف دعاءَه حقيقة إلا أنَّهُ أحبَّ أن يُجْزِيهِ على عُمومِهِ على دَأْبِ سائرِ الأدعية، والله تعالى أعلم‏.‏ وراجع تحقيقه من المواقف‏.‏

باب‏:‏ الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ، وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيضًا فِي المَسْجِد

وذكر الاغْتِسَال إنجاز‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏رَبْطِ الأسير في المسجد‏)‏ من مسائل سلسلته، والغسل للإسلام مستحب وراجع «شرح الوقاية» لتفصيلِ غسل الجنابةِ بعد الإِسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خَيْلا‏)‏ قال ابنُ سِيده في «المُخَصَّص» إنَّ الرُّكُب والرُّكْبَان أيضًا في معنى الخيل‏.‏ قلت‏:‏ وهو مخالفٌ لِعُرف العرب وإنَّما أخذه من اشتقاق الركب فقط‏.‏

باب‏:‏ الخَيمَةِ فِي المَسْجِدِ لِلمَرْضى وَغَيرِهِم

والمتبادر منه المسجد النبوي، وهو الذي يَقْتَضِيه «سنن البخاري» وكلامُ الحافظ، ويُسْتفاد مِنْ سِيرةِ محمد بن إسحق أنَّه مسجدٌ آخر دون المسجد النبوي، وقد عُرِف من عادةِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم في السِيَر أنَّه كان إذا نَزَلَ منزِلا اتَّخَذَ مكانًا لِصَلاتِهِ يَحْجزه من أطرافه، وأصحابُ السِير يَذْكُرونه بلفظ المسجد سواءٌ يُسَمِّيه الفقهاء مسجدًا أوْ لا، وهذه واقعةُ الأحزابِ حين اغتسل النَّبي صلى الله عليه وسلّم بعد فَرَاغِهِ عنها وجاءه جبريل عليه السلام وأشارَ إلى بني قُرَيْظَة فحاصروهم فنزلوا على حُكْم سعد، وكان حليفهم في الجاهلية فَحَكَمَ فيهم بقضاء الله، فجاءه فقال‏:‏ «قوموا إلى سيدكم»، لأنَّه كان جريحًا؛ القصة بطولها‏.‏ ولعلَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لما حاصَرَهُم إلى عِدَّةِ أيام، اتخذ هناك موضعًا لِصَلاتِهِ فما يَحْكُم به الوجدان أنَّ المراد من المسجد هو هذا وبه يُناسب قوله‏:‏ ‏(‏ليَعُودَه مِنْ قريب‏)‏ فإنَّ المسجد النبوي كان على ستة أميالٍ منه فأين كان يَعُوده مِنْ قريب، وحينئذٍ لا يثبت ما رَامَهُ البخاري رحمه الله تعالى من التوسيع في أحكامِ المساجد، فإنَّه وإنْ كان في مسجدٍ، لكنَّه لم يكن مسجدًا مما نحن بصدده وهو المسجد الفقهي، على أنَّك قد عَلِمْتَ أنَّ تلك الواقعة كانت مَحْفُوفة بالقرائن إلا أنَّ البُخَاري يَسْتَنْبِط منها مسألة ولا يبالي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمات‏)‏ وكان دعا ربه أَنْ يُعطِيه حياة إنْ قَدَرَ بعد غَزْوَةٍ من قريش، وإلا فيُعَجِّل وفاتَه وكان جُرْحُه قد اندمل ثم تفسخ فلم يرقأ منه الدَّم حتى مات‏.‏

باب‏:‏ إِدْخالِ البَعِيرِ فِي المَسْجِدِ لِلعِلَّة

464- قوله‏:‏ ‏(‏طاف‏)‏ أي في فتح مكة‏.‏

464- قوله‏:‏ ‏(‏قال طُوفي‏)‏ وهذه قِصة حَجة الوَداع‏.‏

464- قوله‏:‏ ‏(‏يُصَلِّي‏)‏ أي كصلاة الصُبْح‏.‏

ويجوز المرور للطائفين أَمَام المُصَلِّي فإنَّ الطَّوَاف بالبيتِ صلاة‏.‏ كذا في كتاب الطَّحَاوي‏.‏

وغرض المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ الطَّوَاف وإنْ كان حول البيتِ لكنَّ البيتَ كان في المسجدِ الحرام فثبت دخول البعير في المسجد‏.‏ قلت‏:‏ وفي استدلاله نظر لأنَّه لم تكُن هناك عِمَارة في عهده صلى الله عليه وسلّم غير البيت كما في البخاري وكان حولَهُ مَطَافَا فقط حتى بنَى عمر رضي الله عنه حوله حائطًا ثم بنى الملوكُ تلك الأبنية، نعم بقي فيه نظر بَعْدُ وهو أَنَّ حولَ البيت وإنْ كان مطافًا فقط لكِن القرآن أَطْلَقَ عليه لفظ المسجد، فينبغي البحث للفقيه في أَنَّ الأرضَ هل تأخذ أحكام المسجد بمجرَّدِ نية المسجد ولو لم يُحِط حائطًا ولم يبن بناءً، والذي يَظْهر أنَّه يَأْخُذُ حُكْمَهُ‏.‏ ثم على المفسرين أَنْ يمعنوا أنظارَهم في أنَّ الذي سَمَّاه القرآن مسجدًا هل هو البيت فقط أو المطاف أيضًا‏؟‏ وعندي تَبْقَى حِصة منها خارجة عن هذا الإطلاق بعد كَوْنِ المَطاف مشمولا في المسجد أيضًا، وهذه حيث حَاط عمر رضي الله عنه حائطًا‏.‏

باب

465- قوله‏:‏ ‏(‏من عند النَّبي صلى الله عليه وسلّم أي مِنْ مَسْجِده فظهرت المناسبة، وثبتت الكرامة من حديث الباب، وأنكرها ابن حزم لاِلْتِبَاسها بالمعجزة، وفُرِّقَ بينهما بالتحدي وعدمه‏.‏ ثم قال ابن حزم‏:‏ إني قائل باستجابة الدعاء مع إنكاره الكرامة‏.‏ قلتُ‏:‏ إذا اشتمل الدُّعاء على أمرٍ خارقٍ للعادة فهو الكرامة فلم يبق النزاع إلا في التسمية، فما الفائدة في إنكار الكرامة‏.‏ ثم في «الدر المختار» و «شرح العقائد» أنَّه لا اخْتِصَاصَ للمعجزة والكرامة بأمرٍ دون أَمْر، وكل كرامه معجزة للنَّبي، وكل أمرٍ يكون معجزة مِنَ النَّبي إذا ظهر على يَدِ ولي يُسمَّى كرامة‏.‏ وقال الأستاذ أبو القاسم صاحب «الرسالة القشيرية»‏:‏ أنَّه لا بد أَنْ تكون أشياء تَخْتَص بالمعجزة، وهو المختار عندي‏.‏

وهل يُمْكِنُ إحياء الميت مِنَ الولي أوْ لا‏؟‏ فكنت مترَدِّدًا في ذلك حتى رأيت حكايةً نَقَلَهَا الشيخ عبد الغني النابلسي عن العارف الجامي رحمه الله تعالى‏:‏ أَنَّ رجلا من الأغنياء اتَّخَذَ له طعامًا، وطبخ دَجَاجَة ميتة اختِيارًا له ثم دعاه فجاء العارِفُ الجَامي وقال‏:‏ قم بإِذن الله، فكان كما قال‏.‏ إلا أني لا أعرف سنده، وهكذا نقل الشنطوفي ووثقه المحدثون عن الشيخ عبد القادر حبلي رحمه الله أنه كان يُذَكِّر النَّاسَ إذ جاءت حِدَأَة تصيح حتى شَوِّشَتْ على الشيخ كلامه فدعا عليها وقال‏:‏ ما لكِ قَطَعَ اللَّهُ عُنُقَكِ فَسَقَطَتْ على الأرض ميتة من ساعتِها‏.‏ ثم إذا فَرَغَ الشيخُ عن الوعظِ قام ورآها ميتة في فناء المسجد، فسأل عنها فأُخْبِرَ بها فقال بها‏:‏ قم بإذن الله فطارت‏.‏ وهكذا جاء رجل في «بجنور» فقطع عُنُقَ طائرٍ حتى فَصَلَها بين أعينِ النَّاس ثم ضمها فكانت كما كانت قبله، وأحيى الطائر‏.‏ وزارني هذا الرجل فسألتُهُ عنه فقال‏:‏ إنَّا نَقْدِر عليه إلى ساعةٍ قليلة فإذا مضت تلك الساعة فلا نَقْدِر عليه‏.‏ وفي كتاب «العلو والعرش» للذهبي‏:‏ أَنَّ كرامات السيد عبد القادر الجيلي تواترت كقطر الأَمْطَارِ والنابلسي هذا هو الذي من معاصري صاحب «الدر المختار» وَرَدَّ عليه في مسألة الخف- وبعد اللتيا والتي أسلم أنَّ بعضَ الأشياء تختص بالمعجزة، لأنَّ الشيخَ أبا القاسم صاحبَ الكرامات بِنَفْسِهِ، فاتِّباعه في تلك الأبواب أولى، وراجع «المقدمة» لابن خلدون للفَرْقِ بين المعجزة والكرامة، وأزيدَ منه في كلام الشيخ الأكبر‏.‏

باب‏:‏ الخَوْخَةِ وَالمَمَرِّ فِي المَسْجِد

قوله‏:‏ ‏(‏المَمَرِّ في المسجد‏)‏ يعني به اتخاذه طريقًا، أما إذا مَرَّ بها للصَّلاة فهو أمرٌ مقصودٌ ومعنى صحيح‏.‏

466- قوله‏:‏ ‏(‏فاختار‏)‏ وفي الحديث أنَّ النبي يخير أوَّلا‏.‏

466- قوله‏:‏ ‏(‏لاتخذت‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وبحث الناس في أنَّه هل تمتنع الشركة في الخُلَّة فقيل‏:‏ إنَّ الخُلَّةَ لا تَحْتمل التعدُّد لأنَّه من الخِلال بمعنى الوسط ولا يَحُل في الوسط إلا واحدٌ بخلافِ المحبة، فإنَّه يَصْلُحُ من المتعدِّد، أقول‏:‏ وليس كذلك لما في القرآن‏:‏ ‏{‏الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏(‏الزخرف‏:‏ 67‏)‏ فَدَلَّ على أنَّها أيضًا تكونُ من المتعدد، فالأحب إليَّ أنْ لا يستمد فيه من اللُّغة، ويقال‏:‏ إنَّه أراد من الخُلَّةِ، خُلَّة تَخْتَصُ بين العَبْدِ والمعبود، ولا تكون بين العبدِ والعبد، على أَنَّه لا حرج في اختصاصه عند إرادةِ الاختصاص باللَّهِ سبحانه، وإنْ كان مُشْتَرَكَا في النَّاس فالخُلَّة وإنْ أمكن مع الآخرين، لكنَّه أراد أن يتخذ اللَّهُ خليلا فقط وحينئذٍ ينحصر فيه لا محالةَ بحسب إرَادتِهِ لا باعتبارِ اللغة، والناسُ بصدد بيان معنى يَخْتَص بحضرةِ الحقِّ ولا يكون له اشتراكٌ في الناس، فَفَرَّقوا بين الخَلِيْل والحبيب، والكل في غير موضعه؛ والوجه ما بَيَّنا‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّه لا حاجةَ إلى إيجادِ الاختِصَاصِ في الخُلَّةِ من حَاقِّ لفظه بل الاختصاص من تلقاءِ إرادةِ المتكَلِّم كاف، وجاز إرادةُ الاختِصَاصِ فيما كانت الحقيقة مشتركة وإذن هو تابع لإِرادتِهِ‏.‏

466- قوله‏:‏ ‏(‏لكن أُخوة الإسلام‏)‏ قامت مقام الخُلَّةِ الآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يَبْقَيَنَّ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفي حديث قوي الإِسناد «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم أَمَرَ بسدِّ الأبوابِ غير باب علي رضي الله عنه» وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع ولم يُسَلِّمه الحافظ، ونَقَل عن الطَّحاوي من «مشكلِهِ» أنَّ هذين الحديثين محولان على الوقتين، فكان الأمر أوَّلا كما في الحديث المار ثم أمر بسد باب عليّ رضي الله عنه أيضًا وصار الأمر كما في حديث الباب‏.‏

وحاصلهُ‏:‏ أن استثناء باب عليّ رضي الله عنه متقدم، واستثناء خَوْخَة أبي بكر رضي الله عنه في مرض وفاتِهِ صلى الله عليه وسلّم وقد مرَّ أنَّ استثناءَ باب عليّ رضي الله عنه كان لاِخْتِصَاصِهِ ببعضِ أحكام المسجد، كالمرور في المسجد جنبًا، وقد مَرَّ أَنَّ موسى وهرون عليهما الصَّلاة والسَّلام أيضًا كانا مُخْتَصَّيْن ببعضِ الأحكامِ، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «أنت مني بمنزلة هرون من موسى»، وقد مرَّ تقريره مبسوطًا، قال العلماء‏:‏ إنَّ القِبْلَةَ إذا تحولت نحو الجنوب صارَ بابُ المسجد نحو الشِّمَال وكانت في جهتي الشرق والغرب خوخات، فَأَمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلّم بِغَلْقِهَا أيضًا غير خَوْخَة أبي بكر رضي الله عنه إشارة إلى خلافتِهِ لحاجته إليها في دخوله المسجد وصلاتِهِ بالنَّاسِ، والأبواب تكون للإيابِ والذهاب، فبقي البابُ الذي كان في جهة الشمال للإِياب والذهاب، وسُدَّت الخَوْخَات وسائر الأبواب كلُّها، فإنْ قلت‏:‏ ما معنى قوله إلا بابَ أبي بكر، مع أنَّه كان قد سد أوّلا فلم يكن هناك باب ليسد‏؟‏ قلت‏:‏ المراد بالباب الخَوْخَة كما قرَّره الحافظ‏.‏

باب‏:‏ الأَبْوَابِ وَالغَلَقِ لِلكَعْبَةِ وَالمَسَاجِد

وأثر ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الغلق‏)‏ ترجمته روك يعني قفل يا بلائي ياجتخنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو رأيت مساجد ابن عباس‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ مناسب للجُزْءِ الأول ولا ذِكْرَ فيه للغَلْق فلا حاجةَ إلى إيجادِ التكلفات، ثم إنَّ ابنَ عباس سكن في مواضع عديدة فلا تَعْجب من تعدُّد مساجده‏.‏

باب‏:‏ دُخُولِ المُشْرِكِ المَسْجِد

وأشار المصنِّف إلى موافقةِ الحنفية، وقد مَرَّ الكلامُ فيه في باب عَرَق الجنب مبسوطًا ونَذْكُر ههنا بعض أشياء‏.‏

فاعلم أنَّه يجوز دخول المشرك عندنا في جميع المساجد المسجد الحرام وغيره سواء، وجوزه الشافعية رحمهم الله تعالى إلا في المسجد الحرام، وَمَنَعَهُ مالك رحمه الله تعالى مطلقًا وأَخَذَ بالحُكم والتعليل، ونعني بالحكم قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 28‏)‏ وبالتعليل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ والمُرادُ من أَخْذِ التعليل اعتباره وإجراءه في سائر المساجد، والشافعية رحمهم الله تعالى أخذوا بالحُكْمِ دون عُموم التعليل، والحنفية لم يَأْخذوا شيئًا منهما‏.‏ قلت‏:‏ وفي «السِيَرِ الكبير» لمحمد رحمه الله تعالى أَنَّ دُخولَ المشرك لا يجوز في المسجد الحرام كمذهب الشافعية رحمهم الله تعالى وهو الذي ينبغي أنْ يُخْتَار، فإنه أَوْفَق بالقرآن وأَقْرَب إلى الأئمة؛ ثمَّ المرادُ بِعَدَمِ القُرْبِ عدم الطواف لأنَّ الآيةَ نَزَلت لِمَنْع الطَّواف كما يُعْلَم مِنْ نِدِاءِ عليّ رضي الله عنه أنَّه لا يحج بعد العام مُشْرِك، ولا يَطُوف بالبيت عُرْيَان، ولا عِبْرة بعموم اللفظ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقربوهن‏}‏ حيث لم يذهب أحد إلى عمومه فهو مِنْ بابِ إقامةِ المراتب في المسمى، وقد مرَّ تقريرُهُ في المقدمة وإجراؤه في مواضِعَ كثيرة من تقريرِنا، هذا وههنا بحث آخر وهو أَنَّ الحُكْم إذا كان خاصًا والتعليل عامًا فهل يعم الحُكْم بعموم التعليل‏؟‏ فذهب جماعة إلى أَنَّ الحُكم يدورُ على النُّطْقِ ويَثْبُت الحُكْم فيما وراءه بالقياس، وقال جَمَاعة‏:‏ إنَّ التعليلَ إذا كان عامًا فما وراء المنطوق أيضًا يكونُ داخلا في المَنْصُوصِ والنَّظر الأَوَّل يفيدُنا شيئًا، وقد يَخْطُر بالبال أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية جزء العِلَّة، والجُزْء الآخر منها أنهم يَدْخلون في المسجد الحرام زاعمين أنَّه من حقهم وحقّ آبائِهم بخلافِ المساجد الأخرى، فإنَّها بناها أهل الإِسلام فلا يرون فيها حقًا، فنهاهم الله أن يَدْخلوا فيه، وصدع أَنْ لا حقَّ لهم فيه كما في سائر المساجد، وإنَّما المساجد لله، وحينئذٍ حكم عدم القُرب يَتَفَرَّع على هذا المجموع، وذا لا يوجد إلا في المسجِد الحرام، فلا يكون الحُكم إلا عليه، ويَبْقَى سائر المساجد خارجة عنه‏.‏

بقي البحث في أنَّ التَّعْلِيل بجُزْء العِلَّة يجوز أم لا‏؟‏ فصرح الغَزَالي أنَّه يجوز، فلو كان التَّعليل بالجُزْء جائزًا لخرجنا عن عُهدة النَّص رأسًا برأس‏.‏ قلت‏:‏ والفْصَلُ فيه أَنَّ الإِضافةَ على العِلَّة إن لم يَسْتَوْجِب رِكَّة في النَّص فهو جائزٌ وإلا فمحل تردد‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كانت العِلَّة مجموعُ الأمرين فَلِمَ اقتصر على أحدِهما‏؟‏ قلت‏:‏ لا بأس بالاقْتِصَارِ على الأدخل منهما، وأهل العُرف لا يراعون الطَّرْد والعكس، بل يَذْكرون ما يكون أدخل في الحكم، والأدخل ههنا كونهم مشركين، أما كونهم داخلين بالدَّعْوَى والزعم المذكور، فهو وإنْ كان مؤثِّرًا أيضًا لكنَّه دونَه فَحَذَفَه اعتمادًا، ثُمَّ أقول إنَّ تسميتَه بِتَخْصِيص العِلَّة أولى من التعليل بالجُزْء، وتَخْصِيص العِلَّة جائزٌ، وهذا كله بَحْثٌ مني فليحرر على الأصول‏.‏ ولك أَنْ تقول إنَّ الآيةَ مجمَلة فلحق نداء عليّ رضي الله عنه بيانًا لها، وذلك لأنَّهم قالوا‏:‏ إنَّ الإجمال إنَّما يأتي إما من جهة غَرَابَة اللفظ أو ازدحام المعاني، وليس ههنا واحدٌ منهما، نعم إنْ كان الإِجمال بحسب مرادِ المتكلم أيضًا فذلك هو المراد ههنا، كمال قال الحنفية في آيةِ المسيح إنها مجملة، وأنت تعلم أَنْ لا إجمال فيها إلا بحسب مرادِ المتكلم‏.‏ أما أن مراد المتكلم هل يجب أن يُساوي مدلول اللفظ، فقد بسطناه في المقدمة‏.‏

باب‏:‏ رَفعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِد

وفي «المرقاة» أَنَّ الجهرَ في المسجد ولو بالذكر حرام، ونَقَل عن مالك رحمه الله أنَّ احترام النَّبي صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته أيضًا كما كان في حياته‏.‏

وفي البيهقي عن أنس وصححه ووافقه الحافظ في المجلد السادس «أنَّ الأنبياء أحياءٌ في قبورهم يصلون»‏.‏ أَشْكَل عليهم مراده، فإنَّ الروح نفسها حياة لا فناء لها سواء كانت رُوح الكافر أو المؤمن، فالأرواحُ كلها أحياء، فما معنى كون الأنبياء أحياء‏؟‏ فاعلم أنَّ تلك الأحاديث لم تَرِد في بيان حياة نفس الرُّوح ومدتها، لأنَّ حياتَها مفروغة عنها بل في تعطلها عن الأفعال وعدمه، وحينئذٍ معناه أن أَرْوَاح الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ليست بمعطلة عن العبادات الطيبة والأفعال المباركة، بل هم مشغولون في قبورهم أيضًا كما كانوا مشغولين حين حياتهم في صلاةٍ وحج، وكذلك حال تابعيهم على قدر المَرَاتِب بخلاف من كان مُعطَّلا عنها في حياته، فإنَّه يكون معطَّلا في قبره أيضًا ‏{‏وَمَن كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَةِ أَعْمَى‏}‏ وإلى هذا أشار بقوله‏:‏ يُصلون، فَذَكَر لهم عبادة ليُنبه على معنى حياتِهم فهم يُصلُّون ويحجون في قبورهم، ويفعلون أفعال الأحياء، فهم أحياء بهذا المعنى، وهذا عُرف عام يقال للمعطَّل عن الأفعال إنه ميت وإنْ كان حيًا، فَعُلِم أَنَّ أَصْلَ الحياة عبارة عن أفعالها، وحقيقة الموت ‏(‏عبارة‏)‏ عن التعطُّل عنها‏.‏ على وزان قولهم‏:‏ إنَّ العِلْمَ حياة، والجهلَ موت، ومن ههنا انحل حديثٌ آخر رواه أبو داود في رد رُوْحِه صلى الله عليه وسلّم حين يُسَلَّم عليه صلى الله عليه وسلّم ليس معناه أَنَّه يَردُ روحه أي أنه يَحيى في قبره، بل تَوجُّهُه من ذلك الجانب إلى هذا الجانب، فهو صلى الله عليه وسلّم حي في كلتا الحالتين بمعنى أنَّه لم يطرأ عليه التعطُّل قَط، لكنَّه كان مستهلِكًا في التوجه إلى حضرة الربوبية، فإِذا سُلِّم عليه رُدَّ عليه روحه بمعنى شَغَلَهُ بذلك الجانب الذي كان معطَّلا عنه قَبْلَه‏.‏

ثم الحياة فيها مراتب لا يعدها عاد ولا يحصيها محصىٍ، فحياةُ الأنبياء أعلى وأتم، وحياةُ الصحابة دونَها ثُمَّ، وثم بخلاف الكافِر، فإنَّهُ مَيْت في قبره بمعنى أنَّه معطَّل عن جميع الخيرات، ليس له غير الويل والثُبور لا بمعنى فناءِ روحِهِ ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى‏}‏ ‏(‏الأعلى‏:‏ 13‏)‏ أمَّا أَنَّهم لا يموتون، فلأن الأرواحَ لا فَنَاءَ لها ولا موت، وأمَّا عدمُ حياتِهِم فلانْتِفَاءِ أفعالِ الأحياء عنهم، وأَفْعَالُ الأحياء هي الخيرات والحسنات، دون الفسق والفجور، كما في الأحاديث‏:‏ «إن الذكر حياة، والذاكر حي، والغافل عنه ميت»، وروى الدَّيْلَمِي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنْشَد مرة قول القائل‏:‏

ليس مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ *** إنَّمَا المَيّتُ مَيتُ الأحياءِ

وما تتصرف الأرواح الخبيثة مِنَ الأفعالِ الخبيثة فلا يُسمى أفعال الحياة، وليست تلك إلا أشياء البركة، ولذا قررتُ فيما مرَّ أَنَّ قوله‏:‏ «لا تتخذوها قبورًا» محمولٌ على الحس، وهو أيضًا نحو من الواقع أو يقال‏:‏ إنَّه باعتبار حال العوام وإلا فَحَال الخواص قد عَلِمْتَه أنَّهم يُصَلُّون ويحجون، فقبورُهم معمورة عن العبادة فلا معنى للنهي‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الحياة في حديث البيهقي إنَّما هي باعتبار الأفعال، ولذا كلما ذُكِرَ في الأحاديث حياة أحد ذُكِرَ معه فعل من أفعاله أيضًا، ليكون دليلا على وجه الحياة، أما حياة نَفْسِ الرُّوح فهي بمعزل عن النَّظر‏.‏

باب‏:‏ الحِلَقِ وَالجُلُوسِ فِي المَسْجِد

إنَّما نهى عن الحِلق يومَ الجمعة لئلا يَضيق الطريق على المارين، فلو كان المسجد وسيعًا جاز‏.‏

472- قوله‏:‏ ‏(‏وهو على المنبر‏)‏ والعَجَب أَنَّ الحديثَ رُوِيَ على المِنْبَر ولا يَرويه غير ابنِ عمر رضي الله عنه وكان يتبادر إلى الذِّهن أَنْ يرويه غيرُ واحد منهم، ويدخل فيه المسألتان‏:‏

الأولى‏:‏ أفضلية المثنى أو الرُّباع، والثانية‏:‏ مسألة الوتر‏.‏

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الأُوْلى‏:‏ إن الرباع أفضل في المَلَوَيْن‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ المَثْنَى أفضل فيهما، وقال صاحباه‏:‏ الرُّباع في النَّهار، والمَثْنَى في الليل، وهو الأقوى حديثًا‏.‏ واستدل الشافعية رحمهم الله بحديث الباب، وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمام رحمه الله وقال‏:‏ إنَّ مثنى معدول مِنَ اثنين فصارَ بالتكرار أربعًا وهو مذهب الحنفية‏.‏

قلتُ‏:‏ قد صرَّح الزَّمْخَشَري في «الفائِق» أن مَثْنَى ههنا مجرد عن معنى التَّكْرَار ومعناه اثنين فقط، ولذا احتيج إلى تَكْرِيره، على أنَّ ما ذكره الشيخ وإنْ كان نافعًا في مسألةِ التَّطوعِ لكنَّه يضرنا في مسألة الوتْرِ جدًا، وغفل عنه الشيخ رحمه الله وهو أَنَّ صلاةَ الليل إذا كانت أربعًا فبإيتارها بواحدة يحصل الوتر خمس ركعات، بخلاف ما إذا كانت مَثنى فإنها بعد الإِيتار تَحْصُل ثلاثَ رَكعات، وهي ركعات الوِتْر عندنا، ولعلَّ الشيخ زعم أنَّ الحديثَ هذا القَدْر فقط «صلاةُ الليل مَثْنَى مثنى»، وهكذا رَواه بعض الرواة أيضًا كما روى الآخرون القِطْعَة الأخيرة فقط‏:‏ «الوتر ركعة من آخر الليل»، فَأَوْهَم أنَّهما حديثان مستقلان، فَحَمَل الشيخُ القِطعة الأُوْلى على مذهبه في التَّطوع، وحَمَل الشافعيةُ رحمهم الله تعالى الثانيةَ على مَذْهبهم في الوِتْرِ مع أنَّ الحديثَ واحدٌ فَصَلَهُ بعض منهم، وهاتان قِطْعتان مختصرتان من المُطَوَّل لا أَنَّهما حديثان، فبناء المسألتين يَنْبَغِي أَنْ يكونَ على المُطوَّل على أنَّه سئل عنه ابن عمر رضي الله عنه عند مُسْلِم ما مَثْنَى‏؟‏ فَفَسَّرَه أَنْ تُسَلِّم في كلِّ رَكعتين‏.‏

فالجواب‏:‏ ما ذكره ابنُ دقيق العيد أَنَّ الجمهور وإنْ حَمَلَهُ على بيان الأفضل، لكنَّه يَحْتَمِل أَنْ يكون للإِرشاد إلى الأخف، إذِ السَّلام بين كلِّ رَكتين أَخفُّ على المُصلِّي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الرَّاحة غالبًا، وقضاءِ ما يَعْرِض من أمرهم‏.‏

قلتُ‏:‏ وما أَدَّاه ابنُ دقيق العيد احتمالا هو المراد عندي، وحاصله‏:‏ أَنَّ للمصلِّي حالان‏.‏

الأول‏:‏ أَنْ تكونَ لَهُ وظيفةٌ راتبةٌ من ابتداء الأمر بأنَّه يُصلِّي كذا من الرَّكعات مثلا‏.‏

والثاني‏:‏ أنْ لا يكون كذلَك، بل كان الأمر إليه كيفما شاء، تَدَّرَج من الأقل إلى ما شاء الله‏.‏

فالحديث إنْ كان واردًا على الاعتبار الأوَّلِ دل على مطلوبية المَثْنَى البتة، لأنَّه يكونُ حينئذٍ تعليمًا مِنْ جانبِ الشارع لأداءِ وظيفتِهِ كيف يُصَلِّيها، فعلَّمه أَنَّه يصليها مَثْنَى مَثْنَى ويتبادر منه استحبابه، وإنْ حملناه على الاعتبار الثاني فلا يدل على الاستحباب أصلا بل يكون بناءً على أَنَّ مَثْنَى أَقلُّ صلاةِ الليل، ولذا كرره ليدُل على أنَّ ذلك إليه مهما جاء بِشَفْع ثم جاء بشفع آخر تدرجًا على انتظارِ الصبح فعل، ولذا شَرَع مِنَ الأقلِّ لأنَّه قد لا يجد إلا مَثْنى مرةً، وإذا لم تَتَعيَّن وظيفة، ولا أَعطاه الشارع عددًا معينًا من عنده، بل تَرَكَهُ على قَدْر طاقته وفُسْحَةِ وقته جاءَ التَّعبيرُ هكذا، فظهر أَنَّ التصدير بالمَثْنَى ليس لكونِهِ مطلوبًا بل بناءً على الأقلِّ لأنَّه لا يَعْلَم أَنَّه كم يُدْرِك فَإِنَّما الأمرُ فيه إلى المُصَلِّي كيف شاء صَلَى، وجاء يزيد شيئًا فشيئًا حتى إذا هَجَمَ عليه الصبح أو أَرَادَ النوم يُوتِر بواحدة، وبعبارة أُخْرى أنَّ الشيءَ قد يُذْكَر لاعتبارهِ في نفسه، وقد يُذْكر لا لاعتباره في نفسه بل لِدَفْعِ إيهام المضرَّة عند ذكر جانب مخالفِهِ‏.‏

وذِكْر المَثْنَى من قبيل الثاني لا مِنْ قبِيل الأوَّل ليدُل على اعتبارِهِ واستحبابه، وذلك لأنَّه لو ذَكَرَ الأربع لأوهم أنَّه الراجح، وربما أمكن أَنْ لا يكونَ مقصودًا لأنَّه واقعٌ في الوسط، وترك الأول والتنزل إلى الوسط يَحْتَاج إلى نُكتة قطعًا، بخلاف ما إذا بُدِىءَ بالمبدأ والأقل، فإنَّه على الأصل غير محتاج إلى نُكْتة، لأنَّ البدايةَ بالمبدأ طريقٌ معروف، كتعريف المبتدأ وتنكيرِ الخبر ولا سيما إذا كان ذِكْرُه جَرَى تبعًا فقط، لأنَّ الحديث على ما يَظْهر سِيق لبيان صفة إيتار صلاة الليل بالواحدة كما هو مصرح في لفظِ مسلم‏:‏ «أنَّ سائلا سأله فقال‏:‏ يا رسول الله كيف أُوتِر صلاةَ الليل‏؟‏ فَجَعَل السؤالَ في الإِيتار لا في صلاةِ الليل، فقال‏:‏ «من صلَّى صلاةَ اللَّيلِ فليصلِّ مَثْنَى مَثْنَى‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وكأنَّه كان يَعْلَم صلاةَ الليلِ والوترِ من قَبْل، وإنَّما أُبْهِم عليه كيفية إيتارها، هل يُوتر في الأوَّل أو الآخِر أم كيف يفعل‏؟‏ فأَرْشَدَه إلى أَنَّه يُوْتِر في الآخِر، ويكونُ بذلك موترًا لجميع صلاةِ الليل‏.‏ وفَهِمَ الحافظُ رحمه الله تعالى أَنَّ سؤاله عن صلاةِ الليل وعددها خاصة، فَأَرْشَده النَّبي صلى الله عليه وسلّم إلى أَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى ولا يكونُ إذن ذكره إلا قصديًا ويتبادر منه استحبابه لا محَالَة؛ وإذ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السؤال لم يَقَع عن صلاةِ اللَّيل نفسِهَا بل عن إيتارِهَا، تَبَيَّن لك أَنَّ ذِكْرَ المَثْنَى تمهيدٌ لقوله‏:‏ «فإذا خَشِي أَحدكم الصُّبْحَ فليوتر بواحدة»، لا أنه مقصودٌ، فلا يَتِمُّ ما رامه الحافظُ، ولذا لمَّا سُئِلَ أبو داود عن صلاةِ الليل، قال‏:‏ إن شِئْتَ مَثْنَى وإنْ شِئْتَ أربعًا‏.‏ كذا في سننه من باب صلاة النَّهار‏.‏

وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في تفسير المثنى يخالفهُ ما رواه الترمذي في تفسيره مرفوعًا «من التخشّع في الصلاة مَثْنى مثنى تشهد في كل رَكعتين» إلا أنَّ في المسند أنَّه قال في جواب سائل صلاة الليل‏:‏ «مثنى مثنى تسلم في كل ركعتين» فَجَعَل التفسير بالسَّلام مرفوعًا، وفيه تردد لأنَّه عند الأَكْثَرِ موقوف فلعله مُدْرَج، وكذلك في حديث التخشع زيادة‏:‏ «وتَشْهَد وتُسلم في كلِّ ركعتين»‏.‏ والحديث إنْ كان مِنْ مُسْنَد الفضل بن عباس كما صوَّبه البخاري فليس فيه التقييد بصلاةِ الليل ولا زيادة السَّلام، وإنْ كان من مُسند المطلب ففيه ذلك، وقد أَخْرَجَه في المُسْنَد عن مسنديهما كليهما، وهذا كلام في صلاة الليل ما الأفضل فيها مثنى أو رباع‏.‏

بقيت مسألة الوتر، فاعلم أنَّ الشافعية حَمَلوا قوله‏:‏ «صلِّي رَكعة واحدة توتر له» على الفَصْل‏.‏ فالوتر ركعة واحدة‏.‏ قلت أوّلا‏:‏ قال ابنُ الصَّلاح‏:‏ إنَّه لم يثبت منه صلى الله عليه وسلّم الاقتصارَ على واحدة، ولا يُعْلَم في روايات الوتر مع كَثْرَتِهَا أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أوْتَر بواحدةٍ فحسب، كذا في «التلخيص» وتعقبه الحافظ رحمه الله تعالى بما ليس بشيء، وإذن حَمْلُه على الإيتار بالواحدة حمل على مسائلهم، والذي يتحصل بعد المُرَاجَعَة إلى جميع الألفاظِ أنَّه نحو تعبير وأداء ملحظ فقط لا بيان مسألة الفَصْل والوَصْل فليراعه النَّاظر، فإنَّ الرَّاوي قد يُؤدي طرفًا من الكلام ويحمله آخر على طرف آخر، فيفقد مراده، ويكونُ من باب توجيه القائِل بما لا يَرْضَى بِهِ قائله‏.‏

ألا تَرى أنَّ عائشةَ رضي الله عنها تروي الإِيتار بالوَاحدة وهي التي تصرح بأنَّه لم يكن يُسَلِّم بين رَكعتي الوتر، فهل تَرَاهَا تُناقض قولها، أو تلك تفنن في العبارات، وطرقٌ في العد والحسبان، فأرَادَت تارةً أنْ تَدل على أنَّ الإيتار في الحقيقةِ إنَّمَا تتقوم بالواحدة وإنْ كانت رَكعات الوتر ثلاثًا بدون السَّلام بينهن، إلا أنَّ صِفَة الإيتار إنَّما حَصَلت فيها من جهة الواحدة الأخيرة، وهذا أمرٌ بديهي يَعْلمه البُله والصبيان، أنَّ الإيتار لا يَحْصُل إلا بِهَا فلم تَتَعرض فيه إلى مَسْأَلةِ الفصل والوصل، والسَّلام وعدمه، وإنَّما أَرَادَت أنَّ صلاة الليلِ إذا كانت مَثْنَى مَثْنَى فكيف صارت وِتْرًا، فَدلَّت على أنَّ الواحدة الأخيرة هي التي تَتَقوم بها صفة الإيتار فهي موترة، وأَوْهَمت عبارتُها الفَصْلَ بالسَّلام ولم يكن مرادها‏.‏

ولذا انحلت ثلاث الوتر إلى شفع ووتر، لأنَّ الوترَ في الحقيقة هي الواحدة بمعنى أنَّ صفةَ الإيتار في مثناه إنَّما جاءت من قِبَلِ تلك الواحدة، وأرادت تارة أنْ تُقَسم صلاةَ الليل إلى حِصَص لإظهار الوَقْفَة في البين كأربع أربع، أو بين صلاةِ الليل والوتر، وإذن كان محط كلامها إفراز حِصة حصةٍ لا بيان الشَّفْعية والوتْرِيَّة كما كان في الصورة الأولى، فلم تحل الوتر إلى جزءين‏.‏ وقالت‏:‏ يُصلِّي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» إلى أن قالت‏:‏ «ثم يصلِّي بِثلاث»، ونزلت تارة على التصريح بِمَسْأَلة السَّلام فصدعت أنَّه لم يكن يُسلم في رَكعتي الوتر كما عند النَّسَائي، فوقعَ الأمر أنَّه كما رَجَحَت كفة طاشت الأخرى فليعتبره‏.‏

ثم اعلم أنَّ الأصل الذي لا محيد عنه أَنَّ أمرَ الفصل والوصل يدور على وَحْدة الصَّلاة وتعددها، وهو يدور على تسميتها باسم مُخْتَص، والوتر عندنا اسم لثلاث رَكَعَات بسلام واحد، وجَعْل الشَّفْع السابق من الوتر مع الفصل بِسَلام لا يَرْجِع إلى حقيقة، فإنَّ مَنْ فَصَلَ وسلَّم فقد أَوْتَر في الحقيقة بركعة واحدة، وإطلاقُ الوترِ على ثلاث ركعات على هذا التقدير مجرد اعتبار ذهني، لأنَّ حال هذا الشَّفع حينئذٍ كحال الشفعات قبله لا فَرْقَ بينه وبيٌّها، فإنْ ثبت أنَّ الوتر عبارة عن ثلاثِ رَكَعَات لَزِمَ أَنْ تكون تلك الواحدة موصولة بشفعها، لأنَّها لو كانت مفصولة كانت هي الوتر ولا يبقى لها علاقة مع الشَّفع الذي قبلها‏.‏

اللهم إلا باعتبار الذهن، وإنْ ثَبَتَ اأنَّه عبارة عن رَكعة وَجَبَ أنْ تكون مفصولة قطعًا فإنَّها هي الصَّلاة المعتبرة الموسومة باسم مُسْتَقِلَ على هذا التقدير، فلا معنى لاعتبار الشُّفْعَة السابقة معها، وعليه يدور حديث «مِفْتَاح الصَّلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسلم»‏.‏ يعني أنَّ الصَّلاةَ الواحدةِ تكون لها تحريمة تَدْخُل بها فيها، وتحليلا تخرج عنها، فإذا كَبَّرْتَ فقد دخلت في الصَّلاة، وإذا سلَّمْتَ فقد خرجتِ منها، فإذا كانت الصَّلاة واحدة تكون تحريمتها وتحليلها أيضًا كذلك، لا أنَّها تَبْقَى واحدة، ولو سَلَّمْتَ في خلالها فالصَّلاة الواحدة لا تَتَحمل إلا تسليمة واحدة كما لا تَتَحمَّل إلا تحريمة كذلك، وحينئذٍ لو سَلصمتَ فِي ركعتي الوتر لا تكون المجموع صلاة واحدة، فَأَمْر الفصل والوصل يبْني على وحدة الصَّلاة، لا على هذه التعبيرات التي جاءت على ملاحظ مختلفة‏.‏

وإذن حديث‏:‏ «إذا خَشَى أحدكُم الصُّبْح صلى رَكعة واحدة توتر له ما قد صلى»، على شاكلةَ ما عندَ الطَّحاوي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا‏:‏ «مَنْ أَدْرَكَ من صلاةِ الغداة رَكْعة قبل أنْ تَطْلَعَ الشمس فليصلّ إليها أخرى»‏.‏ فهل ترى تلك الرَّكعة مفصولة أو موصولة فكما أنَّ تلك الرَّكعة موصولة لأنَّها اعتُبرت جزءًا من صلاة الغَداة وهي صلاة واحدة مُسَمَّاة باسم منفرد، كذلك الركعة في قوله‏:‏ «صلى رَكعة واحدة» موصولة مع الشَّفْع الذي قبله لكونها جزءًا لصَلاةٍ واحدة مسمَّاة باسم الوتر، وهو ثلاث رَكعات عندنا‏.‏

وإنَّما أوردناه نظيرًا على معناهُ المشهور، وإلا فالأمْرُ عندي ليس كما زعموه، وفيه كلامٌ طويل ذكرته في موضعه، وما يدلك على كَوْنِ الثَّلاث صلاة واحدة تَمَيزُهَا بالقراءة مِنْ صَلاةِ الليل، والصَّلاة الواحدة المفردةِ بالاسم المتميزة بالقراء لا يُعرف فيها الفصل، فعند الترمذي وغيره عن ابنِ عباس رضي الله عنهما «كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم يقرأ في التر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، في رَكعة رَكعة» اه‏.‏

ثُمَّ الشَّارع إذا لم يُعْطِ لهذه الواحدة ما يَخْتَص بها مِنْ طريقة، ولم يَذْكُر لها تحريمة على حِدَةٍ نجعلها مما قبلها ونَصِلها بها مشيًا على لفظه متى أردنا الانصراف، ولا نزيد سلامًا من عندنا لأنَّه أَمَرَنَا عند إرادة الانصراف أنْ نوتر بواحدة فلا نَزَيد عليِ شيئًا مِنَ الصَّلام، بل نقوم كما نحن بدون سلام، ولا نعدها صلاة على حِدَة، بل ندعها على حال التَتِمّة من الشَّفَع الذي قبله إلا الأشفاع السابقة قد فُصِلت قبل هذه الإرادة بخلاف هذا الشَّفع الأخير وعليه سَنَحت لنا إرادة الانصراف، وعند ذلك أُمِرْنا بالرَّكعة فنكْتَفِي بما أمرنا ونعدها كالتتِمَّة لما سبق، فتكون موصولة لا مَحَالة كما زيد في صلاة الحضر وكانت تتمة موصولَة لا مَفْصُولة، كذلك تلك الرَّكعة كانت كالتتمة فلا نَفْصُلها‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّه أبرز الواحدة على حِدة فِي العبارة فقط لا على الفَصلِ فِي العمل، وإنما لم يقل‏:‏ فليوتر بثلاث من أول الأمر، لأنَّ له مكنة أَنْ يوتر بواحدة، أي مثانية شاء فله أنْ يوتر مثناه الأول أو الثاني إلى غير ذلك، فالمقصود هو الإِيتار فِي الآخرِ، ولا بد أنْ يكونَ هناك موتَرًا- بالفتح- ليوتره وهو الشَّفْع، وإذا كان أقل ما يوتره هو الشَّفْع خَرَجَ أنَّ الوتر ثلاث، وإذا كان صلاة برأسها خَرَجَ أنْ لا تَسْلِيم بينها، بَقِي الأحاديث على تصريح الثَّلاث فكثيرة مسرودة في مواضِعها، وإنما أردنا ههنا أنْ نَتَكَلم على ألفاظِ هذا الحديث فقط، ثم قد يتخايل أنَّ الحديثَ يُخالف وجوبَ الوتِر لأنَّه إذا جَاءَ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى فإذا بلغ إلى المَثْنَى الأخيرة وهَجَم الصُّبْحِ، يزيد رَكعة واحدة أخرى على نص الحديثِ، ويكون ذلك وترًا لهُ مَعَ أنَّهُ لم يَنْوِ إلا تطوعًا، فإمَّا وهَجَم الصُّبْح، يزيدَ رَكعة واحدة أخرى على نص الحديثِ، ويكون ذلك وترًا لَهُ مَع أَنَّهُ لَمْ يَنوِ إلا تطوَعَا، فإمَّا يلزم أنْ تكونَ هذه مثل صلاة الليل فِي النِّية فينحَط الوتر عن رُتبته، أو تَتَرَقَى صلاةُ الليل عَنْ رُتبتها‏.‏

قلتُ‏:‏ إنَّما عَلَّمَهُ الشارع بهذا الحديث مسألةُ إيتار صلاةِ الليل واختتامها ب، أمَّا مسألة النِّية فكما سلكته الشريعة في سائر الصَّلوات لم يُعْطِ فيها تفصيلا في هذا الحديث، والنِّية عبارة عندهم عن إرادةِ إدخال المسمُّى في الوجود مثلا‏:‏ أُصلي الوتر أو الظُّهر أو العصرِ، أمَّا كونه فرضًا أو واجِبَاٍ فأمرٌ يَلْحَقُه مِنْ خارج، وليس داخلا في نفسة النِّية، فإذا سَمَّت الشريعةُ صلاةً باسم على حِدَة وبيَّنت صفتها وهيأتا وميَّزَتْهَا عن سائرِ الصَّلوات كفى له في أمرِ النِّية إدخالها في الوجود فقط ناويًا مسمَّى ذلك الاسم، وهو الذي أراده الفقهاء من قولهم‏:‏ والشَّرط أنْ يَعْلَم بقلبه أي صلاة يُصلِّي، فهذا القَدْر هو المعتبر عندَهُم في النِّية، وإنَّما عَلَّم الشارعُ هذا السائلَ أنَّ وِتْرَه يَتَضَمَّن شَفْعَا ووترًا‏.‏ والمجموعُ وتره ليكون على علم منه في مستقبل الزمانِ، وليكون على أهبة مِنْ أمْرِهِ قَبْلَ هجوم الصُّبْ عليه، فهو يُصلِّي صلاةَ اللَّيل وينوي في آخرها ما قد تَعلَّمه وحَفِظَه وترًا في الهيأة مَنْ أوَّل الأمر، وهذا يَكْفِي في أمر النِّيةِ أي كفاية‏.‏

وأمَّا فَرْض أَنَّهُ فَرْض أَنَّهُ يُصلَّي ذَاهِلا عَنْ أَمْرِ والتر فإِذَا هَجَمَ الصُبح ولم يَبْقَ إلا مِقْدَارَ رَكعة بادَر إلى والتر، فَهَذَا فَرْض لا يقع في العمر مرة فخشية الصبح وإدراكه المُصلي طريقة بيان فقط، ونحو التعبير يأتي في تعليم من لا يَعْلم هكذا إلا أنَّهُ يُجزيه كذلك كل يوم فِي عُمْرِهِ ويستعمله طُول دَهْرِهِ‏.‏

472- قوله‏:‏ ‏(‏واجعلوا آخر صلاتِكم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ على اللَّغة الصَّرْفَة، ولم يرد بالوتر الصَّلاة المعهودة المُتَمَيرة باسمِ على حِدَة، وإلا لَقَالَ اجعلوا الوتر آخِر صلاتِكُمْ، والأمرُ فيهِ على الاستحبابِ لا على الوجوبِ، فهوَ لَتَحْصِيلِ فضيلة الإِيتار في الآخر، وإنَّ الله وتر يحبُ الوتر، وَحَمَلَهُ بعضُهم على ظاهره حتى ثال بنقضِ الوتر، فَمَنْ كانَ لأتر في أول الليل‏.‏ ثم استقيظَ فِي آخره وبدا له أَنْ يُصلِّي صلاةَ الليلِ، عليه أَنْ يَنْقُضَ وِتْره برَكْعة ثم يُتر في آخرِ صلاتَهُ لأجل هذا الحديثِ‏.‏ وقد عَلِمت أنَّ الآخِريَّة مطلوبة لكن لا بحيثُ يُوجب نَقْض المُؤَدَّى، وكذلك لا يذهب وَهَلَك إلى أنَّ الوتر لمحض محبة الإِيتار وليست صلاة بَرَأْسِهَا، فإذا لم تجب صلاةُ الليلِ كيف تجب الوتر لأَنَّهَا صارت صلاة برأسها أيضًا، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّ الله أَمَدَّكم بصلاةٍ هي خير لكم منن حُمْر النِّعم» وأَمَرَ غير واحد منالصحابةِ أنْ يُصلُّوها بعد العشاءِ إذا لم يثقوا بالانتباه في آخرِ الليل، فدلَّ على أنَّهَا صلاة مستقلة كوتر النَّهَارِ وهي صلاةُ المغرب، وإنَّما اشتبه الأمرُ ولم يَتَمَيَّز إذا كانت فِي آخرِ صلاة الليل وعُدَّت من سلسلتها، وأما إذا نُقلت إلى أول الليل تميزت عن غيرِهَا كما تميزت بإِفراد قرابتها ورَكَعاتها وقضائها‏.‏

باب‏:‏ الاِسْتِلقَاءِ فِي المَسْجِدِ، وَمَدِّ الرِّجْل

وإنَّما نهى عنه لِمَخَافَةِ الانكشاف إذا لم يَتَحفَّظ أمره، فإن كان متيقظًا متحفظًا لحاله جاز، ومِنْ عَلِمَتَ أنَّ الحكم في الشريعة قد يَرِدُ على علة ولا سجب تحققها في كلِّ فَرْدٍ، نعم يجب في الجنسِ أو النَّوعِ المنضبط، وقد يَنْقَسِم الحُكم على العِلَّةِ كَمَا تَرَى ههنا في الاستلقاء‏.‏

باب‏:‏ المَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيرِ ضَرَرٍ بالنَّاس

يعني إذا بَنَى أحد مسجدًا في طريق ومَمَرِّ النَّاس ولم يكُن منهُ ضررًا لأحد جاز، وضَيَّقَ فيه فقهاؤنا إلا عند إذن الوالي أو القاضي كما في إحياء الموات‏.‏ قلتُ‏:‏ والأقربُ عندي أنْ يقسم على الحالات، فإنْ ظَهَرَت فيهِ مماكسةِ مِنَ النَّاسِ يَنْبَغِي أنْ يتوقف على الإذن وإلا لا، وهذا أيضًا مِنَ الأشياء التي لا يَنْبَغِي إدْخَالُهَا في الفِقْهِ، وقد نَبَّهتكَ على أنَّ مَنَ لا يَدْخُل تحت مسائِلِهم ويصح، ويجري على طريق المروة‏.‏

فالحاصل‏:‏ أَنَّ المسائلَ قد تَخْتَلِف باعتبارِ عادات البلدان أيضًا أيضًا فلينظره أيضًا‏.‏

حكاية‏:‏ كَتَبَ الشاه ولي الله رحمه الله تعالى في ترجمة ميرزا الهروي وكان والده تلميذًا للهروي، فَذَكَر أنَّ الهروي كان قاضيًا في بلدة آكره فصنع للشاه عبد الرحيم رحمه الله تعالى طعامًا، وكان شهر رمضان فَحَضر وقت الإفطَار، فَسَمِعَ صوت رجلٍ يبيع الكَبَاب فدعاه واشْتَرَى منهكَبَابَا، فقال له الشاه عبد الرحيم رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّهُ بَاعَ منك بأنقص من ثمنه المعروفِ، فلمَّا نظر فيه الهروي عَلِمَ أنَّه كذلك، فلمَّا سأله قال له‏:‏ إنَّما فعلته رجاء أنْ تُرَاعِي في حُكْمِك، فإنَّ قطعة من دُكَّاني كانت نحو الطريقِ، فأَمَرْتَ بهدمها، فراعيت معك في الثمن لعلك تراعي في حُكْمِكَ أيضًا، فقال لَهُ الهروي‏:‏ ويلك لقد أفْسَدت علينا صومنا من رشوتك هذه‏.‏

قلت‏:‏ فهذه ديانة أهل المَعْقُول في الزمان الماضي ولن تَرَ مثلها اليوم ممن كان مُحدِّثًا أو فقيهًا فيا أسفًا كيف انقلب الزمان ظهرًا لبطنَ والله تعالى هو المستعان‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ فِي مَسْجِدِ السُّوق

وهذا ناظر إلى كونِ الأسواقِ شَرُّ البقاع، وهل يَحْصُل فيه تضعيف الأجر وثواب الجماعة أوّ لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصلَّى ابن عون‏)‏ وقد مَرَّ مني في «شرح المُنية» أَنَّ الم2لِّي في البيت مَعَ الجماعةِ لا يُعد تاركًا، لها نعم يُفوت عنه فضل الجماعة‏.‏

477- قوله‏:‏ ‏(‏صلاته في سوقه‏)‏ وظَنِّي أنَّ الحديث سِيقَ بناءً على عادَتِهم في عَهْدِ النُّبوة مِنْ أَنَّ المساجدَ لم تكْنِ في أسواقِهم، فإِذَا كانت أسواقُهم خالية عن المساجد لا تكونُ صلاتُهم فيها إلا منفَرِدين وعلى هذا يُقَابِل صلاةُ الجميع بصلاتِهِ في صوقِهِ بناءً على أنَّه منفرد في سُوقِهِ كما في البيت وليس مِنْ بابِ تَقَابل الجماعة بالجماعة في السُّوقِ، نَعَم لو فُرِضَ أنَّ أحدًا بَنَى مسجدًا في السوق ماذا يكون حكمه‏؟‏ فجوابه على قواعد الشريعة أنَّه يَصيرُ مسجدًا ويَحْصُل فيه ثواب الجماعة، وحينئذٍ ترجمته ليست مستفادة من الحديث‏.‏

ثم علم أنَّ صلاةَ الجماعة واحدةٌ بالعددِ عندنا، لا صلوات بعدد من فيها كما هي في العرف والعادة وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «أعجبني أنْ تكونَ صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة» وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 9‏)‏ فصلاة الجماعة مفردة لا تثنية ولا جمع، وإنما يحللون إليها حيث دعت إليه حاجة، ولذا قال‏:‏ صلاة الجميع ولم يقل صلوات الجميع وهي عند الشافعية رحمهم الله تعالى عبارة عن الصلوات المجتمعة في المكان الواحد مع وظيفة كلٍ على حِدَة، فالمقتدرون كلُّهم أمراء أنفسهم وكل على حيالهم، وإنَّما يتبعون الإمام في الأفعال فقط حتى إنَّ فَسَادَ صلاة الإِمام لا يَسْرِي إلى صلاتهم، فهذا هو حقيقة الجماعة عندهم‏.‏ إذا علمت هذا فاعلم أنَّ حديث‏:‏ «لا صلاة‏.‏‏.‏» إلخ لا يَصلُح أن يُحْنَج به على قراءة المقتدي، لأنَّه لا يدل إلا على فاتحة واحدة في صلاة واحدة، وقد قلنا به، فإِنَّ قلنا به، فَإِنَّ صلاة الجماعة صلاة واحدة بالعدد في نظر الشريعة، وحيئنذٍ لا تجب صلاة واحدة، وقد قلنا به، فإِنَّ صلاة الجماعة صلاة واحدة بالعدد في نظر الشريعة، وحينئذٍ لا تجب فيها إلا فاتحة واحدة وقد كَفَاها الإِمام‏.‏ وسيجىء الكلام في موضعه‏.‏

477- قوله‏:‏ ‏(‏خمسًا وعشرين‏)‏ وجَمَعَ الحافظُ رحمه الله تعالى بين خمس وعشرين وسبع وعشرين بحمل الأوَّل على السِّريَّة، والثاني على الجهرِيَّة، ثم دار البحث في أَنَّ الفضل المذكور بين المنفرد وبين المصلي بالجماعة، وبين المسجد والبيت، فأقام الشيخ تقي الدين ههنا بحثًا أصوليًا وقال‏:‏ إنَّ قوله «فإِنَّ أحدَكُم‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ علة منصوصة فلا يجوز إلغاؤها، وحينئذٍ يَختَص تضعيف الأجر بمن أتاها من البعد فلا يحصل التضعيف لمن صلى في بيته بالجماعة‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذه الأشياء وإنْ كانت دَخِيلة في التضعيف لكنَّها ليست مناطًا له، فإِنَّ الحديث إنَّما وَرَدَ على عُرْفِهم فإِنَّهم إذا طَعِموا في إدْرَاكِ الجَمَاعة لم يكونوا يُصلُّونَها في البيوت، وكانوا يَذْهبون إلى المساجد فإِنْ فاتتهم الجماعة صلُّوها في البيوت فجماعتهم لم تَكُن إلا في المسجد، ولم تَكُن في البيت إلا الصَّلاة منفردًا، وقد تغير العُرف فِي زماننا فجَعَل بعضُ المترفهين يَجْمَعُون في بيوتهم وليس الحديث على هذا العُرف، وبالجملة ينبغي للمجتهدِ أنْ يُدير التضعيف وعدمه على الاجتماع والانفراد دونَ المسجد، والبيت، وكذلك ورد في الحديث وضوءهم على عادتهم في الإِتيان إلى المساجد، لكونِهِ مناطًا حتى إذا لم يأتِ مِنْ مكانهِ متوضئًا أَوْ أَتَى من مكانٍ قريب أو صَلَّى في بيتهِ بالجماعة أَدْرَك هذا الأجر فليخرج المناط وليحترز عن المشي على القواعد فقط‏.‏

ثم الحديث إنما سيق لبيان الفَرْقِ بين حال الانفراد والاجتماع، أمَّا إذا كانت الجماعة قليلة والأخرى كثيرة، فإنَّ الثانية للفضل على الأولى بعدد مَنْ فيها، كذا في أبي داود، والعَجَب من بَعْضِ الشَّافعية حيث تمسكوا من حديث الباب على نية الجماعة بأنه إذا كان لِصَلاةِ المنفردِ أجرًا واحدًا دلَّ على اعتبارِهَا وعدم القصور فيها عند صاحبِ الشَّرع، وإنَّما الجماعةُ لمعنى الفضل لا غير، أقول‏:‏ ذكر أجر المنفرد جرى في ذيل الحساب لا لما فَهِمُوا وليحذر عن الاستدلال بما يُذْكَر في الحسابِ والتشبيهات، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلّم عند الترمذي «في كلِّ أربعين درهمًا درهم»، هل ذَهَبَ أحدٌ إلى إيجابِ درهم واحد في أربعين‏؟‏ وذلك لأنَّه ذُكِر لبيان الحساب فقط لا لبيان النِّصاب، فالخمسة في المائتين بحساب دِرْهَم في كل أربعين، فالأحكام والمسائل عند ذوي الألبابِ تُؤْخَذُ من الخطاب لا مما ورد في صَدَر الحساب‏.‏

477- قوله‏:‏ ‏(‏ما دَامَ في مجلسه‏)‏ أي لانتظار صلاةِ أخرى أو لتلك الصَّلاة، وقد وَرَدَ عن السَّلف بالنحوين‏.‏

88- باب تشْبِيكِ الأَصَابِعِ فِي المَسْجِدِ وَغَيرِهِ

وما نهَى عنه إلا لأَنَّهخ هيئة قبيحة، ونَهَى عنه في أبي داود عند إتيانِهِ إلى المسجدِ لكونِهِ في الصَّلاةِ حُكْمَا، فإِذَا كان لمعنىً صحيح كما فعله النَّبي صلى الله عليه وسلّم لتمثيل الفتن والهَرْجِ والمَرْجِ فهو جائز، وبالجملة أن التشبيك بدون حاجةٍ ممنوع خارج المسجد أيضًا، وأمَّا من حاجة فجائز في المسجد أيضًا‏.‏

فائدة

ورأيت عن سُفيان الثَّوري أَنَّ المحدِّثين قد كَثروا اليوم، فلو كان فيهم خيرًا لذهبوا كما ذهب سائر الخيرات‏.‏

حديث ذي اليدين‏.‏

482- قوله‏:‏ ‏(‏إلى خشبة معروضة‏)‏ أي واقع في جانب العَرْض، قيل هي الأُسطوانة الحنَّانة، وفي «مسند الدَّاري»‏:‏ أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم لمَّا التزمها وسَكَت صغى إليها وقال‏:‏ «إني كنت خيرتها بين أَنْ أردها إلى مكانها أو أنْ يأكل منها عباد الله في الآخِرة فاختارَت الآخرة»‏.‏ والمرادُ بأكلِ عباد الله منها في الآخرة عندي أن تُدفن في رياض الجنة لأنَّها عندي قِطعةِ مِنَ الجنَّةِ بدون تأويل، فكانت دُفنت جانب القِبلة عَرْضَا ولعلها كانت تُرَى إذ ذاك شاخصة، قال القاضي‏:‏ وكانت هذه الأسطوانة هي الحنانة يعني بعد ما دفنت كانت مرئية إذ ذاك شيئًا منها، ووضِع المنبر يوم دفنت الحنانة‏.‏

وعندي روايات عديدة تدل على تقدم المِنبرَ على البدر بكثير، فتعين أنْ تكون هذه الواقعة قَبْلَ نَسْخِ الكلام‏.‏

482- قوله‏:‏ ‏(‏يقال له ذو اليدين‏)‏ والنَّاس كانوا يَدْعُونَه بذي الشمالين، وإنَّما غَيَّره النَّبي صلى الله عليه وسلّم وسلَّم وقال له ذو اليدين‏.‏

482- قوله‏:‏ ‏(‏ول أَنْسَ ولم تُقْصَرِ‏)‏ أي على ما في ظَنِّي، وهذا غير رَاجع إلى مَذْهَبِ الجاحظ وأوضحه التَّفْتَازَاني فراجعه، واعلم أنَّ أبا هريرة أَنَّه لم يَكُنْ شريكًا في هذه الاقعة لأنَّه جاء في السَّنَة السَّابِعَة وهذه الواقعة قَبْلَ بَدْرٍ، وما يدلك على أنَّهخ لم يَحْضُر تلك الواقعة ما أَخْرَجَه الطَّحاوي عن ابنِ عمر رضي الله عنه بإِسناد قوي أنَّهُ ذَكَر لَهُ حديث ذي اليدين فقال‏:‏ «كان إسلام أبي هريرة بعدما قُتِلَ ذو اليدين»‏.‏ ورواتهُ كلهم ثقات إلا العمري فإنَّهم تَكَلَّموا فيه، لكَنْ صرَّح ابنُ مَعِين أنَّهخ ثقة في نافع، وأمَّا ما رواه أبو هريرة «صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلَّم» فمعناه معاشِرَ المسلمين ولا يُريد به نفسه، ومثل هذه الإضافات وَقَعَتْ في القُرآنِ والحديثِ فلا بُعْدَ فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية ‏(‏البقرة‏:‏ 72‏)‏ يعني آباؤكم أيها اليهود فَنَسَب فعلهم إلى المخاطبين، وَكَمَا قال طَاوس‏:‏ قَدِمَ علينا مُعَاذ بنُ جبل أي قَدِمَ بلدَنا، لأنَّ طاوسًا لم يكُن ولا حين قَدِمَ مُعاذ في اليمين، فإنَّ قُلْتَ‏:‏ وهذا في صيغةِ الجمع سائغ، أمَّا في صيغة المُتَكَلمفلا يُنْسَب ما فعله آباؤك إليك بصيغة المفرد المُخَاطب، فلا يقال في الآية المذكورة إذْ قَتْلَ أَنْتَ أيها الفلان لأنَّهِ يَقْتَضِي إنتساب الفعل إليه حقيقة، والغَرَضُ أَنَّه لا يكون له فاعلا مع أَنَّه ورد عند مُسْلِم «بينا أَنَا أُصليِّ» بصيغة الإفراد فلا تَجْرِي فيه التأويل المذكور‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذا مَهْمٌ عندي قطعًا لأنَّ أكثر الرواة وَرَواهُ بالجمع، فجاءَ واحدٌ فرواهُ بصيغةِ الوَاحدِ روايةً بالمعنى، كيف لا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أبا هُريرة رضي الله عنه لم يُدْرِك تلك الوَاقِعَة، وكان إسلامُ أبي هريرة رضي الله عنه بعد ما قُتِلَ ذو اليدين كما صَرَّح به ابنُ عمر رضي الله عنه؛ وإنْ كان لا بُدَّ لك من التأويلِ، فالأَوْجَه أَنْ يقال‏:‏ إِنَّهخ لا يُريد به شَركته في تلك الصَّلاةِ بَل يُريد بيان تَثَبُّتِهِ بأنَّهُ يَحْفظها كأَنَّه صلاهَا خَلْفَه، وهذا ما يَفْعله الرُّواة عند بيانِ تثبتهم لأمرٍ، فينقلون كأنهم يَرَونَه الآن، فيقول قائل كأني أنظر إلى بياضِ ساقيه، وآخر كَأَنَّي أَرَاهَ يَرْفَع يديه، فهذا كله للتنبيه على مزيد إتقانِه وحفظِهِ فقوله‏:‏ «بينا أَنَّا أُصلِّي» أيضًا مِنْ هذا الوادي، وليس بناءً على أَنَّه صلاهَا حقيقة، ثُمَّ إنَّ ذا اليدين هو ذو الشمالين ولقبه خِرْباق، لأَنَّهُ كان يَعْمَل بيديه واسمه عمير، وهو من سليم ابن ملكان بطن من خزاعة فهو خزاعي كما أَنَّهخ رجلٌ واحدٌ كان يُقال لعه ذو الشمالين وسماه النَّبي صلى الله عليه وسلّم ذا اليدين وهو خرباق وعمير وخزاعى وسلمى، ومن لم يعرف وجه هذا الاختلاف ظَنَّ أَنَّهُما رجلان وقد بيَّنا لك وجه تعدد إسمه ولقبه ونسبته فلا تٍغْفَل، وقد نَظَمْتُهُ في البيتين، بيتان للحنفية وبيتان من جهة الشافعي رحمه الله‏.‏ أما مِنْ جانِبهم فقلت‏:‏

الذي كان شهيدَ البَدْرِ *** ذو الشمالين بنُ عبد عمرو

ثم خِرْباق بن عمرو آخر *** ذو اليدين السلمي ذكروا

ومِنْ جانبِ الحنفية‏:‏

قيل عمرو عبد عمرو واحد *** وابنه هذا عمير قرروا

من سليم ابن ملكان ولا *** ابن منصور فَخُذْ ما حرروا

وأَجْوَدَ شيءٍ ما ذكره النِّيْمَوي في «آثار السنن» أَنَّ أبا محمَّد الخُزاعي قال‏:‏ ذو اليدين أَحدُ أجادِنَا وهو ذو الشمالين هَكَذَا نَقَله عن مسند أبي عبد الله محمَّد بن يحيى العَدَنِي- وذلك لكونِهِ شهادة على اتحادِهَما مِنْ أَهْلِ بَيتِهِ، وصاحب البيت أَدْرَى بما فيها، ولكنَّي كُنت أَرْغَب في أَنْ أَعْرِفَ أَبَا محمَّد الخُزّاعي مَنْ هو فرأيت مرةً رواية عنه في «الدر المنثور»، ثم وجدت تَذْكِرته في «الأنساب» للسَّمْعَاني أَنَّهُ مِنْ أهل الري من ذُرِّية ذي اليدين، عالمٌ نِبيهُ القَدْرِ جليلُ الشأنِ، فلا أرى شهادة أحدٍ تُوازي شهادته، وهذه مَنْ أَجلّ القرائن على كونِما رجلا واحدًا‏.‏ وسنعود إلى بسطه إن شاء الله تعالى‏.‏

482- قوله‏:‏ ‏(‏وسَجَدَ مثلَ سُجُوده‏)‏ وقد عَلِمْتَ مَرةً، أنَّ بَعْضَا مِنَ الرُّوَاة ينفون السَّجدة رأسًا، وقد مَرَّ مني وجهه أَنَّ ذكره وحذفِهِ يُبْنَى على اجتهاد الرُّواة، فمن نَفَاهَا فإنَّما نَفَاهَا لأَنَّها لم تَكُن واجبة عليه حَسَب زعمه، وهذا إنَّما يُسَوَّغ له إذَا كانت تلك الواقعة قَبْلَ نسخِ فلا يكون موجبَا للسجود‏.‏

482- قوله‏:‏ ‏(‏فيقول نبئت أن عِمْرَان بن حصين‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ واعلم أنَّ هُنَاك حديثان حديثِ عِمْرَان بن حُصَيْن رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مع تغاير بينهما، فحملهما النَّووي على تعدد الوقائع حَذَارًا عَنْ لزومِ الإضطراب فِي واقعة واحدة، حَمَلهما الحافِظُ رضي الله على الوَحدة وهو الأصوب عندي، والاضطراب لا ينفعنا، ولا يضر الشافعية، لأَنَّهما يتفقان في إثباتِ الكَلامِ في خلال الصَّلاة وهو المقصود، وإنَّما الاختلافِ في أمورٍ خارجية فلا يَضُرُّ أصلا، وإليه يُشِير هذا الراوي، ولهذا يستمد في حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه من تَفْصِيلِ عِمْرَان بن حُصَيْن، فَدَلَّ على أَنَّهما قِصة عندَهُ، فَإِنْ كان بعضُ أَلْفَاظِهِ لا تَنْزِل على الوحدة فدعها إِنْ كان وُجدَانُك شَهِد بحقيقةِ الحالِ‏.‏

باب‏:‏ المَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ المَدِينَةِ، وَالمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم

وقد مَرَّ نُبْذَة مِنَ الكلامِ على دَأْبِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم باتخاذِ مكانٍ على حِدَة للصَّلاة في سَفَرِهِ، وهذه تُدْعَى المساجد في كتب التاريخ والسِيَر وإنْ لم تكن مساجد عند الفقهاء‏.‏ ثم إنَّ الناس بنوا على بعض تلك المواضِع مساجد بَعْدَ النَّبي صلى الله عليه وسلّم إبقاءً لمآثِره صلى الله عليه وسلّم ولذا يُفَرِّق الراوي بين التعبير، فتارةً يقول في موضِع المسجد، وهذا حيث لم يُبْنَ هناك مسجد، وأُخْرَى يقول في المسجد وهذا حيث بُني المسجد بعده صلى الله عليه وسلّم وكان سَفَره صلى الله عليه وسلّم هذا ممتدًا إلى سبعةِ أيامٍ، فتكون جملة مواضِع صلاتِه صلى الله عليه وسلّم خمسًا وثلاثين، إلا أَنَّ الرُّواةَ ذكروا بعضَها وتَرَكوا أكثرها لداعيةٍ دَعَت لهم‏.‏

واعلم أنَّ هذا الحديث طويل ولم يَتَحَصَّل لنا منه شيء، لأنَّ فيه ذِكر آثار النَّبي صلى الله عليه وسلّم ما قد عَفَت اليوم، وفيه مسألة‏:‏ وهو أَنَّه كيفَ التَّحَرِّي لِمَا صَدَر عنه صلى الله عليه وسلّم اتفاقًا، وما يترشّح من كلام الحافظ ابن تيمية رضي الله عنه أنّهُ يجب فيه التضييق، فاتباع ما صدر عنه صلى الله عليه وسلّم اتفاقًا حسنٌ إذا كان بطريق الاتفاق، وأمَّا إذا تَعَمَّده وتَحَرَّاها فَلَعَلَّه لا يراه حسنًا، وعندي في تَحَرِّي الاتفاقيات أيضًا أجر‏.‏ وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما ممن يتحراها، وإِنْ أنكره جماعة إلا على سنن النَّبي صلى الله عليه وسلّم كَنُزُول المُحَصَّب فإِنَّ ابنَ عمر رضي الله عنه يراهُ سُنَّة، وأَمَّا ابنُ عباس رضي الله عنه فقد اشتُهر في اجتهاده، وكان عمَلُه بخلاف ابنِ عمر رضي الله عنه حتى صارت شدائِد ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏ ورُخَص ابن عباس رضي الله عنهما تُضْرَب بها الأمثال، وهو مراد السفَّاح بقوله حين أمر مالكًا رحمه الله أن يُصنِّف كتابًا‏:‏ اتق فيه بشدائد ابن عمر رضي الله عنهما ورخص ابن عباس رضي الله عنه ووطئه للنَّاس توطئة‏.‏

484- قوله‏:‏‏(‏بذي الحُلَيْفَة‏)‏ على ستةِ أميالٍ من المدينة، ويُقال له اليوم آبار عليّ وهو غير أمير المؤمنين‏.‏

484- قوله‏:‏ ‏(‏وليس عند المسجد‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وهذا يَدُلُّ على محوِ تلك الآثار في زمانِه فكيف بها اليوم‏.‏

486- ‏(‏عِرق‏)‏ منتهى الجبل‏.‏

488- قوله‏:‏ ‏(‏على القبور‏)‏ وثَبَتَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم أيضًا وضع حجرٍ عند رأس قبر عثمان بن مظعون عَلَمًا له، ثم أفرط فيه النَّاس في زمانِنا، وأفسدوا فيه أي مفسدة‏.‏

488- قوله‏:‏ ‏(‏سَلِمات‏)‏ وهو في الأصل لنوع منه‏.‏

490- قوله‏:‏ ‏(‏أدنى مر الظهران‏)‏ ولفظ أَدْنَى صادق على جانبيه، ولذا عينه أَنَّه أَدْنَى من جانبِ المدينة‏.‏

492- قوله‏:‏ ‏(‏نحو‏)‏ ظرف للصفة المشبهة أعني الطويل- والراوي عدد تلك المواضع بقوله وإن عبد الله بن عمر حدث‏.‏