فصل: المحورُ الذي يدورُ عليه الإيمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


المحورُ الذي يدورُ عليه الإيمان

وإذا قد علمت أن التَّصديقَ والتسليمَ والمعرفةَ واليقينَ كلُّها يُجَامِعُ الجحود، فلا بد من تفسير يتميز به الكفرُ من الإيمان‏.‏ كيف وهذا القرآن يشهدُ بمعرفة الكفار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 146‏)‏ وهذا أبو طالب يُقِرُ بنبوتِهِ ونباهته صلى الله عليه وسلّم ويُعْلنُ بها في أبياته، حتى دارت وسارت، فيقول‏:‏

ودعوتَني وزعمتَ أَنَّكَ صادِق *** وصدقت فيه وكنت ثَمّ أمِيناً

وعرفتُ دينَك لا محالةَ أنه *** من خيرِ أديانِ البَرِيَّةِ دِينا

لولا الملامةُ أو حَذَارِ مَسَبَّةٍ *** لوجدتَّني سمحاً بذاك مُبِيناً وهذا هرقل عظيم الروم يقول‏:‏ لو أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه لتجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغَسَلْتُ عن قدميه، وفي «فتح الباري»‏:‏ عن مرسل ابن إسحق عن بعض أهل العلم‏:‏ أن هرقل قال‏:‏ ويحك، والله إني لأَعْلَمُ أنه نبيٌ مرسل، ولكني أخاف الرومَ على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعتُهُ‏.‏ فهل تريدُ من التصديق أمراً وراء ذلك‏؟‏ فلما وُجِد منهم التصديقُ والتسليمُ والإقرارُ بهذه المثابة، وَجَبَ على التعريفِ المذكورِ أن يُحْكم عليهم بالإسلام، مع اتفاقهم على كونهم كافرين‏.‏

فأقول‏:‏ إنّ الجزءَ الذي يمتاز به الإيمان والكفر، هو التزام الطاعة مع الردع والتبري عن دين سواه، فإذا التزم الطاعة فقد خرجَ عن ضلالة الكفر ودخل في هَدْي الإسلام‏.‏ وحينئذٍ تبين لك وجه كفر هؤلاء الكفرة مع تصديقهم ومعرفتهم، وذلك لأن أبا طالب وإن أعلن بحقية دينه، إلا أنه لم يلتزم طاعته، ولم يدخل في دينه، ولذا قال‏:‏ لولا الملامة أو حذار مسبة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فآثر النار على العار‏.‏ وهكذا هِرَقل، وإن تمنى لقاءه وَبجَّلَه وعظمه بظهر الغيب، لكنه خشي الرومَ أشدَّ خشية، فلم يلتزم طاعته‏.‏ وكذلك حال الكفار الذين أخبر الله سبحانه عن معرفتهم، فإنهم مع معرفتهم الحقَ، صفحوا عن كلمة الحق، ولم يَدِينُوا بدين الإسلام‏.‏

ولذا أقول‏:‏ إن الإيمان من الإرادات وترجمته في الهندية ‏(‏ماننا‏)‏ فهذا هو الصواب في تفسيره، فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماعَ على كون هذا الجزء مما لا بد منه في باب الإيمان، وحينئذٍ ينبغي أن يراد من الإقرار في قول الفقهاء‏:‏ الإقرار بالتزام الطاعة‏.‏ وإن كان المراد منه الإقرار بالشهادتين كما هو المشهور، يبقى الإشكال‏.‏

ثم إنهم اكتفَوا بذكر هذه الأشياء، وفسروا بها الإيمان، لأن الإيمانَ بعد تحقُّقِها يتحققُ في أكثر المواد، وإن تخلَّف عنها في بعض، فبالنظر إلى مواد الاجتماع، جعلت كاللوازمِ المساوية له‏.‏ وزعم أنها عين الإيمان، ثم إذا أمعنتَ النظرَ في مادة الافتراق وعلمت أنها ليست بإيمان ولا لوازمَ مساوية له، وجب عليك أن تطلبَ أنَّ حقيقةَ الإيمانِ ماذا‏؟‏ فهذا الذي نبهناك عليه، هو حقيقة الإيمان، وذلك وإنْ لم يقرع سمعُكَ، لكنه هو الصواب إن شاء الله تعالى، فإن هذا الجزء لا يجامعُ الكفرَ بأنواعه، أي نوع كان‏.‏

ونُقِل عن إمام الحرمين رحمه الله تعالى وعن الأشعري رحمه الله تعالى أيضاً كما في «المسايرة»‏:‏ أنّ الإيمانَ كلامٌ نفسيٌ، وكأنهم أرادوا به‏:‏ أن القلب إذا تكلَّمَ بكلمة الشهادةِ وأذعن بها فقد تم الإيمان، لأنه لا يمكن منه الجحود بعده، بخلاف الإقرار باللسان، فإنه يمكن الجحود بعده أيضاً‏.‏ فالإيمان على هذا التقدير ليس عِلماً من العلوم، بل قول من أقوال القلب‏.‏ فقول القلب تصديقٌ وإيمان عندهم، وقول اللسان إقرار‏.‏ ويمكن أن يُحْمَل عليه قول مَنْ قال‏:‏ إن الإيمانَ قولٌ وعملٌ‏.‏ ولست أريدُ أنّه مراد البخاري رحمه الله تعالى أو المحدثين، بل أريدُ أن له وجهاً أيضاً‏.‏ وأما ما نُقل عن إمامنا رحمه الله تعالى‏:‏ أن الإيمان معرفة‏.‏

فالمراد منه المعرفةُ المصطلحةُ عند الصوفية رحمهم الله تعالى، وهي التي تحدثُ بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل‏.‏ وتلك لا تجامِعُ الجحود أصلاً، بل قلما توجد في قلوب عامة المسلمين، وليس المرادُ منها المعرفة اللغوية ونحوه‏.‏

نُقل عن علي رضي الله عنه وأحمد رحمه الله‏:‏ أن الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان‏.‏ وأما ما شَرَطَه جَهْمٌ، فقد ردّ عليه إمامنا رحمه الله، كما نقله أصحابنا، فالمراد من المعرفة ما يستوجب العمل، لا التي تجامع الجحود أيضاً، وهي التي تراد في مواضع المدح، وهي التي من الأحوال والأعمال‏.‏

أما الإيمان أو المعرفة إذا أطلق على غير هذا مما لا يكون معتبراً، فيُحْترسُ هناك ولا يُتركُ بدون تنبيه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 8‏)‏ فنبَّه أن إيمانهم غير معتبرٍ‏.‏ ثم اعلم أنه أطلق في «الإحياء» الحال على الإيمان‏.‏ أقول‏:‏ والأولى لفظ العمل، لأن العمل في اللغة يختص بالاختياري وأما ما يقال‏:‏ «مات زيد»، فمات فعلٌ، فهو اصطلاحُ النُّحاة‏.‏ وأما أهل اللغة فلا يُسمُّونَه فعلاً، وإنما الفعلُ عندهم ما يصدر عن اختيار، فالإيمان فعلٌ اختياري، ولا بُدٌّ، فإن المرء لا يُثاب إلا على ما فعله من اختياره، بخلاف الحال، فإنه يُنبىءُ عن عدم الاختيار، ثم له وجه أيضاً، فإن الإيمان وإن كان عملاً في الابتداء، لكنه بعد الرسوخ يصيرُ حالاً غير اختياري، فإطلاق الحال عليه أيضاً صحيحٌ بنحو من الاعتبار‏.‏

وعن أحمد رحمه الله‏:‏ أنه معاقدةٌ على الأعمال، أي الإيمان عقدٌ، على أنه التزامٌ بأداءِ جميع الأعمال على نفسه‏.‏ أقول‏:‏ وحينئذٍ يكون الإيمان كالوسيلة، والأعمال مقصودة، فإن العقد وسيلةٌ، والمقصودُ هو المعقود عليه، مع أن الإيمانَ من أسنى المقاصد، وبعد اللُّتيا والتي أن الإيمان تصديقاً اختيارياً كان، أو معه تسليم، كلاماً نفسياً كان، أو معرفة، أو معاقدة، لا يفنك عن هذا الالتزام، والطاعة له صلى الله عليه وسلّم في جميع ما جاء به‏.‏ فأما أن يراد بألفاظهم هذا، أو يُزادُ عليها هذا الجزء‏.‏ بقي إصلاح الاصطلاحات والألفاظ، فهذا أمر نَكِلُهُ إليك، ولسنا بصدده بعد وضوح حقيقة الحال‏.‏ والله تعالى أعلم وملمُهُ أتم‏.‏

المَعْرِفَةُ شرطٌ في الإيمان أم لا‏؟‏

فالمشهور عن الأئمة الأربعة رحمهم الله‏:‏ أنها ليست بشرط، بخلاف المعتزلة فإنها شرط عندهم، ومعناه عندهم‏:‏ أن يكون عنده من الدلائل على التوحيد والرسالة ما يوجب اليقين، بحيث لا يزولُ بتشكيكِ المشكِّك، ويجبُ عند أئمتنا اليقين، ولا يجب سُنُوحُ الدلائل معه، وهو الحق، فإنه يُعلم من الصحيحين العبرةُ بإسلام رجالٍ أسلموا في الحروب والسيوف تلمع عليهم‏.‏ وكذلك أمرنا أنْ نَكُفَّ سيوفنا عمن قال‏:‏ لا إله إلا الله، لأنه دليل صادق على رضائه بالإسلام، والترك لدينه، وحسابُهُم على الله، وأين تحضرهم الدلائل في هذا الحين‏.‏ وهذا معنى ما يقال‏:‏ إن إيمانَ المقلدُ معتبرٌ عندنا، فمن آمن تقليداً وأذعن به قلبه، فإنه مؤمنٌ وإن لم يكن عنده دليل على ذلك، بخلاف المعتزلةِ وزعم بعض السفهاء‏:‏ أن الاختلافَ في عبرةِ إيمان مقلدي الأئمة رحمهم الله تعالى وعدمها، وهو حمقٌ، والصواب ما علمت‏.‏

والحاصل‏:‏ أنّ أولَ الواجبات عند المعتزلة‏:‏ هو المعرفة، ثم الإيمان‏.‏ وعندنا‏:‏ الإيمان، هو أول الواجب، وليست تلك المعرفة شرطاً أصلاً، ثم رأيتُ، في «جمع الجوامع»‏:‏ أن لو حصل لرجل ظن، ولم يكن عنده اعتقادٌ جازمٌ، فهو أيضاً كاف لإيمانه، بشرط أن لا يخطر الكفرُ في قلبه، ولا يوسوس به صدرُهُ، ولا تترددُ فيه نفسُه‏.‏

قول وعمل

وفي عامّة نُسخ البخاري‏:‏ قولٌ وفعلٌ، ولا أعلم وجهَه‏.‏ ولفظ السَّلف‏:‏ الإيمان‏:‏ اسم للاعتقاد والقول والعمل، فلا أدري ما وجه تغييرِهِ عُنوان السلف، ووضعُ الفعل بدل العمل، مع أن الأظهرَ هو العمل‏.‏ ولما أراد البخاري من القول ما يوافقُ الباطنَ اندرج الاعتقاد تحته‏.‏ ولذا حذفه من مقولتهم‏.‏ فالإيمان عند السلف عبارة عن ثلاثة أشياء‏:‏ اعتقاد، وقول، وعمل‏.‏ وقد مر الكلام على الأولين‏:‏ أي التصديق، والإقرار، بقي العمل، هل هو جزءٌ للإيمان أم لا‏؟‏ فالمذاهب فيه أربعة‏:‏

قال الخوارج والمعتزلة‏:‏ إن الأعمال أجزاءٌ للإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما‏.‏ ثم اختلفوا، فالخوارجُ أخرجوه عن الإيمان، وأدخلوه في الكفر، والمعتزلةُ لم يدخلوه في الكفر‏.‏ بل قالوا بالمنزلةِ بين المنزلتين‏.‏

والثالث‏:‏ مذهب المرجئة فقالوا‏:‏ لا حاجة إلى العمل، ومدار النَّجاة هو التصديق فقط‏.‏ فصار الأوَّلونَ والمرجئة على طرفي نقيض‏.‏

والرابع‏:‏ مذهب أهل السنة والجماعة وهم بين بين، فقالوا‏:‏ إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكنّ تَارِكها مُفَسَّقٌ لا مُكَفَّر‏.‏ فلم يُشددوا فيها كالخوارج، والمعتزلة، ولم يِهوِّنوا أمرها كالمرجئة‏.‏ ثم هؤلاء افترقوا فرقتين، فأكثر المُحدِّثين إلى أن الإيمانَ مركبٌ من الأعمال‏.‏ وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخل في الإيمان، مع اتفاقهم على أن فاقدَ التَّصديق كافرٌ، وفاقدَ العمل فاسقٌ، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير‏.‏ فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيثُ ينعدمُ الكل بانعدامِهَا، بل يبقى الإيمان مع انتفائها‏.‏

وإمامنا وإن لم يجعل الأعمال جزءاً، لكنه اهتم بها وحرَّضَ عليها، وجعلها أسباباً سارية في نماء الإيمان، فلم يهدُرها هَدْر المرجئة، إلا أن تعبيرَ المُحدِّثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى، فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رُمِي الحنفية بالإرجاء‏.‏ وهذا كما ترى جور علينا فالله المستعان‏.‏ ولو كان الاشتراك بوجه من الوجوه التعبيرية كافياً لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم، فإنهم قائلون‏:‏ بجزئية الأعمال أيضاً كالمحدثين، ولكن حاشاهم والاعتزال، وعفا الله عمن تعصب ونسب إلينا الإرجاء، فإن الدين نُصْحٌ كله، لا مُرَامَاة ومُنابذة بالألقاب‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

تعدد الاصطلاح في الإرجاء

صرح الشَّهرستاني في «المِلل والنِّحل» على تعدد الاصطلاح فيه، وقال‏:‏ إن المرجئة على قسمين‏:‏

مرجئة أهل البدعة، وهم الذين أهملوا الأعمال وزعموا التَّصديق كافياً للنجاة، فلا يضر عندهم مع الإيمان معصية‏.‏

والثاني‏:‏ مرجئة أهل السنة، وهم المنكرونَ جُزئيتها، مع شَغفِهم بالأعمال والأوامر من حيث الائتمار، والنواهي من حيث الاجتناب‏.‏ وعُدّ الحنفية من القسم الثاني‏.‏ وفي عقائد الحافظ فضل الله التُّوْربِشْتي رحمه الله تعالى‏:‏ عندي أن المرجئة هم الذين قالوا‏:‏ إنه لا اختيار للعبد‏.‏ والتوربشتي هذا حنفيُ متقدِّم على الرازي رحمه الله تعالى، وكتابه هذا أجودَ من «شرح المقاصد» وغيره‏.‏ فليس النزاعُ بين الأئمة إلا في كون الإيمان مجموع الأجزاء، أو التصديق فقط‏.‏ أما كون الأعمال واجبة، فلا اختلاف بينهم في ذلك‏.‏

شَرْحُ قَوْلِهِم‏:‏ قَوْلٌ وَعَمَلٌ

فلنشرح أولاً مراد السلف، والكشف الغِطاء عن قولهم‏:‏ الإيمان‏:‏ قول وعمل، ثم لنبحث أن الأعمال هل تصلح لجزئية الإيمان أم لا‏؟‏ فاعلم أن قولهم هذا ليس نصاً في الجزئية كما فهموا، لأنه ليس من لفظ السلف أن الأعمالَ أجزاءٌ للإيمان، بل لفظهم‏:‏ «قول وعمل» وهو يحتملُ شروحاً يصدقُ بعضها على مذهبنا أيضاً، بل هو أولى الشروح كما ستعرف‏.‏

الأول‏:‏ ما فهمه عامةُ الناقلين وأرباب التصانيف، وهو أن الإيمانَ مركبٌ من القول أي الشهادتين والعمل، وهذا الشرحُ دائرٌ فيما بينهم‏.‏ والإيمان على هذا الشرح ذا أجزاء كالجدار واللُّبِنات‏.‏ ثم إنهم قالوا‏:‏ إن المُخلَ بالتصديق فقط مع القول الظاهر، منافقٌ، والمخلُ بالتصديق والقول كافرٌ مجاهِرٌ، والمخلُ بالعمل فقط فاسقٌ‏.‏ وحكمه‏:‏ أنه لا يخلدُ في النار، ففرقوا بين جزءٍ وجزء فبانتفاء البعض حكموا بانتفاء الكل، كالتصديق، وبانتفاء بعض آخر لم يحكموا بانتفاء الكل، كالعمل‏.‏ واستشكله الرَّازي وقال‏:‏ إن الأجزاء كلها متساوية الأقدام في أن انتفاءَ بعضها أي بعض كان- يستلزمُ انتفاءَ الكل قطعاً، ولا نتعقَّلُ فرقاً بين جُزء وجزء‏.‏ وأجابوا عنه بأجوبةٍ كلها مشى على القواعدِ وغَفْلةٍ عن الحقائق‏.‏

فقال قائل‏:‏ إن الأجزاءَ على قسمين‏:‏ حقيقةٌ، وعُرفيةٌ‏.‏ وبانتفاء الأول ينتفي الكل، بخلافِ الثاني‏.‏ والعمل من الثاني دون الأول، وحولَهُ تَحُومُ أجوبة أخرى‏.‏ والحق في الجواب‏:‏ أن المجموعَ المركبَ من الأجزاء لا يلزمُ من زوالِ بعض أجزائه انعدامُ هذا المركب أيضاً‏.‏ نعم، تزول تلك الهيئة السابقة، لكن لا يقتضي التباينُ بينها وبين اللاحقة، وذلك كالإنسان مثلاً، فإذا أصابت بعض أعضائه عاهة، لم يخرج عن كونه إنساناً، نعم يقال من حيث الصورة‏:‏ إنه إنسان ناقص، فإذا زاد النقصُ ربما خرجَ عن تسميته إنساناً ظاهراً، بل لا أجد أحداً من الأشياء يزولُ اسمه بزوال جُزء منه‏.‏ نعم، ههنا مجال للنظر، فمن أهلكَ الحرثَ والنَّسل وفعلَ كلَّ مُنكَر، ولم يأت بخير ما، فلا علينا أن لا يُسمّى بأشرف أسماءِ الأمة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما مِقْدَارُ الطاعات التي يَخْرُجُ بتركها من الإيمان‏؟‏ قلنا‏:‏ عِلمُها عند الله، وعدم علمنا بمقدارها، لا يقتضي أن لا يكون لها مقدار في الواقع‏.‏ وهذا كالسواد والبياض، إذا انتقصْتَ من السواد درجة، لا يأخذُ البياضُ مكانها‏.‏ نعم، لا تزال تنحطّ منه درجة بعد درجة، حتى إذا انتفت جميع مراتب السواد، يجيء البياضُ بدله‏.‏ فهكذا الإيمان والكفر، لا يزال الإيمانُ ينقصُ بالمعاصي، حتى إذا انتفت المرتبة التي هي مَدَار النَّجاة، استخَلَفه الكفر، فيصبح من الكافرين‏.‏

والعياذ بالله فافهمه، فإنه يُنْجِيك من الشَّبهات‏.‏ فالعملُ على هذا التقدير حاصلٌ المصدر، ومثلُهُ القول‏.‏

والشرح الثاني‏:‏ أن الإيمان تصديقٌ يظهرُه اللسان والجوارح‏.‏ وحاصله‏:‏ أنه التصديقُ المساعدُ بالقول والعمل، وحينئذٍ لا يكون الإيمانُ إلا التصديق فقط، ويبقى القول والعمل ساعداً ومُساعداً للإيمان لا أجزاء له‏.‏ فالتصديقُ الذي يخلو عن الإقرار والأعمال، كأنه ليس بتصديق‏.‏ وهذا أيضاً نظرٌ على حد قوله‏:‏ «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويده»، «والمؤمنُ من أمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالِهم»‏.‏ رواة الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفي القرينتين حصرٌ، وهو يؤدي انتفاء اسم الإسلام والإيمان عند عدمِ سلامة الناس، وعدم الأمن منه، فمن كان مسلماً ينبغي أن يشهدَ له عملُهُ، وهو سلامةُ الناس من لسانه ويده، ومن كان مؤمناً يجب أن يأمَنَه الناسُ على دمائهم‏.‏ وبدون ذلك، إسلامه وإيمانه، غير مصدَّقٍ من العمل، وإذا لم يصدَّق عمله، فإذن هو أمرٌ يدَّعيه هو، ولا ندري أهو كذا أم لا‏؟‏

الشرح الثالث‏:‏ إن التصديق منسحب على القلب، والجوارح، فتصديق القلبِ هو التصديق الباطني المُسمّى بالإيمان، وتصديق الجوارح يُسمّى عملاً وأخلاقاً‏.‏ فالشيءُ واحد من هناك إلى ههنا‏.‏ ويختلف الأسامي باختلاف المواطن‏.‏ فالإيمان على اللسان قولٌ، وعلى الجوارح عملٌ‏.‏ وهذا أيضاً محتملٌ، كقول الأطباء‏:‏ إن الإرادة شيءٌ واحد، وهي التي تُسمّى في اليد‏:‏ بقوة التحريك، وفي القلب‏:‏ بالإرادة‏.‏ فهكذا ما دام التصديقُ في القلب فهو إيمانٌ‏.‏ وبعد كونِهِ مجبُولاً عليه يصيرُ أخلاقاً‏.‏ وبالظهور على الجوارح يسمّى أعمالاً‏.‏ فهذه كلها أنظار، والأخير تفلسف‏.‏ لا كما زَعَمُوه‏:‏ أنه حدٌ كحدِ المناطقة، فجعلوا عليه الطرد والعكس‏.‏ والأمرُ كما عَلِمْتَ أنه نظرٌ من الأنظار، وهو الذي يليق أن يدورَ في السلف، لا تحديدُهُ، فإنه من طريق الخَلَفِ المشتغلين في الفنون‏.‏

وهناك شرح رابع‏:‏ وهو أن الإيمان اسم للتصديق الذي يَعقبُهُ القول والعمل، فينبغي أولاً أن يُصدِّق، ثم يُقر، ثم يعمل، والقولُ والعمل على هذا التقدير مصدر، لا الحاصل بالمصدر، وهذا نحو ما نقل الحافظ في «الفتح» في‏:‏ باب الإنصات للعلماء من كتاب العلم‏:‏ عن سفيان‏:‏ أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر‏.‏ وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع‏.‏ فانظر كيفَ رأيتَ قولَه هل هو تحديدٌ له وذكر لأجزائه‏؟‏ بل مُراده أن حقَّ العلم أن يترتب عليه تلك الأشياء، فهذه الأشياء من مقتضياته، وهو داع لها‏.‏ فكذلك الإيمان ليس تصديقاً فقط، بل من حقِّه أن يصدقه اللسان والجوارح، وهو القول والعمل‏.‏

إذا علمتَ هذا فقد علمتَ أن قولهم‏:‏ لا ينحصرُ في الجزئية، بل هو أحذُ شروحِهِ والظاهر أنهم ليسوا بصدد التحديد‏.‏ وبيان الأجزاء، بل ببيان الأنظار، وأنَّ ما ينبغي أن يكون، وإذن يتأتَّى قولهم على مذهبنا أيضاً‏.‏

وإذ قد فرغنا من شرح مقولتهم، فلنعرِّج إلى أن الأعمالَ هل هي أجزاءٌ للإيمان أم لا‏؟‏

بحثٌ في أنَّ الأعمالَ أَجْزاءٌ للإيمانِ أم لا‏؟‏

والظاهر أنَّه أيضاً نَظرٌ جعلَهُ الناسُ عقيدة‏.‏

واعلم أن إطلاق الإيمان على الأعمال مما لا يمكن إنكاره، فقد تواتر به الحديث‏.‏ لكن صنيع القرآن على خلافه‏.‏ فإنه ينبىءُ أن الإيمان هو التصديق وحده من غير أن يعتبِرَ معه العمل، لأنه تعالى كلما ذكر الإيمانَ في القرآن أضافَهُ إلى القلب، وظاهره أن فعل القلب هو التصديق وحده‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تعالى عَطَفَ عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى‏.‏ ولو كان ذلك داخلاً فيه، لكان مجرد ذكره عبثاً، فضلاً عن أن يُذكر بطريق العطف‏.‏

والثالث‏:‏ أنه سبحانه وتعالى ذكر الإيمان في مواضع وصفاً للعُصاة، مقترناً بالمعاصي، فلو كانت الطاعةُ داخلةً في الإيمان، لكانت المعصية منافيةً له ممتنعة الاجتماع معه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 9‏)‏ فوصف المقتتلين بالإيمان، مع أن تقاتل المؤمنين حرام ومعصية‏.‏ وأجاب الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى عن عطف القرآن، وقال‏:‏ إن الأعمالَ وإن كانت داخلة في قوله‏:‏ آمنوا، إلا أنها عُطفت عليه استقصاءً واستيفاءً للبيان، ولئلا يَذْهَل عنه‏.‏ وهذه النُّكتةُ غير ما ذكروها من أن العطفَ قد يكون من عطف الخاص على العام، لأنها لا تتمشَّى ههنا‏.‏ فإن الخاصّ في مثله يكون أشرف، وههنا المعطوف هو العمل، وهو أدونُ من الإيمان‏.‏ فالعطف ههنا لبيان الاهتمام‏.‏

فعلم منه أن التخصيص بعد التعميم، قد يكون لزيادة اهتمام الأدنى أيضاً، لئلا يَذْهَل عنه ذاهلٌ فيتركه، ويُحرم عما قدِّر له من منازلِ الجنة‏.‏ وكلامه وإن كان متيناً دالاً على فطانته، لكنّ الأمر هو كما قال الإمام الهُمام، لأن هذا الجواب وإن سلَّمناه في العطف، لكنه ماذا يقول في آية أخرى‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏النحل‏:‏ 97‏)‏‏.‏ فجعل الإيمانَ قيداً للأعمال، وليس فيها عطفاً‏.‏

بقي الجوابُ عن إطلاق الإيمان على الأعمال في الحديث، فلا نُنكرُ أنه أيضاً إطلاق، لكنه لا ينحصِرُ فيما قالوه، بل يجوز أن يكونَ من إطلاقِ الكل على الجزء، كما فهموه‏.‏ ويجوز أن يكونَ من باب إطلاق المبدأ على الأثر، كما فهمنا، فالمبدأ هو الإيمان، والعمل أثره‏.‏ ولو انحصر الأمرُ في أنّ الحديثَ أطلق الإيمان على الأعمال، والقرآن جعلها مغايرةً له، بعطفها عليه، كان اتِّباعُ القرآن، والتأويل في الحديث، هو الأَوْلى‏.‏

فالحقيقة أدَّاها القرآن، والحديث ورد على الاعتبار، لأن القرآنَ يؤدي الحقيقةَ ويُوفِّى حقها، والحديث قد يَردُ على المصالح ويُراعيها أيضاً‏.‏ فإن شئت أخذَ الحقيقة كما هي فلا تجدها إلا في القرآن‏.‏ وقد رأيتُ أن القرآنَ لا يجعلُ الأعمال أجزاءٌ للإيمان، فكانت حقيقة الإيمان مغايرة للأعمال‏.‏ كما قلنا، ولما أمكن أن يُفرِّطَ فيه مفرطٌ أزاحه الحديثُ وأطلق الإيمان على الأعمال، تنبيهاً على أهمية الأعمال، وتلافياً لما قد يسبق من عطف الأعمال على الإيمان من المغايرة، بحيث لا تبقى لها سراية في زيادته أيضاً‏.‏ وهذا صنيع الحديث مع القرآن كثيراً، فما يتركُه القرآن يأخذه الحديث، وما يُشكل عليه يزيحهُ‏.‏

وبالجملة لا خلاف بعد الإمعان إلا في التعبير، فإن كان إمامنا رحمه الله تعالى غيَّر تعبيرَهم، وأخرج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فله فيه سَلَفٌ وقدُوة، فإن ذلك صنيعُ القرآن، فلو كان المحدثون اختاروا جزئية الأعمال نظراً إلى إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، فإمامنا رحمه الله تعالى اختار تغايرَهُما، نظراً إلى تغاير القرآن بالعطف، فأي الفريقين أحق، وأي النَّظَرين أصوب‏؟‏

وبعد اللُّتيا والتي إذا لم تكن نِسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبةِ الأجزاءِ إلى الكل، ولا كنسبة الأوراق، والعُروق، والأغصان إلى الشجرة، فكيف نسبتُهُ إليها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن النِّسبة بينهما على نَظَر الحنفية كنسبةِ الأصل إلى الشجرة والشجرة إلى الثمرة، فكما أن الشجرةَ نابتةٌ من أصلها، ثم الثمرةُ من تلك الشجرة، كذلك الأعمال تنبُت من الإيمان، فهو المبدأ وهذه آثارها‏.‏ وكما أن الثمارَ تبدو وتسقط، تجيء وتذهب، كذلك حال الأعمال مع الإيمان فتكون قد وقد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآء‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 24‏)‏ فالأصلُ هو الإيمان، والفُروعُ هي الأعمال، ولعل حديث شُعب الإيمان أيضاً على الفرعية لا الجزئية‏.‏

فلا أقول كما هو المشهور‏:‏ أن نِسْبةَ الأعمال إلى الإيمان كنسبة المُكِّمل إلى المُكَّمل، ولا أجعله في التعبير مكملاً للإيمان، بل لا أحب أن أقول‏:‏ إنها كنسبة الثمرة إلى الشجرة أيضاً، فإن المقصودةَ من الشجرة الثمار، فتكون الأعمالُ مقصودةً، والإيمان تابعاً مع أنه أصل وهي فرع تنبُت منها‏.‏ فالتعبير الأوفى هو‏:‏ الأصلية والفرعية‏.‏

ثم إني مع التتبُّعِ البالغ لم أجِدْ صورةَ الإيمان في المحشر، ووجدت صورَ الأعمال كلها تقريباً‏.‏ وهو على ما أقول‏:‏ إن الأعمالَ تتجسدُ في الآخرة، وتتحولُ الأعراضُ إلى الجواهر‏.‏ فدل على أن الإيمان لعله منفصلٌ عن الأعمال‏.‏ وإليه يُشير قوله صلى الله عليه وسلّم «مُلئت إيماناً وحكمة» فما صُبّ في صدره كان هو الإيمان، وهو المصبوبُ حقيقة، وإنما الأعمال ثمراته، والمقصود منها الإتيانُ بها، والحكمةُ غير العمل، وسيجىء تحقيقها‏.‏

نعم، رأيت صورة الإسلام والإيمان في رواية مرسل عن قتادة‏:‏ أن الإيمان يجيءُ يوم القيامة ويقول‏:‏ أنت المؤمن، وأنا الإيمان، فاغفر لمن كسبني، ويجيءُ الإسلام ويقول‏:‏ أنت السلام وأنا الإسلام‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ولكنه لا يدرى أنه صورةُ الإيمان وحده أو المركب من الأعمال وههنا نَظَرٌ يفيدنا وهو‏:‏ أن مدَار دخولُ الجنة على الإيمان عند الكل، وكذا الخلودُ في النار على الكفر‏.‏ وإنما الأعمالُ للدخولِ أولاً والتجنُّبِ عن النار‏.‏ فعُلم أن الإيمانَ غير الأعمال، وأنها خارجة عنه‏.‏

والقول الفصل ما اختاره الشاه ولي الله رحمه الله تعالى‏:‏ أن للإيمان إطلاقين‏:‏ الأول‏:‏ الإيمان الذي هو مَدَارُ الأحكام في الدنيا، ولا ريب أنه عبارة عن الاعتقاد فقط‏.‏ والثاني‏:‏ ما هو مدارُ للأحكام في الآخرة، وهي النجاةُ السرمدية، والفوزُ بالجنان بدون عذاب‏.‏ ولا ريب أنه عبارة عن مجموع الأعمال والأخلاق، والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

وهذا الذي عناه الغزالي رحمه الله تعالى في «الإحياء»‏:‏ أن الإيمانَ المبحوثُ عنه في علم الكلام لا يزيد ولا ينقص‏.‏ ولذا اتفقوا على تسليم إسلام المصدِّق، وإن كان فاسقاً‏.‏ وكذا اتفقوا على أنه ليس بمرتد ولا كافر‏.‏ وأما الإيمانَ المبحوثُ عنه في الأحاديث، فإنه يزيد وينقص البتة‏.‏

وبالجملة من جَعَله مركباً كالكلِّي المشكِك، ومن جعله بسيطاً جعله كالمتواطىء، لا تفاوت في صِدْقِهِ على أفراده‏.‏ فظهر أن النزاعَ ليس لفظياً، فإنه بعيدٌ عن أئمة الدين، بل الاختلاف في تحقيق حقيقة الإيمان، أنها التصديق فقط أو المجموع، على حد نزاعهم في مُسمّى الصلاة أنها اسم للمجموع من الأركان إلى الآداب، أو اسم للأركان فقط‏؟‏ وسيأتي عن قريب‏.‏

ذِكْرُ الزِّيادَةِ والنُّقْصَان

واعلم أن نفي الزيادة والنقصان وإن اشتهر عن الإمام الأعظم، لكني متردد فيه بعد‏.‏ وذلك لأني لم أجد عليه نقلاً صحيحاً صريحاً، وأما مانسب إليه في «الفقه الأكبر» فالمحدِّثون على أنه ليس من تصنيفه‏.‏ بل من تصنيف تلميذه أبي مطيع البلخِي، وقد تكلم فيه الذهبي، وقال‏:‏ أنه جَهْمِيٌّ‏.‏ أقول‏:‏ ليس كما قال، ولكنه ليس بحجةٍ في باب الحديث، لكونه غير ناقد‏.‏ وقد رأيت عدة نُسخ للفقه الأكبر فوجدتُها كلها متغايرة‏.‏ وهكذا «كتاب العالم والمتعلم» «والوسيطين» الصغير والكبير، كلها منسوبة إلى الإمام، لكن الصواب أنها ليست للإمام‏.‏

أما الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه وإن نسب الزيادة والنقصان إلى إمامنا رحمه الله تعالى، لكنّ في طبعه سَوْرَةٌ وحِدَّة، فإذا عَطَفَ إلى جانب عَطَفَ ولا يبالى، وإذا تصدى إلى أحد تصدى ولا يُحاشي، ولا يُؤمَنُ مثله من الإفراط والتفريط، فالتردد في نقله لهذا، وإن كان حافظاً متبحراً‏.‏ ونقل في «شرح عقيدة الطحاوي» بسند أبي مطيع البَلْخي عن النبي صلى الله عليه وسلّم ما معناه‏:‏ أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وفي إسناده كلهم مجروحون‏.‏ ورأيتُ هذا الحديث في «الميزان» في ترجمة البَلخي، فأسقطه الذهبي‏.‏ ثم رأيت في «طبقات الحنفية» تحت ترجمة‏:‏ إبراهيم بن يوسف تلميذ أبي يوسف، وأحمد بن عمران، أنهما كانا يقولان‏:‏ بزيادة الإيمان ونقصانه، مع كونهما من كبار الحنفية‏.‏ فهذا أيضاً كان يَرِيبُني‏.‏

ولما انعدمت النقول الصحيحة عن الإمام رضي الله تعالى عنه كِدْت أن أنفي عنه تلك النسبة، غير أني رأيت أن أبا عمرو المالكي نسبه في «شرح الموطأ» إلى شيخ إمامنا حَمّاد، وهو من المتقنين المتثبتين في باب النقل، فلا مناص من تسليم تلك النسبة أما المحدثون فكلهم إلى أن الإيمانَ يزيد وينقص‏.‏ وأثبت شيء في هذا الباب عقيدة الطحاوي، فإنه كتب في أوله أنه يكتبُ فيه عقائد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف رحمه الله تعالى‏.‏ وأحسن شروحه شرح القُونوي، وهو حنفي المذهب، تلميذ ابن كثير‏.‏ ويُستفاد منه أن الإمام رحمه الله تعالى إنما نفى الزيادة والنقصان في مرتبة محفوظة، كما سيأتي ولم ينفي مطلقاً، وكيف ما كان سلمت القول المذكور‏.‏

فنقول‏:‏ إنّ الزيادةَ والنقصان في الإيمان يحتمل أربعةَ معانٍ‏:‏

الأول‏:‏ الزيادة والنقصان في نفس الإيمان‏.‏

والثاني‏:‏ الزيادة والنقصان في الإيمان باعتبار التصديق‏.‏

والثالث‏:‏ الزيادة والنقصان في التصديق، باعتبار انبساطه وانفساحه في الصدر، لا باعتبار الحقيقة، فالانفساح والانشراح غير التصديق‏.‏

والرابع‏:‏ الزيادة والنقصان في الصورة الإيمانية التي هي صورته، وهو بالحقيقة راجع إلى الثالث‏.‏ أما الزيادة والنقصان في التلبس بتلك الكلمة، فمُسلَّمٌ عند إمامنا أيضاً، وهذا كالزيادة والنقصان في التلبس بالصلاة عند أبي داود في «باب ما جاء في نقصان الصلاة» عن عَمَّار بن يَاسر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول‏:‏ «إن الرجل لينصرف وما كُتبَ له إلا عشر صُلاتِهِ تسعها، ثمنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُها، خمسها، ربعها، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا»‏.‏ اه‏.‏ فهذا المعنى لا ننكر في التلبُّس بالكلمة أيضاً‏.‏

وبعد ذلك أقول إن الزيادة والنقصان في الإيمان باعتبار التصديق، لم يجر البحث عنهما في السلف، لا نفياً ولا إثباتاً، فإن الكلام في أجزاء الشيء بعد التحليل، بحثٌ منطقيٌ‏.‏ وإنما أوجَدَه المتكلمونَ من المتأخرين، وأول من تكلم فيه القاضي أبو بكر البَاقِلاني‏.‏ والكلام في السلف، إنما كان في زيادة الإيمان ونقصانه، سواء كان من تلقاء الأجزاء أو من جهة السراية‏.‏ وعلى هذا فالبحث عنه في «صحيح البخاري» لغو‏.‏

إلا أني أتكلم عليه يسيراً على طورهم‏.‏ فأقول‏:‏ إن الزيادة والنقصان في الإيمان بحسَبَ نفس التصديق، مما يمكن عقلاً قطعاً، وإن لم يتكلم فيه السلف‏.‏ وغاية ما ذكروه في النفي أمران‏:‏

الأول‏:‏ أن التصديق ماهية من الماهيات، فلو قلنا بالزيادة والنقصان لزم التشكيك في نفس الماهيات، وهو باطل‏.‏ قلتُ‏:‏ الاستمداد في مثل هذه المسألة بقواعد الحكماء مما لا يزول عنك عاره‏.‏ فالعجب من الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى كيف اتسمد به مع أن المسألة في نفسه باطلة عند محققيهم أيضاً‏.‏ وقد جوَّزَ بحر العلوم التشكيك في الماهية بنوعيه، على أنه يلزم حينئذٍ أن لا تكون الصلاةُ أيضاً ناقصة وزائدة بعين ذاك الدليل، لأنها أيضاً ماهية من الماهيات، مع أنَّ الزيادة والنقصان فيها مما لا ينكِرُه أحد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ لو جُوِّز التشكيكُ في التصديق‏.‏ لزمَ اجتماعه مع الشك، لأنه إذا انتفى جزءٌ منه جاء جزءٌ من الشك بدله، فلا يبقى منجياً، فلا يكون إيماناً‏.‏

قلت‏:‏ وهو أفحشُ من الأول، ألا ترى إلى سواد الثوب فإنه أضعفُ من سواد الغُرَاب بدَاهة، ولا يقول عاقلٌ إنه إذا كان أضعفُ لزمَ أن يكون فيه جزء من البياض، فكذلك لا يلزمُ من فوات جزءٍ من التصديق أن يجيءَ بدلَه جزء من ضِده‏.‏ والحق أن السوادَ عَرْض عريض، وفيه مراتب لا يَعُدها عادّ، وبنقص واحد منها لا يجيء جزءٌ من البياض بدله، بل إذا نتفى جميعُ مراتبه ولم تبق مرتبة منه يجيءُ البياضُ قطعاً، وما دام مرتبةٌ من مراتب السواد باقية، لا يَحُكم عليه عاقلٌ أن جزأً من البياض موجودٌ فيه‏.‏

ونحوه نقولُ في تقسيم الجسم، بأن تقسيمَ الجسم ليس إلى ما لا نهاية له كما زعمه الفلاسفة، بل ينتهي إلى العدم، فإنهم قالوا‏:‏ إن الاتصال ذاتي للجسم، فإذا فات جميع الاتصالات فلينعدم الجسم لا محالة على قولهم، فإن ارتفاع الذاتي يستلزمُ ارتفاع الذات ومنشأ غلطهم‏:‏ أن إعدام جميع الاتصالات ليس في طوق البشر؛ لأنه في الحقيقة إعدامٌ للشيء، والإعدامُ والإيجادُ كلاهما في يد المبدىء والمعيد، لا إله إلا هو، فإذا لم يقدروا على إعدام جميع الاتصالات، فهموا أن تقسيم الجسم لا ينتهي إلى نهاية، وليس كذلك، بل ليس هذا في قُدرَتِنَا‏.‏ ولو استطعنا إفناء جميع الاتصالات لانْتَهَى التقسيم، وانعدم الجسم، إلا أنه بيد الواحد القهار، لا شريك له هو يحيي ويميت‏.‏

فكما أنّ الجسمَ لا يزالُ ينقسم، ويطلق عليه الجسم ما دام يبقى فيه اتصال ما، ولا يجيءُ العدم أصلاً إلا إذا فات جميع مراتب الاتصال، كذلك التصديق لا ينتفي إلا بعد انتفاء جميع مراتبه‏.‏ ولا يلزمُ بانتفاء جزء منه أن يقومَ مَقَامَهُ جزءٌ من الكفر، فإن الإيمان أيضاً عَرْض عريضٌ‏.‏ نعم بفوات مرتبة بعدمرتبة، يجيءُ زمان ينتفي فيه جميع مراتبه، ثم يطرأ الكفر عليه البتة‏.‏ ولكنا لا ندري عدد هذه الأجزاء، وأنه متى يجيءُ زمان فوات جميعها‏؟‏ إلا أنه نعلم إجمالاً أنه يجيءُ وقتٌ ما قطعاً ينتفي فيه جميع مراتبه‏.‏ وحينئذٍ ينسلخ عنه اسم الإيمان‏.‏

وقد نبهتُك آنفاً على أن هذا البحث لم يجر في السلف، بل هو بحث عقلي، أوجدَه المتأخرون من جانبهم عقلاً‏.‏ والسلف إنما اختلفوا في نفس الإيمان، لا في جزءٍ منه بعد التحليل‏.‏ فمن قال‏:‏ إنه قول وعمل، ذهب إلى الزيادة والنقصان أيضاً، لأنه إذا أدخل العمل في الإيمان، فمن عمل عملاً صالحاً فقد تم إيمانه‏.‏ ومن نَقَصَ فيه انتقص إيمانه لا محالة على تحقيقه‏.‏ ومَنْ لم يُدخل الأعمال في الإيمان، بل جعله عبارةٌ عن التصديق، لم يلزم عليه ذلك‏.‏ فأصل النزاع في إدخال الأعمال في مُسمّى الإيمان، وإخراجها عنه، وإن الإيمان أمرٌ أو أمور‏.‏ ولذا بوَّبَ البخاري فيما بعد‏:‏ باب أمور الإيمان نعم، من يجعل الإيمان مركباً يلزمه أن يذكَر له أموراً، ومن يجعله بسيطاً لا تكونُ له أمور عنده‏.‏ ولذا قيل‏:‏ إن تلك المسألة ليست مستقلةً، بل من فروع الأُولى، أي كون الإيمان قولاً وعملاً‏.‏

هكذا كنتُ أفهمُ تحقيق الاختلاف، وإليه ذهب أكثر الشارحين‏.‏ ثم رأيت زيادةً في مَقُولَة السلف، انقلب منها المراد ففهمتُ حقيقة الحال، وهي أنهم قالوا‏:‏ الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فبان منه أنهم قائلون بالزيادة والنقصان في التصديق الباطني، دون الإيمان المركب‏.‏ فإن عبارتَهم هذه تدلُ على أن الأعمال دخيلةٌ في ازدياد الإيمان ونقصانه، وسبب له، لا أنها داخلة وإن لها سرايةً وتأثيراً في نماء التصديق والإيمان، لا أنها أجزاء‏.‏ فلم يكن الإخلال بالعمل عندهم كقطع الغصن من الشجرة، بل كعدم سقيها بالماء، فلا بد أن تيبس‏.‏ وتبيَّنَ منه أن البخاري اختصر في نقل قولهم اختصاراً مخلاً‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن الأعمال على الشرح الأول كانت كالأصابع لليد، بخلاف هذا الشرح، فإنها أسباب‏.‏ وإن الاختلاف على الأول كان بحَسَب الكمية، والآن جاء البحث في الكيفية فقولهم‏:‏ الإيمان قول وعمل يحتمل شروحاً، كما مر، وقولهم هذا انحصر في السببية، وليس له شرح غيره‏.‏ وحينئذٍ صارت تلك أيضاً مستقلة‏.‏ ولم تَصِر من فروع الأولى‏.‏ فإن الإيمان مركباً كان أو بسيطاً يصلحُ محلاً لاختلاف الزيادة والنقصان بهذا المعنى‏.‏ ثم الزيادة والنقصان بهذا المعنى لا ينكره الإمام أيضاً، فإن الانفساخ والانشراح زائدٌ وناقصٌ قطعاً، وهو المبحوثُ عنه في القرآن‏.‏ وعليه يحمل ما تلا المصنف من الآيات‏.‏

وحاصل الخلاف على هذا التقدير‏:‏ أن الإمام الأعظم رحمه الله تعرَّض إلى أمرٍ لم يتعرض إليه السلف، فإنه تكلم في مرتبة محفوظة، وهي التي يدور عليها أمر النجاة، وليس بعدها إلا الكفر‏.‏

فالتصديق وإن كان زائداً، أو ناقصاً، باعتبار مراتب الكمال، والانفساخ، والانشراح، إلا أن الإمام الهُمام أفرز بالبحثِ حصةً منه، وهو التصديق بمعنى انتفاء الشك، ولا تفاوت بين الانتفاءِ، والانتفاءَ‏.‏ وإنما التفاوت في الانشراح والاسْتِيلاء‏.‏

قال الغزالي رحمه الله‏:‏ إن الإيمان قد يطلق على اليقين، بمعنى انتفاء النقيض، ولا تفاوت فيه، فإن الانتفاء رأساً لا تقام فيه المراتب، وقد يُطلق على استيلاء اليقين على القلب وجعلِهِ الجوارحَ تابعاً له وهو الأكثر، وهذا هو الذي فيه التفاوت، فوقع الالتباس بين المعنيين، فقيل ما قيل، فإما أن نقول‏:‏ كما قال الغزالي، أي بتعدد الإطلاق في الإيمان‏.‏ أو نقول‏:‏ إن الإمام بحث في جُزء من الإيمان، لأن نَظَرَ الفقهاء يتعلق بالخلود والنجاة، أولياً، كان أو مآلياً، بخلاف أنظار المحدثين، فإنها تقتصرُ على النجاة الكاملة الأولية، ولا يمكن إلا بالأعمال الصالحة‏.‏ فالفقيه يبحثُ عن مراتبِ التصديق عما هو مدارٌ للنجاة، ولو مآلاً، ومن الكفر عما يوجب الخلود‏.‏ وهذا كالشهادة، فإن الفقهاء إنما يبحثون عنها باعتبار أحكامهم في الدنيا، والذين تجرى عليهم تلك الأحكام قليلون، بخلاف ما في الحديث، فإن إطلاقَ الشهادة فيه أعمُ وأعم‏.‏

ومثله وقع في كثير من المواضع، فالقرآن والحديث إنما تعرَّض إلى انفساحِ التصديق‏.‏ والانفساحُ أيضاً تصديق في نظر، لأنه تابعٌ له ناشيء عنه، ولذا أطلقَ عليه البخاريُّ الإيمانَ، والإمام الهُمَام لم يتعرض إليه، بل تعرض إلى مرتبة مخصوصة، كما يدل عليه عبارة الطحاوي في «عقيدته»، وهي أثبتُ شيءٍ في هذا الباب‏.‏ قال‏:‏ الإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل في الخشية، والتَّقى ومخالفة الهوى، وملازمة التقوى‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فجعل للإيمان أصلاً، وجعل الناسَ كلهم فيه سواء، وهو الذي لو انحط عنه الإيمان لجاء الكفرُ مكانَهُ، وأبقى التفاضل في أمور تتعلق بالإيمان من الخشية وغيرها‏.‏ فالإيمانُ بمعنى التقوى والخشية، يزيد وينقص، والناس يتفاضلون فيه على نص الطحاوي نعم، هناك أصلُ الإيمان، وهو واحد، ولا تفاوت فيه‏.‏

ومن ههنا علمت‏:‏ أن هذا الاختلاف ليس من باب النزاع اللفظي على اصطلاح المناطقة، فإنه ليس من دَأْب المحصلين، فضلاً عن الأئمة المجتهدين، بل من باب الاختلاف في الأنظار، بمعنى أن هذا مؤدٍ لِطَرفٍ صحيح‏.‏ وهذا أيضاً لطرفٍ آخر صحيح‏.‏ وعند كل حِصةٌ صحيحة‏.‏ والناجي عندَ واحدٍ ناجٍ عند آخر، وكذلك الهالك عند واحد هالك عند آخر‏.‏ وإنما تعرض الإمامُ إلى تلك المرتبة، لأن الإيمانَ عند السلفِ كان عبارة عن المجموع، ولم يكن هذا المجموع مداراً للنجاة، بحيث تنعدم النجاةُ بانعدام جزء منه، فوجب أن يُنَبِّه على الحصة التي يدورُ عليها أمر النجاة، وهذا أيضاً كان أهم، فنبَّه الإمام على أن الإيمانَ المركبَ ليس مداراً للنجاة المطلقة، بل هو مدارٌ للنجاة الأولية‏.‏

أما الذي تنتفي النجاةُ بانتفائه مطلقاً فهو التصديق، ولذا لم ينقل أحد في لفظ الإمام‏:‏ بأن الإيمان لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية‏.‏ وهو النقيض الصريح لما يقوله السلف، ويلزمُ منه انتقاءُ الزيادة والنقصان، بمعنى السراية والتأثير أيضاً، ولم يكن مراداً للإمام، فأُورِدَ النفيُ على غير محل الإيجاب‏.‏

والحاصل‏:‏ أنه نُقل عن السلف‏:‏ إثبات الزيادة والنقصان مجملاً، فأوهم ثبوتهما باعتبار نفس الإيمان، ثم نقل عنهم إثباتهما من تلقاء الأعمال، فتحققت السراية‏.‏ وإذا كانت الأعمال أسباباً، لم يبق الإيمان إلا عبارة عن التصديق، والزيادة فيه على طريق السلف لا تكون إلا في نمائه ونوره، فانكشف الأمرُ وثَلَجَ به الصدر‏.‏ وأن ما يزيد وينقص عندهم هو انبساط الإيمان، وللأعمال سراية فيه، وهو تصديق أيضاً إطلاقاً للشي على مبدئه‏.‏ ولو أرادوا جُزئية الأعمال لقالوا‏:‏ الإيمانُ يتحقق بالطاعة وينعدمُ بعدمها، فلم يتوجهوا إلى الجزئية، بل أرادوا به بيانَ سراية الأعمال وتأثيرها في الإيمان‏.‏

والإمام لما لم يقل‏:‏ إن الإيمانَ لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية، عُلم أنه لم يَرد بنفي الزيادة إلا الزيادة في مرتبة محفوظة، ولذا لم ينف الزيادة في الانبساط بالطاعات، وإنما نفاها عن أصل الإيمان الذي يحصل قبل الأعمال، وأبقى الزيادةَ والنقصانَ في الخشية والتقوى، كما مر عن الطحاوي رحمه الله تعالى، فلم يكن مورِد النفي عين مورِد الإيجاب، فمعنى قوله‏:‏ لا يزيد ولا ينقص‏:‏ أي أصله، ومعنى قولهم‏:‏ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، أي بهائه ونمائه، فأين الخلاف‏؟‏ نعم أدى كلَّ حِصة صحيحة‏.‏ ولذا صرح الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى بكون مقولتِهِ من بدعة الألفاظ، فكأنه لم يجد بُداً من تسليم صحة مقولة الإمام رحمه الله تعالى‏.‏

ثم رأيت في «الكشاف» من الإمام الهمام رحمه الله تعالى نفسَه في الجواب عن الآيات التي تدل على الزيادة والنقصان، أن الإيمان كان يزيد في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم باعتبار المؤمن به، لأن الشريعة كانت تنزلُ وتزيدُ يوماً فيوماً‏.‏ أما إذا كملت الشريعة وتمّ الدين ولم يبق احتمالٌ للنسخ والتبديل، استحالت الزيادة فيها، فلا زيادة ولا نقصان في الإيمان بعد زمنه صلى الله عليه وسلّم واستفدت منه أن الإيمان عند الإمام رحمه الله تعالى إرادةٌ على إطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم بجميع ما جاء به‏.‏ وتلك الإرادة تنسحِبُ على جميع الشريعة، بحيث لا يشذُ عنها شاذ‏.‏ فمعنى قوله‏:‏ لا يزيد ولا ينقص أن يدخل جميعُ المؤمن به تحتَ الالتزام، لا أنه يلتزم بعضاً دون بعض آخر‏.‏

فإذا كان الإيمان إسماً لالتزام الجميع بحيث لا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه شيء فكيف يزيد الإيمان وينقص بهذا المعنى‏؟‏ فالنفي بالحقيقة راجعٌ إلى المؤمن به دون الإيمان‏.‏ وإذن معنى قولهم‏:‏ يزيد وينقص أي الإيمان بنفسه‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ لا يزيد ولا ينقص أي باعتبار المؤمن به‏.‏ وظاهر أنه لا تفاوت فيه بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وبين إيمان أدنى مؤمن من أمته صلى الله عليه وسلّم لأن إيمان أدنى مؤمن يشتملُ على جميع الأشياء التي يشتملُ عليها إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فكما أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه التزم الإتيان بجميع الشريعة، كذلك أدنى مؤمنٌ من الأمة أيضاً التزم بجميعها، فلا فرق في هذا المعنى‏.‏ إنما الفرق في الخشية والتُّقى ومخالفة الهوى‏.‏ فلو وزنت إيمانَه بهذا المعنى لترجح إيمانه، على جميع أمته‏.‏

ونظيره ما روى الترمذي عن عبد الله بن عمر وقال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي يديه كتابان، قال‏:‏ «أتدرون ما هذان الكِتَابان‏؟‏» قلنا‏:‏ لا يا رسول الله إلا أن تُخْبِرَنا فقال للذي في يده اليمنى‏:‏ «هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماءُ أهلِ الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائِلِهم، ثم أجمل على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبداً»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فكما أن نفي الزيادة والنقصان راجع فيه إلى من فيهما من أسماء أهل الجنة والنار، كذلك نفي الزيادة والنقصان عن الإيمان راجع باعتبار ما فيه من الأحكام، وهي المؤمن بها‏.‏

بقيت الصورة المثالية فهي زائدة وناقصة قطعاً‏.‏

وإذا سمعت أن الاختلافَ فيه اختلاف الأنظار فقط، فلننظر أن أي النظرين أنفع، فنقول‏:‏ إن الإيمان إذا كان إسماً للمجموع لم تتضح له مزية على الأعمال في التعبير‏.‏ ويتوهم كون جميع أجزائه متساوية الأقدام‏.‏ ولما كان الإيمانُ من أسنى المقاصد، وأبرِّ الأعمال، وشرطاً لسائرها وأساسها ودِعامتها، لا كما يُتوهم مما قاله أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ أنه معاقدة، جعلناه منفرداً عن الأعمال تاماً بنفسه، ومختَتَمَاً بذاته، غيرُ منتظر إلى الأعمال، فلا يُخفف أمره، ولا تُحطّ رتبته، بجعله مركباً مع غيره، فإن الأعلى لا يعدّ مع الأدنى، والأصل مع الفرع، والتابع مع المتبوع، فلا بد أن يُظْهِرَ حقيقته في نفسه أيضاً، ويرى مكانه ومنزلته‏.‏ ولا يمكن إلا بجعله منفصلاً عن الأعمال، وإذا انفصل أصلُ الإيمان لعظمة أمره عن الأعمال، فلا يكون إلا بسيطاً‏.‏

فما قاله السلف أيضاً نظر صحيح‏.‏ وما قاله الإمام الهمام أيضاً نظر صحيح‏.‏ إلا أنّ كلامَ السلف يُبْنى على النظر الإجمالي وعَدِّ متعلقات الشيء والفروع مع الأصل‏.‏ وكلام إمامنا يكشف عن الحقيقةِ ويعطي كل ذي حظ حظه، ويضعُ كل شيء مكانه‏.‏ ولا خلاف في الحقيقة كما مر مراراً‏.‏ ثم بعد التفتيش عُلم أن هذه الأقوال لم تصدر عنهم في بيان العقيدة، وإنما هو من باب مقتضيات الأحوال، لأن السلف أرادوا الردَّ على المرجئةِ الآخذين من الإيمان التصديق فقط، والقائلين بأنه لا يضرُ مع الإيمان معصية‏.‏ فكأنهم حطُّوا الأعمال عن مرتبها، وعطَّلُوها؛ وجعلوها كالمطروح في البين، وهذا جهل عظيم فردّ السلفُ عليهم واهتموا بذكر الأعمال، حتى أوْهَم بجزئيتها وانتفاء الإيمان بانتفائها‏.‏

فقالوا‏:‏ إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فله تعلقٌ عظيمٌ مع الأعمال، حتى إن ازديَادَها مؤثر في زيادته، ونقصَانها في نقصانه، فأين هؤلاء من الإيمان‏؟‏ فكأنهم أرادوا بهذا القول أن لا يتهاون الناس في أمر الأعمال، ولذا تواتروا بذلك القول، وتتابعوا عليه، حتى صارَ علماً لأهل السنة والجماعة عندهم‏.‏ ومن خالفهم في هذا القول رَمَوه بالإرجاء وغيره، لأنهم ابتلوا بهم، فمن خالفهم ولو في التعبير، أدخلوه في زمرتهم وحزبِهم، وزعَمُوه معيناً ونصيراً لهم‏.‏

ثم جاء إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى ورأى في زمنه فتنة الاعتزال والخروج، وكانوا يقولون‏:‏ إن مرتكب الكبير مخلد في النار، فأراد الردَّ على هؤلاء المتوغلينَ في أمرِ الإيمان والمعطين الأعمال ما ليس لها بحق، فلو قال‏:‏ في مقابلتهم أيضاً كما قال السلف لكان إعانة لهم فغير عنوانهم، فقال‏:‏ إن الإيمانَ لا يزيد ولا ينقص، فالأعمال ليس كما قلتم، بل هي وإن كانت أهم في نفسها، إلا أن أمرَ الإيمان أيضاً ليس بهينٍ، فهو أيضاً أمرٌ مستقلٌ وليس بتابع، بل أصلٌ وعليه يدور أمر النجاة‏.‏ فلو لم يعمل أحدٌ طولَ عمره، وكان آخرُ كلامِهِ‏:‏ لا إله إلا الله، دخل الجنة، لا كما قلتم‏:‏ إن الرجل لو آمن وصدق أي تصديق، ثم صدرت عنه كبيرة لا يغفر له فجعل الأعمال كالمطروح في العبارة فقط، دون الحقيقة ليظهرَ استقلالُ الإيمان وتماميته بدونها، فأراد أن يكشفَ عن حقيقةِ الحال لئلا ينخدع أحدٌ من عبارة السلف، فيجعل الأعمال داخلة في الإيمان، مع أنها كانت دخيلة، فينفي النجاة بترك الأعمال‏.‏

تتمَّةٌ في بَحْثِ الزِّيَادةِ والنُّقْصَان

وليعلم أن القرآن لا يدل بمنطوقه إلا على زيادة الإيمان، أما على نقصانه فلا، إلا أن يؤخذ عنه باللزوم، ويقال‏:‏ إن الإيمان إذا ثبتت فيه الزيادة أمكن فيه النقصان أيضاً‏.‏ وعند أبي داود حديث في كتاب الفرائض، عن معاذ رضي الله تعالى عنه مرفوعاً‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ «الإسلام يزيدُ ولا يَنقْصُ»‏.‏ واستدل منه معاذ رضي الله تعالى عنه في قصة التوريث ونحوه‏.‏ روى الزَّبيدي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه‏:‏ أن الإيمان يزيد ولا ينقص، ولعله كلام في مرتبة محفوظة، كما هو ملحظ الإمام، وهي التي تقبلُ الزيادة باعتبار الانبساط والانشراح، فلو كان مجرد الاتباع في التعبير شيئاً، فالاتباع بلفظ الحديث أولى كما رُوي عن الإمام رضي الله تعالى عنه‏.‏

محل الإيمان

نُسب إلى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أن الإيمان محله القلب، ونُسب إلى إمامنا رحمه الله تعالى أنه في الدِّماغ، كما في «مجمع البحار» ولا أعتمد عليه، لأني لم أجد تلك النسبة في أحد من كتب القدماء، مع أن في كتاب الجنائز من «الهداية»‏:‏ أن الإمام إنما يقوم حذاء الصدر، لأن الإيمان في القلب، فدل على كونه محلَّ الإيمان عند الحنفية‏.‏

قلت‏:‏ وذهب الأطباء إلى أن العلوم في الدِّماغ‏.‏

وصَدَع القرآن في غير واحد من الآيات أن الإيمان في القلب وقد تحقق عندي أن مَعْدِنَ الإيمان هو القلب، والمُظهِرُ هو الدِّماغ، ولقلة الفصل بين الانبعاث من القلب وظهوره في الدماغ قيل‏:‏ إن الإيمان في الدماغ‏.‏ وإنما اضطررتُ إلى التأويل المذكور، لأن القرآن صَدَعَ في غير واحد من الآيات بكون محله هو القلب، وإذن لا أصرفها عن ظاهرها‏.‏

فائدة‏:‏ واعلم أن القلبَ كأنه إنسانٌ صغير بين جَنبي الإنسان الكبير، عليه مدارُ صحته، وسَقمِهِ، وصلاحِهِ، وفساده، وقد خلقه الله تعالى منكوساً‏.‏ ووجهه على ما ظهر لي‏:‏ أن الله تعالى خلق الخلق على أنحاء‏:‏ فمنه ما هو شاخصٌ من التحت إلى الفوق كالشجر‏.‏ فإن أصله في الأرض وفرعه في السماء‏.‏ ومنه ما هو منبسط في العرض كالحيوانات، فإنها خَلْق متوسط‏.‏ وأما الإنسان فإنه لما هبط من السماء إلى الأرض صارَ خلقه كله من الفوق إلى التحت، فإن رأسه الذي هو أصلُهُ نحو الفوق على خلاف شاكلة الشجرة، فإن أصلها في الأرض وتنحدر أعضاؤُها كلها إلى التحت كاليدين، والرجلين، والأشعار، وحينئذٍ ناسب أن يكونَ القلبُ أيضاً إلى التحت، ففي خلقه إشعار بكونه عُلْوياً، على خلاف شاكلة سائر الخلق، ثم جعله في اليسار ليكون مِلْكُهُ في اليمين‏.‏

وأما محل المعرفة فذهب المصنف رحمه الله تعالى‏:‏ إلى أنها في القلب‏.‏

أقول‏:‏ المعرفة أقرب من العلم وليست بإيمان، بل هي من مقدماته‏.‏ وقال المعتزلة‏:‏ إن المعرفة الحقة اليقينية شرط للإيمان كما مر، لأنه لا إيمان عندهم إلا بالاستدلال المفيد للقطع‏.‏ وعندنا يكفي له الجزم وإن حصل بالتقليد، والاستدلال غير ضروري‏.‏ ونقل النووي ههنا عن القاضِي عِيَاض‏:‏ أن الإيمان يزيد وينقص لزيادة المعرفة ونقصانها، فدل على أنها غير الإيمان، وهذا صحيح جداً‏.‏ وحينئذٍ تردد النظر في محلها هو القلب، أو الدماغ‏.‏ نعم، المعرفة المكتسبة التي تحصل بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل، لا شك أن محلها القلب‏.‏ وعلى هذا لو قال المصنف رحمه الله في الترجمة الآتية‏:‏ وإن الإيمان فعل القلب، لكان أحسن‏.‏

واعلم أن الرُّوح‏:‏ طبعي، وحيواني، ونفساني، ومحل الأول‏:‏ الكبد، وفعله التغذية، ومحل الثاني‏:‏ القلب وفائدته الحياة، ومَعْدِن الثالث‏:‏ الدماغ، وفائدته الحِسّ والحركة والروح عندي بعد الإمعان واحد، وإنما تعددت أسماؤه باعتبار الاختلاف في المواطن‏.‏ ثم إن الأطباء حرروا عشرة آلاف حكمة في البدن الإنساني، غير أنهم لم يذكروا لكون القلب منكُوسَاً حكمة، وقد ذكرتها‏.‏ والعلم عند الله العليم الخبير‏.‏

النِّسْبَةُ بين الإسْلام والإِيْمَان

وقد جوَّز الغزالي رحمه الله تعالى بينهما النِّسبَ الثلاث من الأربع، غير العموم من وجه، باعتبارات مختلفة، ويقرُب منه ما قال الدَّوَّاني‏:‏ أن الإسلام هو الانقياد الظاهري، وهو التَّلفظ بالشهادتين، والإقرار بما يترتب عليهما‏.‏ والإسلام الكامل الصحيح لا يكون إلا مع الإيمان، والإسلام الظاهري قد ينفك عن الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 14‏)‏ وأما الإسلام الحقيقي المعتبر عند اللَّهِ فلا ينفكُ عن الإيمان‏.‏ وما وَضَحَ لدي‏:‏ أن الإيمان يتدرج من القلب إلى الجوارح، على عكس الإسلام، فهما في مسافة ذهاباً وإياباً، فإن ظهر الإيمان على الجوارح، ورسخ الإسلام في القلب فهما واحد، وإن بقي الإيمان في القلب واقتصر الإسلام على الجوارح فهما متغايران‏.‏

وأعني باتحادِ المسافة وسراية الإسلامِ إلى الباطن نسبةَ الإحسان‏.‏ كما سيجيء في حديث جبريل‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه» فالعبادةُ التي هي من الجوارح، إذا حصلت بحيث يجد العبد ربه بمرأى عينيه، فهذه أمارة على اتحاد المسافتين، فإن تلك الرؤية من صفةِ القلب، فإذا اجتمعت تلك الرؤية مع خشوع الجوارح، فقد اتحدت المسافتان، وحينئذٍ صار إيمانُهُ عينَ إسلامه، وإسلامهُ عينَ إيمانِهِ، لا فرق بينهما، وإلا فالإسلام على جوارحه والإيمان في قلبه، لم يسر ذلك إلى باطنه، ولم يَرْق هذا إلى ظاهره، والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

وإذ قد فَرَغنا من بحث التصديق، وأنه علمٌ أو عمل، يزيد وينقُصُ، أو لا، وإن محله ماذا‏؟‏ إلى غير ذلك من المباحث، فالآن نذكر‏:‏ معنى الضرورة، والتواتر وماذا أراد منهما المتكلمون، وماذا قصَّر فيه القاصرون، فنقول‏:‏

بحثٌ في معنى الضَّرورَةِ وما يَتَعلَّقُ بها

والمراد من الضرورة ما يُعرف كونُهَا من دين النبي صلى الله عليه وسلّم بلا دليل‏.‏ بأن تواتر عنه واستفاض، حتى وصل إلى دائرة العوامّ وعلمَهُ الكوافّ منهم، لا أن كلاً منهم يعلمه، وإن لم يَرْفَع لتعليم الدِّينِ رأساً، فإن جهلَه لعدمِ رغبتِهِ في تعليم الدين، وعلمته العامَّة، فهو ضروريٌّ كالواحدانية، والنبوة، وختمَهَا بخاتم الأنبياء، وانقطاعها بعده، والبعث والجَزَاء، وعذاب القبر سُمِّي ضرورياً لأن كلَّ واحدٍ يعلم أن هذا الأمر مثلاً من الدين‏.‏ وإن كانت متوقفةً في نفسها على النظر والاستدلال، كالتوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء، فإن كلَّ واحد منها وإن كان نظرياً في نفسه، لكن كونه من دينه صلى الله عليه وسلّم معلومٌ بالضرورة‏.‏ وكذا لا يريدون بالضرورة أن الإتيانَ بها بالجوارح لا بد منه كما يُتَوهم‏.‏

فقد يكونُ استحبابُ شيءٍ وإباحته ضرورياً، يكفر جاحده، ولا يجبُ الإتيان به كالسِّواك، فالضرورةُ في الثبوت عن حضرة الرسالة وفي كونه من الدين، لا من حيث العمل، ولا من حيث الحكم المتضمن، لأن الحديث قد يكون متواتراً، ويُعلم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّم ضرورة، ويكون الحكم المتضمن فيه نظرياً من حيث العقل، كحديث عذاب القبر، ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّم مستفيض، وفهم كيفية العذاب مشكل‏.‏ وليُعلم أن الإيمانَ هو التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن لم يكن متواتراً، والتزامُ أحكامِهِ، والتبرؤُ من كل دين سواه‏.‏ومن قَصَرَه من المتكلمين على الضروريات، فلأن موضوعَ فَنهِّم هو القطعي، لا أن المؤمنَ به هو القطعي فقط‏.‏ نعم، التكفير عندهم إنما يكون بجحوده فقط‏.‏ وأما الفقهاء فإنهم يبحثونَ عن أخبار الآحاد أيضاً، بخلاف المتكلمين‏.‏ ولذا تراهُم يكَفِّرون بإنكار الأمر الظني أيضاً، وحينئذٍ كان الأنسب للفقهاء أن لا يعرِّفُوا الإيمانَ بالحدِّ المذكور، لأن قيدَ الضرورة يناسب موضوع المتكلمين دون الفقهاء‏.‏ والمناسبُ لهم أن يقولوا‏:‏ هو الاعتقاد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم إن قطعاً فقطعاً، وإن ظناً فظناً‏.‏

والسرُ فيه أن الموجِبَ لكفر الرجل في نفسه، هو إنكار قطعيَ‏.‏ وأما المُنَبِّهُ للمُفتي في تكفيره، فقد يكون حديثاً آحادياً، فيُنبِّههُ على أن إنكارَ أمر كذا، كفر‏.‏ ثم لا يكونُ ذلك الأمرُ في الواقع إلا قطعياً، ومثاله‏:‏ أن رجلاً عالماً عدّ المتواترات والقطعيات وفهرسها، وذَهَلَ وغَفَلَ عن بعضها، فلم يُدْخله في ذلك الفهرس، فجاء واحد آخر ونبَّه على قطعيات أُخر، فأدخله بقول ذلك الواحد في هذا الفهرس، فقد تَنَبَّه بقول واحدٍ للقطعي‏.‏ فهكذا الأمرُ ههنا لم يكْفُر الرجلُ إلا بإنكار قطعي في نفسه، لكن المُفتي قد يأخذُ مسألةَ التكفير من خبر واحد، فيجوز بناءُ التكفيرِ على الظني بلا خطر، لأن الظنَّ في طريق العلم بالحكم، لا في أمرِ الموجِبِ لكُفْرِ المكفَّر‏.‏

وهذا كإثبات الفرض والحرام بالقياس، نظراً إلى حقيقة الشيء، لا نظراً إلى طريق ثبوتِهِ، أو كالإجماع المنقول آحاداً‏.‏ نعم، تكفيرُ المتكلِّمينَ يكون قطعياً، وتكفير الفقهاء قد يكون ظنياً، فليس هذا في الحقيقةِ خلافاً في المسألة وإنما هو اختلاف الفن والموضوع، فموضوع الفقهاء فِعْلُ المكلف، وكثير من مسائلهم ظني‏.‏ وموضوع المتكلمين القطع، فلو تكلم متكلمٌ في الفقه يوافقهم في التكفيرِ، ولو ذهبَ فقيهٌ إلى فنِ المتكلمين، لا يَحْكُم به إلا بعد إنكار القطعيات‏.‏

أقسَامُ التَّوَاتُر

ثم إن التواترَ قد يكونُ من حيث الإسناد وهو معروفٌ، كحديث‏:‏ «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»‏.‏

وقد يكون من حيث الطبقة كتواتر القرآن، فإنه تواتر على البسيطة شرقاً وغرباً، درساً وتلاوةً، حفظاً وقراءةً، وتلقاه الكافةُ عن الكافة، طبقة عن طبقة، فهذا لا يحتاجُ إلى إسناد معين، يكون عن فلان عن فلان‏.‏ وقد يكون تواترَ عملٍ وتوارث، بتواتر العمل على شيء من لدن صاحب الشريعة إلى يومنا هذا، كالسواك‏.‏ والرابع‏:‏ تواتر القدر المشترك، كتواتر المعجزات، فإن مفرداتها وإن كانت آحاداً، لكن القدر المشترك متواترٌ قطعاً، كسخاء حاتم، فإن أخباره وإن كانت آحاداً، إلا أن سخاءه معلومٌ متواتراً‏.‏ وقد يجتمعُ أقسامٌ منها في شيء واحد‏.‏

وعلى هذا نقول‏:‏ إن الصلاة فريضةٌ، واعتقاد فريضتَها فرضٌ، وتحصيل علمُها فرض، وجَحدها كفر، وكذا جهلُهَا، والسِّوَاك سنةٌ، واعتقادُ سنيتَه فرضٌ، لأنه ثَبَتَ متواتراً بأنحاء التواتر وتحصيل علمُهُ سنةٌ، وجحودهُ كفرٌ، وجهلهُ حِرمانٌ، وتركُه عتَابٌ أو عِقَاب‏.‏

ثم إن التواترَ يزعمه بعض الناس قليلاً، كما نقله الحافظ في «شرح نُخْبَةِ الفِكر»‏:‏ أن بعضهم أنكروا مِثاله، وبعضهم ادعوا العِزَّة فيه، ولم يأتوا إلا بمثال أو مثالين‏.‏ وهو على ما قلت كثير في شريعتنا، بحيث يفوت عنه الحصر، ويعجزُ الإنسان أن يفهرِسَه، ولكن ربما يذهل الإنسان عن التفاته، فإذا التفت إليه رآه متواتراً كالبديهي، وهذا مما ينبغي أن يُنَّبه عليه‏.‏

أَقْسَامُ الكُفْر

هذا آخرما أردنا تحريره في هذا المقام، لتكون على ذكرٍ من أمرِ الإيمان ومواضعِ الخلافِ فيه، ثم يأتي عليك أشياء في أثناء الكلام‏.‏ وسنقررها في مواضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد علمتَ أنّ الكفرَ بالمعنى اللغوي، لا يقابل الإيمان‏.‏ نعم، يقابلُهُ بالمعنى الشرعي‏.‏ قال الوَاحِدِيّ‏:‏ وهو كفرُ إنكارٍ، وجحودٍ، ومعانَدَةٍ، ونفاقٍ، فمن لقيه بشيء من ذلك لم يُغفَر له‏.‏

أما كفر الإنكار‏:‏ فهو أن يكفر بقلبه، ولسانه، ولا يعتقد بالحق، ولا يقر به‏.‏

وأما كفر الجحود‏:‏ فهو أن يعرف الحقَ بقلبه، ولا يُقرُ بلسانه، ككفر إبليس، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 89‏)‏ يعني كفرُ الجحود‏.‏

وأما كفرُ المعاندة‏:‏ فهو أن يعرفَ بقلبه، ويقرَّ بلسانِهِ، ولا يقبلُ ولا يتدينُ به، ككفرِ أبي طالب‏.‏

وأما كفرُ النِّفاق، فبأن يقرَّ بلسانِهِ، ويكفرَ بقلبه‏.‏

باب‏:‏ الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ»

لما أراد المصنفُ رحمه الله تعالى أن يعدد أجزاء الإيمان، ناسب له أن يُنبه أولاً على أهمِّ أجزائِهِ، فصدَّر الباب بقول النبي صلى الله عليه وسلّم هذا‏:‏ لاشتماله على لفظِ البناء الدالِّ على تَرَكُّبِ الإيمان صراحة، واحتوائِهِ على أهم أجزاءِ الإيمان، ومن ههنا ظَهَر وجهُ تخصيصُ الخمسِ في الحديث، وإلا فالإسلام يُطلق على أحكام مشروعة غيرها أيضاً‏.‏

ثم ادّعى أنه‏(‏قول‏)‏ وأراد منه القولَ الصادقَ، الموافقُ للباطن، فاندرج تحته التصديق أيضاً‏.‏ و‏(‏فعل‏)‏ وهو غير العمل، وفي لفظِ السَّلف‏:‏ «عمل»‏.‏ ولا يُعلم ما وجهُ تغييرِ لفظِ السلف، مع أنّ الأظهرَ هو العمل، وقد وقع في بعض نُسخ البخاري لفظ‏:‏ «العمل» مكان‏:‏ «الفعل» وكأنه استقى دعواه بجزئَيه من قوله صلى الله عليه وسلّم «بُني الإسلام على خمس» لأنه صلى الله عليه وسلّم فصَّلَ في الخمسِ القول والعملَ‏.‏

فثبت‏:‏ أن الإسلام والإيمان عنده واحد‏:‏ ‏(‏يزيد وينقص‏)‏ وقد علمت أن لفظَ السلف‏:‏ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية‏.‏ واختصره البخاري اختصاراً مُخِلاً، فإن الصِّلة فيه دالةٌ على السِّراية، ولا يظهرُ منها معنى الجُزئية، فيكونُ الاستشهاد من كلامهم في غير موضِعِه، إلا أن يقال‏:‏ إنّ المصنف رحمه الله تعالى أخذَ الباء في قولهم للتصوير، وحينئذٍ معنى قولهم‏:‏ يزيد بالطاعة، أنّ الإيمان يزيد، أنْ يطيعَ ربه، وهذا المعنى وإن كان لا يوجدُ عند النُّحاة، إلا أنه مستعمل فيما بين المصنفين‏.‏

أما الجوابُ الجلي عن الآيات المتلوة‏:‏ فلأن التمسك بها في غير محله، لكونها في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيمانُ جميعهم كان كاملاً، فلا معنى للزيادة والنقصان في نفس الإيمان في حقهم، فإن أراد الزيادة والنقصان باعتبار النور والانفساخ، فلا نُنْكِرُهُ أيضاً‏.‏ وقد مر أن نورَ الإيمان أيضاً عنده، فصح تمسكُهُ بقوله‏:‏ ‏{‏لِيَزْدَادُواْ إِيمَناً مَّعَ إِيمَنِهِمْ‏}‏‏.‏ وليراجع له «الكشاف» فإنه جَعَلَ الظرفَ لغواً ومستقراً‏.‏ والمعنى على الأول‏:‏ أنهم كانوا على إيمان ثم زاد عليه إيمان، ولحق بإيمانهم السابق‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ أنهم زادوا إيماناً مع كونهم متلبسِّينَ بالإيمان من قبل‏.‏

ولما دلت الآية على زيادة الإيمان، أجاب من قِبَل الحنفية‏.‏ وحاصل ما أجابه عن مثل تلك الآيات‏:‏ أنّ الزيادةَ فيها راجعةٌ إلى المؤمن به فإن القرآن كان ينزلُ في زمنه صلى الله عليه وسلّم نجماً نجماً والأحكامُ تنزلُ تدريجاً، فإذا نَزَلَ حكمٌ وآمن به زاد إيمانه، وهذه الزيادةُ كانت في الحقيقة في المُؤْمَن به، فعبّر عنها بزيادة نفس الإيمان‏.‏ وهذا الجواب نَسَبَه إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا إن صح عن الإمام رحمه الله تعالى فليس فيه أن أراد به توجيه تلك الآيات، بل المرادُ بيانُ معناها عنده، كما هو مَرويٌّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في «العمدة» و «الفتح» في تفسيرها‏.‏

قلتُ‏:‏ ويتضحُ معناها كلَّ الاتضاح مما فصلها به ابن تيميّة رحمه الله تعالى، فقال ما حاصله‏:‏ إن الناسَ في عهده صلى الله عليه وسلّم كانوا على نحوين، الأول‏:‏ مَنْ إذا عُرض عليه الإسلام إجمالاً، آمن به، ثم إذا أتت عليه المصائب، والأعمالُ الشَّاقة، جعل يتأخرُ ويضيقُ صدرُهُ، ولا ينطلق لسانُهُ، نحو قول بعضهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏التوبة‏:‏ 81‏)‏ وبعضهم‏:‏ ‏{‏لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَكُمْ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 167‏)‏، والآخر‏:‏ من كان آذا آمنَ مرة ثَبَتَ عليه، ولم تزدْهُ الدوائر والخُطوب إلا شِدَّةً، وثباتاً، واستقامةً، وإيماناً، وتسليماً، فهذا الذي زاد إيماناً مَعَ إيمانه، وسبقت له السوابق‏.‏ فبضمِ هذا التقريرُ يتَّضحُ الجواب الأول، وحاصله حينئذٍ‏:‏ أنهم عند نزول الأحكام تدريجاً كانوا يثبتُونَ على الإيمان، لا تعتريهم شبهةٌ ولا يُزَلْزَل إيمانهم من حمل المشاق، بل لا تزال قلوبُهم منشرحة، بخلاف الطائفة التي آمنت وجه النهار، فإذا نَزَلَ حكمٌ وشق عليها، كفرت في آخره فالبقاء على الإيمان مع تحمُّل الشدائد في سبيل الله هو مصداق الزيادة، والتأخر عنه هو المُسمّى بالنقصان‏.‏

‏{‏وزِدْنَاهُمْ هُدَى‏}‏ ولما كان الهُدى، والإسلام، والإيمان، والدين، والتقوى، كلها شيئاً واحداً عند المصنف رحمه الله تعالى، صحّ تمسكُهُ من زيادة الهدى على زيادة الإيمان، ومراده أن هذه كلَّها متحدةٌ مِصْدَاقاً، لا مفهوماً، كالمعنى والمفهوم والمدلول، فإنها متحدةٌ مصداقاً، لا أن كلَّها ألفاظٌ مترادفة، فإنه باطلٌ، لأن اتحاد المفهوم نادرٌ جداً، وهو أضيقُ من اتحاد الذاتِ واتحاد الوجودِ كليهما‏.‏ كما ترى في الإنسان وحدِّه التَّام، فإنهما متحدان ذاتاً ومتغايران مَفْهُوماً‏.‏ أما اتحادُ الوجود فهو أوسع من اتحادِ الذات‏.‏ والمفهوم كليهما، فإنه يمكنُ مع تغاير الذاتين، والمفهومين، كما قال ابن سينا في الجنس والفصل، فإنهما متغايران ذاتاً، مع الاتحاد وجوداً‏.‏ واعتراض المُلاّ حسن ساقط، فليراجعه في موضعه، وما قاله الأشعري‏:‏ إن الوجود عينُ الماهِيّة، لم يَرِد به المفهوم، بل الوجود الحقيقي‏.‏

‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى‏}‏ يعني كانوا من قبل أيضاً على هدىً، ثم زاد الله عليه هدًى من عنده، كما مر في قوله‏:‏ ‏{‏إِيمَناً مَّعَ إِيمَنِهِمْ‏}‏ أي كانوا من قبل أيضاً على الإيمان، ثم زيدوا إيماناً، وفيه احتراس لئلا يظنَّ أحدٌ أنهم إذا زِيْدُوا هدًى وإيماناً، فلعلهم لم يكونوا على هدًى مِنْ قبلُ أيضاً‏.‏

ثم اعلم أن الاهتداء فِعْلهُم، والهدى كالثمرةِ له، والغرضُ منه أنهم فعلوا شيئاً واكتسبوه بالجِدِّ والاجتهاد، ثم زادهم الله شيئاً من جنس فعلِهِمْ، من عنده، مِنَّةً عليهم وكرامةً لهم‏.‏ قال الشيخ ناصر الدين بن المنير‏:‏ وكذا يكونُ في الكفر أيضاً، فبعض الكفر يكون من فعلِهِ، وكسبِهِ ثم يزاد عليه كفر، نِقْمَةً عليه وسخطةً عنه، ليزداد كفراً‏.‏ ويمكنُ أن يكونَ هو المرادُ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 10‏)‏، أي كان مرضٌ في قلوبهم من كسبِهِم من قبل، فزِيْدُوا مرضاً على مرضهم‏.‏

‏{‏فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً‏}‏ ويُعلم منه أن الإيمان يُطلق على ثباتِ قدمٍ أيضاً ‏{‏إِيمَانًا وَتَسْلِيماً‏}‏ الإيمان هو تبجيل الذات، والتسليم، هو التصديق بالقول، يعني إيمان ذات كاماننا أو تسليم بات كاماننا وتفصيله‏:‏ أن متعلَّق الإيمان إن كان العقائد، فهو عبارةٌ عن التصديق‏.‏ وإن كان متعلَّقه الذات، فهو عبارةٌ عن تبجيلها، أي اتباعها فيما يُؤمر ويُنهى‏.‏

‏(‏والحبُ في الله والبغض في الله من الإيمان‏)‏ ولعل الحبُّ والبغض من الأحوال، لأنهما في الأكثر غيرُ اختياريين، ثم استدل المصنف من لفظ‏:‏ «من»، فإنه للتبعيض، فدل على الجزئية‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنها للابتداء والاتصال كما في قوله صلى الله عليه وسلّم «أنت منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى»، فلا يدلُ على الجزئية، فالمعنى‏:‏ أن الحبَّ في الله إنما يَبتدىءُ من الإيمان، ويتصل به، كما أن الشجرةَ تنبت من بَذْرها‏.‏ وللبخاري رحمه الله تعالى إن يقول‏:‏ إن ما نبت من الإيمانِ أيضاً إيمانٌ، وعلى هذا المِنْوال كلامُهُ، وكلامُنَا في الاستدلال‏.‏ والجواب‏:‏ هو يجعلُ «من» تبعيضية ونحن اتصالية وابتدائية‏.‏ وكذا هو يجعل ثمراتِ، الإيمان ونورَه، إيماناً، ونحن نجعله زائداً عليه‏.‏ فلا نُعيده في كل موضعٍ رَوْماً للاختصار‏.‏

‏(‏وكتب عمر بن عبد العزيز‏)‏ وهو وإن جعله مُركَّبَاً، لكن لفظَ الاستكمال إنما يُستعمل في الأوصاف، بخلاف التمام، فإنه باعتبار الأجزاء، وحينئذٍ فلا حجةَ فيه‏.‏ ثم قد مر معنا مراراً أن للإيمان إطلاقين‏:‏ الأول‏:‏ على الإيمانِ الكاملِ المركبِ من الأعمال والأحوال، والثاني على المرتبة المحفوظة، وهو غير مركب، فالجزئية في كلماتهم راجعةٌ إلى المعنى الأول‏.‏

‏{‏وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ وهذه الآية أولى أن تكونَ حجةً لنا، من أن تكونَ علينا، لأنه لا شك في كمال إيمانه وبلوغه إلى أقصى مراتبه، فلا يمكن أن يكونَ طالباً لزيادة في الإيمان، ولذا قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى‏}‏ فالإيمان كان حاصلاً، وإنما طلب زيادةً في المعنى الزائد‏.‏ ويحتاج البخاري في الاستدلال به إلى مقدمة زائدة لا يتم الاستدلال إلا بها، وهي‏:‏ أن الاطمئنان أيضاً من مراتب الإيمان، وقد مر بعض الكلام على الآية‏.‏

‏{‏نؤمن ساعة‏}‏ وظاهره أنه ليس المرادُ منه الإيمان ساعةً فقط، بل ما في «الحصن الحصين»‏:‏ «جددوا إيمانكم بقول‏:‏ لا إله إلا الله» أي تجديده وإحضاره والتفكر فيه‏.‏ ولا يخفى أن نَضْرة الإيمان ونَضَارَته وزهرَتَه ورِوَاءه، أمرٌ وراءَ الإيمان‏.‏

لكن عند المصنف رحمه الله تعالى كلُّها من وادٍ واحد‏.‏ ‏{‏اليقين الإيمان كله‏}‏ اليقين أيضاً يُطلق على معنيين‏:‏ الأول‏:‏ اعتقادٌ جازمٌ مطابقٌ للواقع‏.‏ والثاني‏:‏ استيلاؤه على الجوارح، بحيث تخضعُ له الأعضاء، وهو المعروفُ بين الصوفية رحمهم الله تعالى، وهو عينُ الإيمان‏.‏ «والكل» لتأكيد الشيءِ ذي الأجزاء، فصح الاستدلال، قاله الكرماني‏.‏ وهذا الشرحُ أقدم من «فتح الباري» إلا أن مصنفه ليس بمحدث، فيأتي فيه بحلِّ اللغةُ فقط، ويُكثرُ الأغلاط في فن الحديث- كما فَعَلَه علي القاريء في «شرح الموطأ»- وكان شرحه موجوداً عند ابنه، فلما لم يقدِرْ على تصحيحه، أتى به عند الحافظ رحمه الله فصححه، إلا أن تلك النُّسخَة المصححة لا توجد اليوم‏.‏

‏(‏وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏)‏ والتقوى عنده عينُ الإيمان، وهو اسم لوقاية النفس عن الشرك، والأعمالِ السيئة، والمواظبة على الأعمال الصالحة، وبهذا التقرير صح الاستدلال «ما وصى به الخ» يريدُ أن الدينَ من لدن نوحٍ عليه الصَّلاة والسَّلام إلى يومنا هذا مع الاختلاف في الجزئيات، فكذلك الإيمانُ مع كونه ذي أجزاء أمر واحد‏.‏ ومعلوم أنَّ الدينَ والإيمانَ، عند المصنف رحمه الله تعالى شيءٌ واحد‏.‏ وللمانع فيه مجال وسيع‏.‏

‏(‏وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏)‏ قال أهل اللغة‏:‏ المِنْهَاج‏:‏ الطريق الواسع، بخلاف الشِّرعة، فإنها اسم للطرق التي تنشعب من السبيل، ولما اتحدَ المنهاجُ وتعددت الشِّرعة، حصل غَرضُ البخاري، وجوابه‏:‏ أن الكلام في الإيمان لا في لفظ الشِّرعة، وإن كان الكلُّ عندكَ متقارباً‏.‏ فالسنةُ تفسيرٌ للشرعة‏.‏ واللف والنشر مشوش‏.‏