فصل: باب: التَّطَوُّعِ في البَيت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ التَّطَوُّعِ في البَيت

1187- قوله‏:‏ ‏(‏اجعَلُوا في بُيُوتِكم مِن صَلاتِكُم‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وفي «المصنَّف» لابن أبي شيبة بإِسناد قوي إن النافلة في البيت بخمسٍ وعشرينَ ضعفًا بالعلانية، فالنسبةُ بينهما كالنسبةِ بين المكتوبة بالجماعة والبيت‏.‏ فمن تَوهَّم مِن قوله‏:‏ «اجعَلُوا في بيوتِكم‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ جوازَ المكتوبة في البيتِ فقد غَفَل، فإِنَّه في النوافلِ فَحَسْب‏.‏

كتاب‏:‏ فَضْلِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمدِينَة

باب‏:‏ فَضْلِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَة

1189- قوله‏:‏ ‏(‏لا تُشَدُّ الرِّحالُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وقد افتتن الحافظُ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى لأجل هذا الحديث في الشام مَرَّتين‏.‏ فَحُبِس مرةً مع تلميذِه ابنِ القيِّم رحمه الله تعالى، وأخرى وَحدَه حتى تُوَفِّي فيه‏.‏ وكانَ مِنْ مذهِبه أنَّ السفرَ إلى المدينةِ لا يجوز بِنِيَّة زيارةِ قَبْره صلى الله عليه وسلّم لأجل هذا الحديث‏.‏ نعم يُستحَب له بنيةِ زيارةِ المسجد النبويّ، وهي من أعظمِ القُرُبات، ثُم إذا بلغ المدينةَ يُستحب له زيارةُ قَبْرِه صلى الله عليه وسلّم أيضًا، لأنه يصيرُ حينئذٍ من حوالي البلدة، وزيارةُ قبورها مُستحبةٌ عنده‏.‏ وناظرَهُ في تلك المسألةِ سراجُ الدين الهندي الحنفي، وكان حسن التقرير، فلما شَرَع في المناظرةِ جَعَل الحافظ ابن تيميةَ رحمه الله تعالى يَقْطَعُ كلامَ الهندي، فقال له‏:‏ ما أنت يا ابنَ تيميةَ إِلا كالعُصْفور‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وقال الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّ زيارةَ قبرِه صلى الله عليه وسلّم مستحبةٌ، وقريبٌ من الواجب‏.‏ ولَعلَّهِ قال قريبًا من الواجبِ نظرًا إلى هذا النِّزاع‏.‏ وهو الحقُّ عندي، فإِنَّ آلافَ الأُلوف مِن السَّلَف كانوا يَشُدُّون رِحالَهم لزيارةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويزعُمُونها مِن أعظم القُرُبَاتِ، وتجريدُ نِيَّاتِهِم أنها كانت للمسجدِ دونَ الروضةِ المباركةِ باطل، بل كانوا يَنوُون زيارةَ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قطعًا‏.‏ وأَحْسَن الأجوبةِ عندي أن الحديثَ لم يَرِدِ في مسألةِ القبور، لما في «المسند» لأحمدَ رحمه الله تعالى‏:‏ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلى مسجدٍ لِيُصَلَّى فيه إلا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ»‏.‏ فدلَّ على أنَّ نَهْي شَدِّ الرِّحال يقتصِرُ على المساجد فقط، ولا تعلُّقَ له بمسألةِ زيارةِ القُبور‏.‏ فَجَرُّهُ إلى المقابرِ مع كونِهِ في المساجدِ ليس بسديدٍ‏.‏ قال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ بلغني أنَّ الحافظ ابنَ تيميةَ رحمه الله تعالى كان يَنْهى عن شَدِّ الرحال لها، أما لو ذَهَب بدون الشَّدِّ جاز‏.‏ قلت‏:‏ مَذْهَبُه النَّهْي عن السَّفَر مُطلقًا، سواء كان بِشدِّ الرِّحال أو بدونه‏.‏

1190- قوله‏:‏ ‏(‏إِلا المَسْجِدَ الحَرَامَ‏)‏ وفي المفاضَلَة بين المسجدِ الحرامِ والمسجد النبوِيّ كلامٌ‏.‏ وحقّق في الحاشيةِ أن الاستثناءَ لزيادةِ الأجْرِ في المسجد الحرام‏.‏ ثم ادعى العلماءُ بتضعيفِ أجْر المَسْجِد النبوي بعده، إلا أنَّ ما استدلوا به لا يُوازي روايةَ الصحيح‏.‏ بقي أَنَّ الفَضْل يَقْتَصِر على المسجدِ الذي كان في عَهْدِ صاحبِ النُّبوة خاصَّةً أو يَشْمَل كُلَّ بناءٍ بعدَهُ أيضًا‏؟‏ فالمختار عند العَيْني رحمه الله تعالى أنه يَشْمَل الكُلَّ، وذلك لأنَّ الحديثَ وَرَدَ بِلَفْظِ‏:‏ مسجدي هذا»‏.‏ فاجتمع فيه الإِشارةُ والتسميةُ‏.‏ وفي مِثْله يُعْتبر بالتسميةِ، كما يظهَرُ من الضابطةِ التي ذكرها صاحِبُ «الهداية»‏.‏

تنبيه‏:‏ قال الطحاوي رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّ الفضيلة في الحَرَمين تَخْتَصُّ بالفرائضِ، أما النوافل فالفَضْلُ فيها في البيت‏.‏ قلت‏:‏ وهو الصواب، فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يؤدِّها إِلا في البيت مع كونِه بِجَنْب المَسْجِد‏.‏

باب‏:‏ مَسْجِدِ قُبَاء

1191- قوله‏:‏ ‏(‏وكانَ لا يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى‏)‏ وغَرَضُ الراوي بيانُ صلاتِ التي وقعت في وَقْت الضُّحى، وليس مرادُه الصلاةَ لمشهورة بذلك الاسم‏.‏ ثُم إِنَّ الصالحينَ فَرّقُوا بينِ صلاةِ الإِشراق والضُّحَى، وهما واحدٌ عند الفقهاءِ، وإِنَّما الفَرْق بالتعجيلِ والتأخير‏.‏

باب‏:‏ مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْت

باب‏:‏ إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ماشِيًا وَرَاكِبًا

وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يذهَبْ إِليهم يومَ السَّبْت، لأنَّ أهلَها كانوا يَشْهَدُون المدينةَ للجُمُعة، فإِن بقي أَحَدُ منهم فَلَعَلَّه كان يريدُ لقاءه‏.‏ وهذا يُبنى على عدمِ إقامةِ الجُمعةِ في قُباء‏.‏ ثم إِنَّ هذه من اتفاقياتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى‏:‏ إِنَّ اقتفاءَ الاتفاقياتِ على طريق الاتِّفاق سُنةٌ، بخلافه على طريق الاستمرار‏.‏ ولا أرى العلماءَ يَسْتحسِنُونَ رَأيَه‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ ما بَينَ القَبْرِ وَالمِنْبَر

قيل‏:‏ إنه ترجم «بالقبر» مع أَنَّه أخرج في الحديث لفظ‏:‏ «البيت‏.‏ قلت‏:‏ وأخرج الحافظ رحمه الله تعالى فيه لفظ «القبر» أيضًا، على أن بيتَه كان هو قبرَهُ في عالَم التقدير، فصح كونه بيتًا وقبرًا، وحينئذٍ فيه إخبارٌ بالغيب، وأصحُّ الشروحِ عندي أن تلك القطعة من الجنةِ، ثُم تُرْفع إلى الجَنَّة كذلك‏.‏ فهي روضةٌ مِن رياض الجَنَّة حقيقةً بلا تأويل، لا على نَحْو قوله‏:‏ «إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنةِ فارْتَعُوا»‏.‏

1196- قوله‏:‏ ‏(‏ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي‏)‏ وفَهِم الشارحون أَنه يُعاد المِنْبرُ ثُم يوضَعُ على الحَوْضِ‏.‏ والمرادُ عندي أن المِنبر يبقى على مَوْضِعه، ويبسط الحَوْض من ههنا إلى الشام، فهو الآن على الحَوْض‏.‏ بقي الكلام في أَنَّ الحَوْضَ دونَ الصراط أو بعدَه‏.‏ فمال ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى إلى أنه بَعْدَه، وأتى عليه بروايتِه‏.‏ وإليه مال الحافِظُ، وهو الأَوْجه عندي كما في رسالتي «عقيدة الإِسلام»‏.‏ ونقل السُّيوطي رحمه الله تعالى في «البدور السافرة» قولين ولم يَحْكُم بجانب‏.‏

باب‏:‏ مَسْجِدِ بَيتِ المَقْدِس

1197- قوله‏:‏ ‏(‏لا تُسَافِرِ المرأةُ يَوْمَين‏)‏ الخ، وهذا يختلف عندي باختلاف الأحوال، فلا تعيين فيها‏.‏ وقد مرَّ الكلامُ فيه‏.‏

كتاب‏:‏ العَمَلِ فِي الصَّلاة

باب‏:‏ اسْتِعَانَةِ اليَدِ في الصَّلاةِ، إِذَا كانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاة

أجاز المصنِّف رحمه الله تعالى بالعَمَلِ القليلِ عند الحاجةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابنُ عباس رضِي الله عنه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وحاصِلُه التوسيعُ فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووَضَع أبو إِسحاق قَلَنْسُوةً‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏‏.‏ وأجازَهُ فقهاؤُنا أيضًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووَضَع عليٌّ كفّه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وفي العبارة رِكَّة، وهي أنه أخرج المستَثْنى منه كالواقعة، والمستثنى كالعادة، فاختلَّ المرادُ‏.‏ وَوَجْهه أن المصنِّف رحمه الله تعالى روى القِطعةَ الأُولى بالمعنى، والقطعة الثانية باللفظ‏.‏ وحاصله‏:‏ أن عليًّا رضي الله عنه لم يكن يَرْفَعُ كَفَّه بعد عقد اليدين إلا لِحَاجَةٍ، كالحَكَّة أو إِصلاح الثوب، وللحنفيةِ في تحديد العمل الكثيرِ خَمْسةُ أقوال‏.‏ والأَصل ما ذكره السَّرَخْسي رحمه الله تعالى أنه مُفوَّضٌ إلى رأي المبتَلَى به‏.‏

والأرجح عندي أن تُتَتَبَّع أفعالُه صلى الله عليه وسلّم فَيُحْكَم بالجوازِ بِقَدْر مَا ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويُمْنَع عَمَّا زاد عليها‏.‏ وهذا فيما لم يَقُم فيه دليلُ التخصيص، وحيث قام دليلُ التخصيص فإِنه يُقْتصرُ عليه، ولا يجوزُ للأمة، ويكون مفسِدًا لصلاتهم‏.‏ لكن لا ريبَ أن التفويضَ إلى رَأي المُبتلَى به مُشْكِل في العمل‏.‏ فإِنَّ كلَّ عملٍ اعتاد عليه الإِنسان يراه قليلا، وما لم يَعْتَد عليه يراه كثيرًا‏.‏ كما وقع للأميرِ الكاتب الإِتْقَاني لما جلس للتدَّريس بالشام، أفتى بفسادِ الصلاةِ بِرَفْع اليدين، وزَعَم أنه عَمَلٌ كثيرٌ يُفْسِد الصلاةَ‏.‏ فردَّ عليه الشيخُ تقيُّ الدين السَّبْكي وقال‏:‏ إنَّ الخلافَ فيه في الأفضليةِ دونَ الجوازِ، وقَرَّره فلم يَقْدِر على جوابه‏.‏

باب‏:‏ ما يُنْهى مِنَ الكَلام في الصَّلاة

باب‏:‏ ما يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالحَمْدِ في الصَّلاةِ لِلرِّجال

وهي تبعيضيةٌ عندي على ما عَلِمت من عادتي‏.‏ ولعلَّه ذهب إلى مَذْهَبِ مالك رحمه الله تعالى ولم يَخْتَر مذهبَ الشافعيِّ رحمه الله تعالى، وإلا ترجم بعدم فسادِ الصلاة من الكلام ناسيًا، مع أنه قد أخرج حديثَ ذي اليدين غير مرةٍ، والمسألة فيه تلك‏.‏

1199- قوله‏:‏ ‏(‏فَلمّا رَجَعْنَا مِن عِنْد النَّجاشي‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ قال الحجازيون‏:‏ إِنَّ هذا رجوعُهم إلى مكة، وقد نُسِخ الكلام‏.‏ وحديثُ ذي اليدين بَعْدَه بالمدينة، فثبت جوازُ الكلام ناسِيًا‏.‏ وقال الحنفية‏:‏ إن رجوعَهم كان مرَّتين، كما في السِّيرة لمحمد بن إسحاق‏:‏

الأول لما سَمِعوا أنَّ كُفَّار مكةَ أسلموا جميعًا، فلما دخلوها عَلِموا أَنَّهم قد أُرْجِف بهم، فرجعوا على آثارِهم إلا قومًا‏:‏ منهم ابنُ مسعود رضي الله عنه، فإِنَّهم نزلوا لزيارتِه صلى الله عليه وسلّم ثُم ارجِعُوا إلى الحبشةِ‏.‏

والثاني‏:‏ لما سَمِعُوا هجرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فوجدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يصلِّي الحديث بطوله‏.‏ وذلك بعد قِصة ذي اليدين، وحينئذٍ نُسِخ الكلامُ وأُمِر بالكسوتِ، فتكون قِصَّةُ ذي اليدين منسوخةً‏.‏ وقد أطال الطحاوي في البحث عنه فراجِعْه‏.‏

وما يدلُّكَ على أن الكلامَ نُسِخ بالمدينةِ حديثُ زَيْدِ بنِ أَرْقَمِ الذي أخرجه المُصنِّف رحمه الله تعالى‏.‏ فإِنَّه مِمَّن لم يدخل مكةَ قط، مع أنه يروى أنه وُجِدَ زمانَ جوازِ الكلام ونَسْخِه كليهما، فدلَّ على أن الكلام كان جائزًا في المدينة أيضًا إلى زمنٍ أَدْرَكَه زيدُ بنُ أرقم، ثم إنَّه نُسِخ كما رواه‏.‏ فلو كان نَسْخُ الكلامِ بمكةَ كما زَعَموا لم يكن لزيدٍ بنِ أَرقم أَنْ يُدْرِكه ويرويه، ويروي نَسْخه أيضًا، مع أن الآية مَدنيةٌ باتفاقٍ بيننا وبينهم فادِّعاءُ النَّسْخ بمكةَ بعيدٌ جدًا‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 238‏)‏ أي متأدِّبين، فالسكوتُ من لوازِمه لا مِن مَدلولِه هذا هو المرادُ عندي‏.‏ ولما اختار الشافعيُّ رحمه الله تعالى القُنوت في الفجر، أراد من الصلاةِ الوسطى الفَجْرَ لِيَرْتَبِطَ بها القنوتُ‏.‏ فالقُنوت عندَه على الدعاءِ المعروف‏.‏

باب‏:‏ مَنْ سَمَّى قَوْمًا، أَوْ سَلَّمَ في الصَّلاةِ عَلَى غَيرِهِ مُوَاجَهَةً، وَهُوَ لا يَعْلَم

وإنَّما قَيَّدَه بكونِه على غير مواجهةٍ، لينسلِخ مِن كلامِ النَّاس‏.‏ فإِنَّه إذا كان على مُواجَهتِه بحيث كان المُسَلَّم عليه بين يديهِ يصيرُ من جِنْس كلام النَّاس‏.‏ ثُم إنَّك قد عَلِمت سابقًا أنه إن سَمَّى أحدًا فإِنْ كان في ضمن الدعاء ففيه قولان، وإِلا فَسَدَ قولا واحدًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهُو لا يَعْلَم‏)‏ قيل أي لا يَعْلَمُ المُسلَّم عليه، فيكون تأكيدًا لقوله‏:‏ على غَيْره مواجهةً‏.‏ وحاصله أنَّ المُسَلَّم عليه لم يكن حاضِرًا‏.‏ وقيل‏:‏ وهو أي المُصَلِّي المُسلِّم- على صيغة اسم الفاعل- لا يَعْلَم أن الصلاةَ تَفْسُد بالتسليم والتسمية أو لا‏.‏ وحينئذٍ يُرْجع إلى مسألةِ عبرةِ الجَهْل والنِّسيان‏.‏ وقد عدَّها المصنِّفُ رحمه الله تعالى عُذرًا في مواضع، واعتبره فقهاؤنا قليلا‏.‏ وقد مرَّ البحثُ في العلم ذيل قوله‏:‏ «افعل ولا حَرَج»‏.‏ والمناسبةُ أنَّهم كانوا أولا يُسلِّمون على جبريل وميكائيل، مع كونِ المُسلَّم عليهم غيبًا، وكانوا يسمونه أيضًا، فَثَبت السَّلام والتسميةُ، ولما لم يعلموا طريقَ التسليم حتى عَلَّمَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ثَبَت جَهْلُهم بالمسألةِ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاء

وطريقته أن تَضْرِب بَاطِنَ أُصْبَعَيك على ظَهْر يَدِك اليُسْرى لا الكَفَّ على الكَفِّ، فإِنَّه يُشْبِهُ اللَّعِب‏.‏ وأَنْكَره مالكٌ رحمه اللَّهُ تعالى وقال‏:‏ إنَّ لهنَّ أيضًا التسبيحَ‏.‏ وشَرْحُ الحديثِ عنده‏:‏ أنَّ التصفيقَ من أفعالِ النِّساء، فلا ينبغي أن يُؤتِي به‏.‏ فكأنَّه حَمَله على التقبيحِ دونَ التشريع والأَمر عند الثلاثة على التوزيع كما في الحديث‏.‏ ثم إنَّه يجوزُ أن يمنع المارّ بالتسبيح، أو بِجَهْر آيةٍ في السِّرية، فيستغني عن التسبيح أيضًا، كذا في «الدار المختار»‏.‏

باب‏:‏ مَنْ رَجَعَ القَهْقَرَى في صَلاتِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِه

والمشي الكثير مُفْسِدٌ عندنا إذا كان بثلاثِ خطواتٍ متوالياتٍ، أما إذا كانت متفاصلات فلا‏.‏ كذا صرَّح به محمد بنُ الحسن رحمه الله تعالى في «السير الكبير» عند رواية حديث‏:‏ «انفلات الدابة» الذي أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في الصفحة التالية‏.‏

باب‏:‏ إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا في الصَّلاة

باب‏:‏ مَسْحِ الحَصَا في الصَّلاة

قال الفقهاء‏:‏ إنَّ الجوابَ مُفْسِدٌ مطلقًا‏.‏ ثُم إنه هل يجوزُ له ذلك أم لا‏؟‏ فإِنَّهم فَصَّلُوا فيه‏:‏ فقالوا‏:‏ يجوزُ في النافلة دون الفريضة‏.‏ يعني أنه إنْ كان في النافلةِ يقطعُ صلاتَه ويجيب، وإن كان في الفريضة يَمْضِي فِيها‏.‏ لا يقال‏:‏ إنَّ الحديثَ يدلُّ على وجوبِ القَطْعِ مطلقًا بدون تفصيل بين الفريضةِ والنافلة، لدلالَتِه على استجابةِ دعاءِ أُمِّه عليه‏.‏

قلت‏:‏ قد عَلِمت فيما مرَّ أن بابَ الدعاءِ غيرُ بابِ التشريع، فيمكنُ استجابةُ الدعاء مع كونِ المسألة عدَمَ الإِجابة أيضًا‏.‏ كما في «المسند» أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خرج مِن عند عائشةَ رضي الله عنها مرةً وقد قال لها‏:‏ «قَطَع اللَّهُ يَدَيْكِ»‏.‏ ثُم رَجَع فرآها قد اعوجَّت يداها، فدعا لها فبرئت‏.‏ وذلك لأنَّ السُّنَّة في الدعاء إجراؤه على الألفاظ، ولا يُرَاعي فيه الأَغراض‏.‏ وفي كتاب «التعليم والمتعلم»‏:‏ أنَّ شمسَ الأئمة الحَلْوَاني مَرِض مرةً، فحضر تلاميذُه لعيادَتِه ولم يحضر واحدٌ منهم‏.‏ فلما جاء سُئِل عن سَببِ تَخَلُّفِه، قال‏:‏ كانت أمي مريضةً ولم يكن هناك أحَدٌ يقومُ بها‏.‏ فقال له‏:‏ يُبارَكُ لك في عُمُرك، ولا يُبارَك لك في عِلْمِك، فهذا التلميذُ وإن اعتذر عذرًا صحيحًا، لكنه حُرِم من بركة في عِلْمه‏.‏ ثم إنَّ الحَلْواني لم يقل له ذلك سَخطةً عنه، ولكنَّه بَيَّن له حقيقةَ الأمر، لما في الحديث‏:‏ «أن خادِمَ الوالِدَين يُزادُ في عُمُره، وخادِمَ الأستاذ يُزاد في عِلْمِه»‏.‏ وهذا التلميذُ لَمَّا رجَّح جانِبَ عُمُرِه ذَكَّره الحلواني بالحديث‏.‏ فجُرَيجٌ هذا أيضًا لم يكن عاصِيًا وإلا لم يُبَرِّئه صبيّ‏.‏ ولكنه استُجِيب فيه دعاءُ أُمِّه على السُّنة التي في الدعاء‏.‏

1206- قوله‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أُمِّي وصَلاتي‏)‏ قال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى‏:‏ «وفي الأَدب المفرد»‏:‏ أنه قاله في نفسه، لا أنه تكلم بلسانِه‏.‏ فاندفع الاضْطِرَاب‏.‏

1206- قوله‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَبُوك‏؟‏‏)‏ وفيه أن حُرْمة المصاهرةِ تَثْبُت من الزنا‏.‏ وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى، والحنابلة في أقوى القولين، والحنفية‏.‏ فَمَنْ قال إنَّ الجمهورَ فيها مع الشافعية‏؟‏

باب‏:‏ بَسْطِ الثَّوْبِ في الصَّلاةِ لِلسُّجُود

وافق الحنفية لِدلالَتِه على جوازِ السُّجُودِ على ثوبِ اللابس‏.‏

باب‏:‏ ما يَجُوزُ مِنَ العَمَلِ في الصَّلاة

ولما عَلِم المصنِّف رحمه الله تعالى أَن ليس كُلُّ عملٍ جائزًا، ولا كُلُّ عَملٍ مُفْسِدًا أتى بِحَرْف التبعِيض‏.‏

1210- قوله‏:‏ ‏(‏لِيَقْطَعَ الصلاةَ عليَّ‏)‏ أي إِمَّا بالمُرُورِ في قبلتي، أو بأن يُلجأني إلى العملِ الكثير‏.‏ واختار الأَوَّل في «أحكام الجانّ»‏.‏ وفي «مصنف عبد الرزاق» أَنَّه عَرَض له في صورة الهِرَّة- وفي تذكرةٍ عندي ابن أبي شَيْبة ‏.‏

باب‏:‏ إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ في الصَّلاة

1212- قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ اسْتفْتَح بسورةٍ أَخرى ثُمَّ رَكَع‏)‏ وفيه تصريحٌ بأن الاستفتاحَ وقع بالسُّورة‏.‏ والشافعيةِ قالوا بالفاتحة أيضًا‏.‏ والسِّر أنَّ الحديثَ جَعَله قِطعاتٍ من قيام، وهم جعلوها قيامًا على حِدَة‏.‏ وما ذلك إلا لِشَغَفِهم بقوله‏:‏ «لا صلاة‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، فبالغوا بِمثْلِه‏.‏

باب‏:‏ ما يَجُوزُ مِنَ البُصَاقِ وَالنَّفخِ في الصَّلاة

باب‏:‏ مَنْ صَفَّقَ جاهِلا مِنَ الرِّجالِ في صَلاتِهِ لَمْ تَفسُدْ صَلاتُه

وفي «البحر» قولان‏.‏ قيل‏:‏ إنْ كان النَّفْخُ مُهجًا أَفسد الصلاةَ وإلا لا‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان مَسْمُوعًا أَفْسَدها وإِلا لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويُذْكَر عن ابنِ عَمْرو‏)‏ وإِنَّما مَرَّضَه لأنه لم يكن على شَرْطِهِ، مع أَنَّه أخرجه أبو داود‏.‏

باب‏:‏ إِذَا قِيلَ لِلمُصَلِّي‏:‏ تَقَدَّمْ، أَوِ انْتَظِرْ، فَانْتَظَرَ، فَلا بَأْس

يعني أن تعليمَ مَنْ لم يكن في الصلاة لمن في الصلاة يفسد صلاته أو لا‏؟‏ ففي «القنية»‏:‏ أن رجلا لو سهى عن عدد ركعاته مَثَلا، فعلَّمه رجلٌ بِجَنْبه، فعمل به على فَوْرِه أفسدَ صلاتَه‏.‏ وإن مكث حتى تحرى في نفسه، ثم قام لم تَفْسد- وفي تذكرةٍ عندي أنه ليس مُختارًا عند الشيخ رحمه الله تعالى‏.‏

1215- قوله‏:‏ ‏(‏لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ‏)‏‏.‏ واعلم أن الحديثَ في تعليم المسألةِ خارجَ الصلاةِ، والترجمةَ في الإِصلاحِ في خلالِ الصلاة، فأين هذا من ذاك‏؟‏ إلا أن يُقال‏:‏ إنه أخذَ ترجمَتَه منه بِنَوْع استنباط‏.‏

باب‏:‏ لا يَرُدُّ السَّلامَ في الصَّلاة

وجَوزه «خواهر زاده» بالإِشارة كما في «فتح القدير» نَقْلا عنه‏.‏ ومَنْع عنه الطحاوي رحمه الله تعالى‏.‏ وقال‏:‏ يشيرُ لإِخبارِ أنه في الصلاةِ، ولا يُردُّ عليه السلام‏.‏ وَوَرَد الحديثُ بالنَّحْوين، وكيفما كان الإِشارةُ للرَدِّ غير مُفْسِدة‏.‏

1217- قوله‏:‏ ‏(‏فردَّ عليه‏)‏ وأخرج الطحاوي رحمه الله تعالى أنه كان بَعْدَ الفراغِ من الصلاةِ‏.‏

باب‏:‏ رَفعِ الأَيدِي في الصَّلاةِ لأَمْرٍ يَنْزِلُ بِه

وقد مر معنا أنَّ ما فعله أبو بكر رضي الله عنه ينبغي أن يقتصر عليه، ولا سيما إذا جاء رَفْعُه تحت السؤالِ من صاحبِ النبوة‏.‏

باب‏:‏ الخَصْرِ فِي الصَّلاة

باب‏:‏ يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيءَ فِي الصَّلاة

يعني إذا فاته الخشوعُ لأَجْل التَّفكُّر في شيء فماذا يكونُ منه‏؟‏ أو إذا سها عن ركعاتِه فاشتغل في تَعْيِينِها فماذا عليه من التَّبِعة‏؟‏ ففي الفقه‏:‏ أنه إنْ تَفَكَّر وهو يؤدِّي أفعالَ الصلاةِ لا شيءَ عليه، وإنْ قام يتفَكَّر فيها فعليه السهو‏.‏ ولعل ترجمةَ المصنِّف رحمه اللَّهُ تعالى ليست ناظرةً إلى هذه المسألة‏.‏ والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏ قال عمرُ رضي الله عنه‏:‏ إنِّي لأجهز جيشي وأنا في الصلاة‏.‏ وفي «معاني الآثار»‏.‏ ونحوه ما حَكى المستغفري من قول عمرَ رضي الله عنه في خطبةِ الجمعةِ بالمدينة‏:‏ «يا رسارية الجبل»‏.‏ وهو إذا ذاك كان على نَحْو خمس مئةِ مثلٍ قريبًا من إيران‏.‏

كتاب‏:‏ السَّهْو

باب‏:‏ ما جاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الفَرِيضَة

1224- قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ قَام يَجْلِس فقامَ النَّاسُ مَعَه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وعند أبي داود من باب‏:‏ مَنْ قام من ثنتين ولم يتشهد، وكان مِنَّا المتشهدُ في قيامه‏.‏ قلت‏:‏ فليسأل المشغوفينَ بالفاتحة‏:‏ ما قولُهم في هذا الرجل‏؟‏ فإِنَّ الظاهرَ أَنه تَرَكَ الفاتحةَ، ثُمَّ ماذا يستفادُ منه هل كانت الفاتحةُ عندهم ركنًا على المقتدِي، أو كانت تلك وغيرها سواء‏؟‏ فالذي يظهرَ أنها كانت واقعةً من أوائل الإِسلام حين لم يَتَعَلَّمُوا كثيرًا مِن المسائل‏.‏ فذهب اجتهادُ بعضِهم أن تَشَهُّدَه إذا فاتَ عنه في القعودِ فليأتِ به في القيامِ، فتشهَّد به لذلك، والله تعالى أعلم‏.‏

1224- قوله‏:‏ ‏(‏كَبَّرَ قَبْلَ التسليمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْن‏)‏ والخلاف في كون سجدتي السهو قَبْلَ التسليم أو بعده في الأفضلية، كما في «الهداية»‏.‏ وقد وَضَعه القُدُوري كما في «التجريد» في الجواز‏.‏ قلت‏:‏ وهو مَبْنيٌّ على الرواية الشاذَّةِ‏.‏ وحَمْل الأحاديثِ على تلك الرواية عَسِيرٌ‏.‏

باب‏:‏ إِذَا صَلَّى خَمْسًا

باب‏:‏ إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَينِ، أَوْ فِي ثَلاثٍ، فَسَجَدَ سَجْدَتَينِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَل

وإنما لم يتمسك به الشافعية رحمهم الله تعالى في مسألةِ كلامِ النَّاسِ، لكَوْنِهِ قبل نَسْخِ الكلام بالاتفاق‏.‏ ثُم إنه تلزمُ على مسائل الحنفية في تلك الصورة القَعْدَةُ على الرابعة لئلا ينقلبَ فَرْضُه نَفْلا‏.‏ وقد مر معنا التَّفَقُّه في ذلك، وهو أنَّ الصلاةَ في شريعتِنا إما ثنائيةٌ، أو ثلاثيةٌ، أو رُباعيةٌ، وليس تقومها إلا بالقعدةِ، فلزم بالقعدة على الرابعة‏.‏ وإلا لا تكون رباعيةً بل تكون شيئًا آخَرَ، وحينئذٍ ثبت كونُ القعدةِ من ضرورياتِ الشَّرْع فلا بد أن يكونَ قعد فيها‏.‏ وفي «المعجم» للطبراني نَفي القعدةِ على الرابعةِ صراحةً، فأشكل الأَمْرُ علينا، ولا بدَّ له مِن جواب‏.‏

قلت‏:‏ ولم أسمع منه جوابَه، ولا أتَّفَق لي السؤالُ عنه‏.‏ والله تعالى يدري ما كان جوابُه عنده، ولا رَيْبَ أن الأَمْر أمرُّ‏.‏

باب‏:‏ منْ لَمْ يَتَشَهَّدْ في سَجْدَتَيِ السَّهْو

ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى نَفْي التشهد‏.‏ ولنا ما أخرجه الطحاوي في «معاني الآثار» مرفوعًا- وإسنادُه قويّ عن عبدِ الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى أحدُكم فلم يَدْر أثلاثًا صلى أم أربعًا‏؟‏ فلينظُر أَحْرى ذلك إلى الصواب فليتمه، ثم يسلِّم ثم يسجِد سجدتِي السَّهْو ويتشهد ويسلِّم»‏.‏ وأخرج الترمذي عن عِمرانَ بنِ حُصَين- بإِسناد فيه أَشْعَثَ وحسَّنه الترمذي‏:‏ «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بهم فَسَها، فسجَد سجدتَينِ، ثُم تشهَّد ثُمَّ صلَّى»‏.‏

1228- قوله‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ لمحمد- بن سيرين- في سجدتي السَّهْو تَشَهُّدُ‏؟‏ فقال‏:‏ ليس في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وهذا يُشعِر باتحاد القِصَّتين في حديث أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه وعِمرانَ بن حُصَين رضي الله عنه‏.‏ وهي قِصة ذي اليدين‏.‏ وعْمَلها النوويُّ رحمِه الله تعالى على التعدُّد‏.‏ ثُم عند أبي داود في باب سجدتي السهو عن محمد بن سيرين قال سَلَمة بن علقمة لابن سيرين‏:‏ قلت‏:‏ فالتشهد‏؟‏ قال‏:‏ لم أسمع في التشهد، وأحبَّ إلى أن يتشهَّد‏.‏ ثُم إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أفرز سؤالَ علقمةَ من ابن سيرين، وجوابه إيَّاه من الحديث المرفوع، لكونه رأى ابنَ سيرين، فرواه على حِدَة‏.‏

باب‏:‏ مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْو

ولا يكبر لهما عند الجمهور تكبيرًا جديدًا‏.‏ وعند مالك رحمه الله تعالى لهما تكبيرٌ جديد على شاكِلة الصلاة، فكأنهما الصلاةُ الصغرى‏.‏

باب‏:‏ إذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَينِ وَهُوَ جالِس

وقد مرَّ الكلام فيه، والخلافُ بين «الجوهرةِ» و«فتح القدير» في وجوب سجدتي السهو عند العمل بالتحرِّي‏.‏

وأنَّ الأقربَ عندي ما في «الجوهرة»، وأن الحنفيةَ أَسْعَدُ بالأَحاديث في هذا الباب‏.‏

1231- قوله‏:‏ ‏(‏فَلْيَسْجُد سَجْدَتين‏)‏ وعَمِل به بعضٌ من السلف تَبَعًا لظاهر الحديث ولم يوجبوا على الساهي شيئًا غيرَ السجدتين، إلا أن الأحاديثَ لما بلغت فيه مرتبةَ الصِّحة لا بد وأن تُراعى تلك التفاصيلُ من التحرِّي وغيرِه‏.‏

باب‏:‏ السَّهْوِ فِي الفَرْضِ وَالتَّطَوُّع

وهو مذهبُ الجُمهور أن التطوُّع والفَرْض في أحكام السهو سواء‏.‏ وذهبت جماعةٌ إلى الفَرْق بينهما لكونِ التطوع بِطَوْعه بخلاف الفَرْض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ لا يقال‏:‏ إن البخاري رحمه الله تعالى أدخل الوِتْرَ في التطوعِ فلا يكون واجبًا عنده‏.‏ لأنا نقول‏:‏ إنَّ المكتوبةَ إنما أُطْلقت في العُرْف على الصلواتِ الخمس فقط‏.‏ فإِن لم يجعلْه البخاري من المكتوبة وعَدَّه من التطوع لم يخالف مذهبَ الحنفيةِ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَع

باب‏:‏ الإِشَارَةِ في الصَّلاة

وقد علمتَ أن الإشارةَ ليست بِمُفْسِدة عندنا وإن كرهها الحنفية، ووَسَّع فيها الشافعية‏.‏ ونُسِب إلى الطرفين أن الأذكار إذا استُعْمِلَت في حاجاتِ الدنيا وأخرجت مُخْرج الكلام، انسلخت عن كونها ذِكْرًا‏.‏ ونُسِب إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها لا تخرجِ عن كونها ذِكْرًا بمجرَّد النية‏.‏ وفي «تذكرة الدارقطني» أنه كان يتهجَّدُ مرةً، وكان تلامِذَتُه مشغولين في أَخْذِ النقول، إذ اختلفوا في اسم راوٍ‏:‏ هل وهو نصيرٌ أَم بشيرٌ- أي بالنون أو الباء ‏؟‏ فلما قام الدَّارقطني من سجدته جعل يقرأ سورة ‏{‏ن‏}‏ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ كأنه أشار إلى أن «نصير» بالنون‏.‏ والمختار عندي ما قاله أبو يوسف رحمه الله تعالى، فإِنَّه أسهلُ لنا ونرجُو من الله سبحانه أن نعمل به وندخلَ جنته أيضًا‏.‏

كتاب‏:‏ الجَنَائِز

باب‏:‏ فِي الجنَائِزِ، وَمَنْ كانَ آخِرُ كَلامِه‏:‏ لا إِلهَ إِلا اللَّه

قوله‏:‏ ‏(‏من كان آخِرُ كلامِهِ لا إلهَ إِلا اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ واعلم أن هذه الكلمةَ كلمةٌ إيمانٍ وكلمةُ أَذكارٍ فإِذا قالها الكافرُ ليدخل بها في الايمان فهي كلمة إيمانٍ، وإذا ذَكَر بها المسلم فهي ذِكْرٌ كسائر الأذكار‏.‏ وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «أَفَضْلُ الذِّكْر لا إلهَ إِلا اللَّهُ»‏.‏ والموزونُ في حديثِ البِطَاقة عندي هو كلمةُ الذِّكْر دون الإِيمان‏.‏ فإِنَّ الإِيمانَ لو وُزِن بالكفر فإِنَّه يقابِلُه، فلا يوزنُ بالأعمال‏.‏ ولعلَّ اسمَ اللَّهِ يخرج من كَفَّة الأعمال عند الوزن، فإِن اسمَ اللَّهِ لا يُوزَن معه شيءٌ، وإِنه يَرْجُحُ الدنيا بما فيها‏.‏ وإنما وُزِن لهذا المُسْرِف على نفسه ليرى أَهْلُ المَحْشَرِ وَزْنَه مرةً‏.‏

ولعل هذا الرجل قاله بنهايةِ الإِخلاص فنالَ حَظَّه منه كاملا، فإِنَّ الناس وإِن كانوا سواءَ في أَصْل الإِيمان إِلا أنهم يختلفون في التلبيس بتلك الكلمة على مراتب لا تُحصى‏.‏ فإِنَّ التَّلبُّسَ بتلك الكلمة شيءٌ وراء الإيمان، وهذا التَّلبُّسُ كالتَّلَبُّس بالصلاة، كما عند أبي داود- ص 115 ‏:‏ «أَنَّ الرجلَ لينصرفُ وما كُتِبَ له إِلا عُشْرُ صلاتِه، تُسْعُها، ثُمنُهها، سبعُها، سدسُها، خمسُها، رِبعُها، ثلُثُها، نصفُها»، وأظنُّ أن يكون مِن الناسِ مَنْ لا يكون له حظٌّ منها والعياذ بالله‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن الفَضْلَ لِلمذكور ههنا لهذا الذِّكْر‏.‏ ولذا قال الفقَهاء‏:‏ إنها ليست ضرورية عند الاحتضار، نعم لو ذَكَرِها تَحْصُل له هذه الفضيلةُ الموعدةُ إن شاء اللَّهُ تعالى‏.‏ وفيه قِصة أبي زُرْعَة وأبي حاتم‏.‏ بل قالوا‏:‏ «إنَّ المحتضَرَ لو جَرَت على لسانِهِ كلمةُ كُفْرٍ لا يُحْكَم به، فإِنَّ الوقتَ وقتُ الشدة، لا يشعرُ الإِنسانُ بما يقول، ولا يدري بما يجري على لسانه‏.‏ فلا يُحْكم عليه بشيءٍ في مِثْلِ هذا الأوَانِ‏.‏

ثم العبرةُ في كونها آخِرًا أن يتكلم بها ثُمَّ لا يتكلمُ بعدها بشيء وإن بقي حيًا، فإِنَّه يَعُدُّ أنها من آخِر كلامه‏.‏ نعم إذا قالها ثُم تكلَّم بكلمةٍ أخرى انتهت آخِرِيَّتُه فليُعِدْهَا وليقلها ثانيًا‏.‏ والتلقينُ أيضًا لهذا المعنى، أي ليتنبَّه المحتضرَ ويتكلم بها ويصيرُ آخِرُ كلامه لا إله إلا الله‏.‏ ولا يُشترطُ فيه قولُه‏:‏ محمدٌ رسول الله، فإِنه ليس بِذِكْر وإن كان رُكْنَ الإِيمان، وقد فَصَّلناه في كتاب الإِيمان‏.‏

1239- قوله‏:‏ ‏(‏وإنْ زَنَى وإِنْ سَرَقَ‏)‏ ليس المرادُ منه المؤمنَ العاصي، بل مَنْ كان زَنَى في زمنِ الجاهلية ثُمَّ أَسْلَم، فإِنهُ يغفر له ما قدَّم ويدخل جنَّة ربِّه إن شاء اللَّهُ تعالى‏.‏

باب‏:‏ الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الجَنَائِز

وقد علمت ما حقُّ لَفْظِ الاتباع، وأنه أَقْرَبُ بمادَّتِه إلى نظر الحنفية، وأن الخلاف في المشي أمام الجنازة وخلْفَها في الأفضلية دون الجواز‏.‏

1239- قوله‏:‏ ‏(‏وإِبرارِ المُقْسِم‏)‏ وهو إما أن يحلِف بِفِعْلِ الغير فإِذَن يكونُ بنفسِه حالِفًا ويستحب للآخرِ أن يأتي بما حلَف عليه، لئلا يكونَ حانِثًا، وإما يحلِف غيرُه وحينئذٍ لا يكون واحدٌ منهما حالِفًا‏.‏

1239- قوله‏:‏ ‏(‏وَرَدِّ السَّلام‏)‏ واتفق الكُلُّ على أن الجواب يكفي من واحدٍ من بين الجماعة مع ورود صيغ العموم، وهذا هو شاكِلَةُ الصَّيَغ في الفروض على الكفاية، فإِنَّ الخطاب فيها يكون مع الكل، ويكون المقصودُ الإتيانَ بها من المجموع من حيثُ المجموعُ‏.‏ وهذا هو صنيعُ أحاديثِ إيجاب الفاتحة، فإنها مطلوبةٌ من المجموع على طريقِ الفَرْض على الكفاية، فأخذوها واجبةً على الكل كَفَرْض العين، ونحوه صنيعُ أحاديثِ السُّتْرة، فإِنَّ الخطاب فيها عامٌ، كأن وَضْعَ السترة على كلَ مع أنها إذا كانت للإِمام خرج الكلُّ عن العُهْدة‏.‏

وإنما تردُ تلك الأحاديثُ بهذا العمومِ لأنَّ المأمور به فيها قد يكون مطلوبًا مِن كلِّ واحدٍ أيضًا باعتبار أحوالِ الإِنسان، فإِنَّه إذا صلى مُنفرِدًا وجب له أن يَغْرِز السُّترةَ لنفسه، فإِذا كان مع الجماعةِ فإِمامُهُ قد كفى عن فريضة، وكذلك الفاتحة تجِب عليه عَينًا إذا صلَّى لنفسه، وإذا صَلَّى مع الجماعة صارت مطلوبةً من المجموع، ويتحملُها الإِمام عنه، فصارت قراءتُه له قراءةً‏.‏ وهذه اعتباراتٌ يفهمهما المُنْصِفُ دون المتعسِّف، والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم‏.‏

1239- قوله‏:‏ ‏(‏وتَشْمِيتِ العَاطِس‏)‏ قيل‏:‏ واجب، وقيل‏:‏ مستحب‏.‏

1239- قوله‏:‏ ‏(‏نهانا عن آنية الفضة‏)‏ والنَّهْي عن الأواني عامٌّ للنِّساء أيضًا وإِنْ جازلَهُنَّ الحُلِيّ‏.‏

باب‏:‏ الدُّخُولِ عَلَى الميِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ في أَكْفَانِه

1241، 1242- قوله‏:‏ ‏(‏لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَليك مَوْتَتَيْنِ‏)‏ تعريضٌ بِعُمَر رضي الله عنه، فإِنه كان يُنْكِر موتَه، وقد مرَّ معنا تحقيق مسألة حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بِقَدْر الإِمكان فتذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل‏)‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 144‏)‏، ولا تَمَسُّك فيه للشقي القادياني‏:‏

أمَّا أولا‏:‏ فبأَنَّ الخُلُو» ليس بمعنى الموت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 144‏)‏‏.‏ وأما ثانيًا‏:‏ فبالمعارَضَةِ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما المسيحُ بنُ مريمَ إِلا رَسُولٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 75‏)‏ إلخ‏.‏ فإِنَّ الآيتين نَزَلتا على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وشاكِلَتُهما واحدٌ، فكما أن الاستثناء في الآيةِ الأولى أوجَب حياةَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم كذلك الاستثناءَ في الثانية أيضًا أوجَب حياةَ المسيحِ عليه الصلاة والسلام بدون فَارِق‏.‏

وأما ثالثًا‏:‏ فبقراءةِ ابنِ عباس رضي الله عنه وفيها‏:‏ «مِنْ قَبْلِهِ رسلْ» فلم يَثْبت الاستغراقُ‏.‏

أما رابعًا‏:‏ فبأُنَّ اللام فيه ليس للاستغراق بل للجِنْس، فإِنه على الأوَّل غيرُ مفيدٍ، لكونِه استدلالا من الكليِّ على الجزئيِّ، وإذا تحصلت عِلمًا كليًا فقد استغنيت عن الجزئي، ألا ترى أنك إذا تيقنت بخُلُو جميع الرسل لم تشك في خُلُو رسول دون رسول، بخلاف ما إذا كانت اللام فيه للجنس فإِنَّه يكون مفيدًا جدًا، كالتمثيل والاستقراء‏.‏ وحينئذٍ يكونُ حاصِلُه الاستدلالَ بِخُلُو جنس الرسل على خُلُو هذا الرسل مثلا، وهو مفيد كما ترى، مع أن الزَّمَخْشري قد صرَّح بأن اللام للجنَس أو العهد‏.‏ ثم الاستغراق يُستفاد من القرائن ولا قرينةَ ههنا‏.‏

وأما التفتازاني فذهب في «التلويح» إلى أنَّ مدلولَ اللام هو تعيينُ المدخولِ بين المتكلِّمِ والمخاطَب فقط، والأقسامُ الأربعةُ توجَدُ من القرائن، ثُم الموصولُ والإِضافة أيضًا تنقسِمُ إلى تلك الأقسام، فانظر الشرح «مئة عامل» المنظوم‏.‏

1243- قوله‏:‏ ‏(‏ما يُفْعَلُ بي‏)‏ دَلَّ على أن المخاطَب إذا لم يكن عنده عِلْمٌ مِثْلُ ما عند المتكلم يجبُ عليه التردد، ولا ينبغي له أن يقعُدَ مطمئنًا مستريحًا، فإنَّ العلم الجملي لا يُغني ولا يكفي فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وإن كان يعلمُ ما يُفعلُ به، ولكن لم يكن عنده منه إلا عِلْمٌ جمليٌّ ولم يُحِط علمه بما في عِلْم الله كما أخبر به اللَّهُ سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآء‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 255‏)‏ فإذا لم تَحْضُر عنده تفاصيلُ ذلك لم يسكن جأشُه، ولم يبرح مُضطرِبًا مهمومًا مُتفكِّرًا في الآخِرة دائمَ الأحزان لها‏.‏

وإنما أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من قوله‏:‏ «وما يُدريك أنَّ اللَّه أكرمه» الزَّجْرَ على تجاسُرِه بين يدي صاحبِ النُّبوة، والجزمِ بما لا يعلمُ نهايةَ أَمْرَه دونَ الرَّدِّ على إكرامه، فإِنه رجا له الخيرَ‏.‏ ومِن هذا الباب قولُ عائشة رضي الله عنها‏:‏ «عصفورٌ من عصافيرِ الجّنَّةِ، وقد مرَّ في العلم ما يتعلق به»‏.‏

باب‏:‏ الرَّجُلِ يَنْعى إِلَى أَهْل الميِّتِ بِنَفسِه

أي لا بأسٌ بأخبارِ الميتِ بنفسهِه‏.‏

1245- قوله‏:‏ ‏(‏نَعَى النَّجَاشيَّ‏)‏ واللغويون فَرَّقُوا بين نعاه، ونَعَى إليه، وبه، ولكن مراعاةَ الصِّلاتِ لا يُؤاخَذُ بها في العبارات، أو يقال‏:‏ هناك النَّعْي بالمعنيين‏.‏

باب‏:‏ الإِذْنِ بِالجَنَازَة

وفي «الهداية»‏:‏ أَنْ لا بأس بالإِذْن بالجِنازة، فلا بأسَ بالإِعلام إذا كان المطلوبُ تكثيرَ الجماعة، وأما إذا كانَ فخرًا ورياءً فهو ممنوعٌ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ الشارحين حملوا الإِذن في قول صاحب «الهداية» على الإِذْن للمُكْث والذَّهاب إلى بيته، ولا رَيْب أَنَّ مِثْله أيضًا عُلِم من السَّلف، فإِنَّهم كانوا يُرَخِّصون للناس إذا صَلُّوا‏.‏ وأخرج المصنِّف رحمه الله في هذين البابين عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما، ومال الحافظ إلى تَعَدُّد حَدِيثهما، وأنهما واقِعتانِ‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ مَنْ ماتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَب

باب‏:‏ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلمَرْأَةِ عِنْدَ القَبْرِ‏:‏ اصْبِرِي

1248- قوله‏:‏ ‏(‏لم يَبْلُغُوا الحِنْث‏)‏ وتخصيصُ عَدَمِ الحِنْث لشفاعَتِهِ وإن كان الحُزنُ على الكبير أزيدَ‏.‏ وثبتت الرواياتُ في فضل مَنْ مات لها ولدٌ واحدٌ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ غُسْلِ المَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالمَاءِ وَالسِّدْر

باب‏:‏ ما يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا

وحَنَّطَ ابنُ عَمرَ رضي الله عنه ابْنًا لسعيدٍ بن زيد، وحله وصلَّى ولميتوضأ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فيه رَدٌّ على مَنْ زَعم وجوبَ الغُسْل والوضوءِ مِنْ غِسْل الميت أو حَمْله‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابنُ عباس‏:‏ إنَّ المُسْلِمَ لا يُنْجُسُ وقد مَرَّ أن المُشرِكَ نَجِسٌ عنده‏.‏ واتفق الحنفيةُ على نجاسةِ الميت المُشْرِك‏.‏ ولهم في غُسالة الميتِ المُسْلم قولان‏:‏ قيل‏:‏ نجس، وقيل‏:‏ حُكْمُها حُكْم الماءِ المستعمل، وحملوا رواية النجاسةِ على مَنْ كانت على بدنِه نجاسةٌ، والأقربُ هو الثاني‏.‏

1254- قوله‏:‏ ‏(‏ومَشَطْناهَا‏)‏ ولا يجوزُ الامتشاطُ عندنا لما رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها‏:‏ «على ما تَنْصُون مَوْتَاكُم» مِن قولها، وذِكْرُ الامتشاط ليس بمرفوع، واستبعده الحافِظُ رحمه الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ وللحنفيةِ أن يحمِلوا الامتشاطَ على تسويةِ الأَشعارِ بالأيدي، لحصولِ غَرَض الامتشاط من التسويةِ، وهذا وإن كان حَمْلا على المجاز، لكنه ليس ببعيدٍ كلّ البعد‏.‏

1254- قوله‏:‏ ‏(‏ثَلاثَة قُرون‏)‏ والخلاف في جَعْلها قَرْنين أو ثلاثًا في الأفضلية، وكذا في القميص‏.‏

باب‏:‏ يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ المَيِّت

1255- قوله‏:‏ ‏(‏ومواضِعِ الوضوءِ منها‏)‏ وثبت مه الوضوء أيضًا، إلا أنَّ المشايخ تَرَدُّدْوا في المضمضة والاستنشاق لِتعسُّرهما في الميت، ثم أخرجوا لهما سبيلا أيضًا‏.‏

واعلم أنه لا توقيتَ في غَسْل الميت عند مالك رحمه الله، وإنمَا هو التطهيرُ فقط بما حصل، وما رُوي فيه محمولٌ عنده على الاتفاق‏.‏ وأعجب منه ما نقله ابنُ العربي عن مالك رحمه الله أَن التثليث في وضوء الحي أيضًا ليس بِسُنةٍ كما في الميت، مع إقراره بِثُبوت الاستمرار على التَّثْلِيث، وقال‏:‏ إن المقصودَ هو الاسباغُ فقط، ونحوه اشتراطُ المِصْر لإِقامة الجمعة عندنا‏.‏

باب‏:‏ مَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنَ المَيِّت

باب‏:‏ هَل تُكَفَّنُ المَرْأَةُ في إِزَارِ الرَّجُل

والحديث فيه وإن لم يكن صريحًا في تقديم الوضوء، إلا أَنه يُمْكِنُ الاستئناس به‏.‏

باب‏:‏ يَجْعَلُ الكَافُورَ في آخِرِه

باب‏:‏ نَقْضِ شَعَرِ المَرْأَة

وفيه دليلٌ على أن الماء لا يكون مقيَّدًا مِن خَلْط الكافور، خلافًا للشافعي‏.‏

باب‏:‏ كَيفَ الإِشْعَارُ لِلمَيِّت

والشِّعَار ثوبٌ يلي الجسد، وهو عندنا قميصٌ للرجل والمرأة، ويُعَبِّرُ عنه الفقهاءُ في النساء بالدِّرْع‏.‏ وما كان يظهَرُ لإِطلاق القميص في الرجال والدِّرع في النساء وَجْهٌ وجيه، حتى رأيتُ أن الشيخ ابنَ الهُمام مرَّ في باب النفقة على لَفْظ الدِّرْع‏.‏ وفَسَّرَهُ بما يكون الشِّقُّ فيه على المَنْكِبين، والقميص بما كان شِقُّه على الصَّدْر، حينئذٍ تَبيَّن لي وَجْه اختلاف التسمية في النوعين‏.‏

وعند الشافعية الكَفَنُ عبارةٌ عن ثلاثِ أرديةٍ سابغةٍ مِن القَرْن إلى القدم ولا فَرْق بينهما إِلا بالتسمية‏.‏ فإِذن الشِّعارُ عندهم رداءٌ يلي الجسد، وعندنا هو قميصٌ من العنق إلى القدم كما عرفت‏.‏ ثم لا يُخْفَى عليك أن القميص المعروف في بلادنا لا تكون فيها خِياطةٌ ولا تسمها إبرةٌ، إنما هو رداءٌ مشقوقٌ فقط، نعم يلبس به الميتُ كالقميص‏.‏

وفي كتب الفقه‏:‏ أن قميص الميت كقميص الحي، إلا أنه لا يكون فيه دِخْرِيص، لأن الميتَ لا يحتاجُ إلى المَشي وغيره‏.‏ ولم يصرح واحدٌ منهم أنه لا يخاط أيضًا، وظاهر كلماتهم أنه يُخاط، مع أن التعاملَ بخلافه، فلا أدري أنهم تسامحوا في التعامل فلم يخيطوه، أو تُسُومح في عباراتهم، فإن ظاهِرَها الخياطة‏.‏ ومن ههنا علمت أن إطلاقَ القميصِ عليه لكون يُلْبس كالقميص، وإلا فهو رداءٌ مشقوق، وحينئذٍ لا تَرِد عليك الرواياتُ التي فيها نَفْي القيمص، لأنه يصح لك أن تقول‏:‏ إنه رداء وليس بقميص، نظرًا إلى عدم الخياطة، وعدم الدِّخرِيص، ويصح لك أن تقول‏:‏ إنه قيمص نظرًا إلى الشِّق واللِّبْسَة‏.‏ فهذا تأويلُ هذه الروايات وإن كنتُ لا أرضى به‏.‏ والصواب عندي أن تُحمل على ظواهرِها، فإِنَّ الخلاف في الأفضلية دون الجواز، وللفقيه أن يُرجِّح واحدًا منهما، وسيجيءٌ الكلامُ فيه‏.‏

ثم ههنا بَحْثٌ للشيخ ابن الهُمَام وهو‏:‏ أَن الإِزار إذا كان اسمًا شرعيًا- وقد علم أنه للحيِّ ما يسترُ النِّصْفَ السافل، والرداء ما يسترُ النصف العالي- فمن أين أَخَذَ الفقهاءُ كونَها في الميت رداءين سابغين مِن القَرْن إلى القدم‏؟‏ أقول‏:‏ وحاصِلُه التشديدُ في التسمية فقط، وليس بشيء، فإِنَّ العمل إذا فَشى بالرداءين من غير نكيرٍ فهو المراد، سواء سميتها بالرداء والإزار أو غير ذلك‏.‏ والاتحاد في التسمية فقط لا يوجب أن يكون إزارُ الميت ورداؤه أيضًا كالحيّ، فإِنَّ اختلافَ اللِّبسة بينهما أَمْرٌ معروفٌ، والفاصل هو التعاملُ دون التسمية‏.‏ فالذي لا بد للميت هو‏:‏ الإِزار والرداء المعروفان فيه دون ما هو المعروف في الحيِّ، وغايته الكلام في التسمية، أي ينبغي أن لا يُسمَّى هذان الثوبان إزارًا ورداءً، لا أنه ينبغي أن يكون ثيابُ الميت كثيابِ الحيِّ الواحد في الأعلى، والآخر في الأسفل، فإِنه لم يعهد من ثياب الميت، كذلك ولم يَجْرِ عليه التعاملُ بذلك‏.‏

ولو نظر الشيخ رحمه الله تعالى إلى قوله‏:‏ «وزَعَمَ أَنَّ الإِشُعَارَ الْفُفُنَهَا» لم يبحث هذا البحث، فإِنَّ المرادَ منه اللَّفُّ فقط‏.‏ وكذا ما ذكره ابنُ سيرين رحمه الله تعالى من قوله‏:‏ «أَنْ تُشْعَرَ ولا تُؤزَرَ» أي لا يُجْعَل مِثْلُ الإِزار بل يُلَفُّ به، فهم لا يريدون بالقيمصِ والإِزار أن يؤتى بتلك الثياب المهيأة مِن قَبْلُ ليلبس بها، ولكنهم أرادوا أن تؤتى بثياب يلبس الميت بها كما يلبس القميص والإِزار، ففيه هيأةُ الإِلباس لا عينُ هذا اللِّباس‏.‏ ثم أنه ليس في الحديث إلا قوله‏:‏ «أَشْعِرْنَها» أي اجعلنها شِعَارًا‏.‏ أما إنه ما كيفيتها مِن كونها ساترةً للنِّصْفِ أو سائِرِ البَدَنِ فليس فيه أصلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحَسَنُ الخِرْقَة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ واختلف في موضعها في الفقه‏:‏ وراجع له الكبيرى‏.‏ ويعلم من قوله الحسن إنها مِن الحْقو إلى الركبتين، وهو مذهبُ زفر رحمه الله تعالى، وهو الذي اختاره البخاري‏.‏ وهذا أحد الموضعين الذين وافقه البخاري فيه‏.‏ والثاني في الحيل، وفيه تردُّد‏.‏ وهذا القول هو الأقرب، فإِنَّ المقصود منها سَتْرُ العَجيزَة‏.‏

باب‏:‏ يُجْعَلُ شَعَرُ المَرْأَةِ ثَلاثَةَ قُرُون

باب‏:‏ يُلقَى شَعَرُ المَرْأَةِ خَلفَهَا

واعلم أن الاختلافَ على ثلاثة أنحاء اختلاف جواز- وهو أشدها- واختلاف أفضلية، واختلاف اختياره‏.‏ والاختلاف في هذه المسألة من النوع الثاني، وقد وَرَد الأَمْرُ بالنَّحْوين ثُم رجَّح الفقهاءُ مختاراتِهم من الوجوه الفقهية فلينظر فيه الناظر‏:‏ أنَّ الأحاديثَ إذا وردت بالأمرين فهل للفقهاءِ أن يرجِّحوا واحدًا منهما من اجتهادهم، أو لا بدَّ لهم فيه من حديث مُرجِّح‏؟‏ والذي يظهَر من صَنِيعهم أنهم يجوِّزون الترجيحَ من الاجتهاد أيضًا‏.‏

ويمكن أن يكون الخلافُ فيه من النوع الثالث أيضًا، أي العمل بما راج ببلدته مع قَطْع النَّظر عن تَتَبِّع الأَفضل، فإِن الإنسانَ فُطِر على الحب بما عَمِل به عُلماءُ بلدته، وعليه اختياراتُ المذاهب‏.‏ ألا ترى إلى ملك رحمه الله تعالى فإنه إذا كان بالمدينة- شَرَّفها الله- يُراعي عَمَلَ بلدته أكثرَ مما يراعي بما سواه، ويَزْعُمه فاصلا في الباب‏.‏ وكذلك الشافعي رحمه الله تعالى يَعْمل بما عَمِل به أهلُ الحجاز، ونحوه أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعض على ما عَمِل به الصحابةُ رضي الله عنهم في بلدته‏.‏ ولعل رَفْعَ اليدين وتَرْكه أيضًا من هذا الوادي‏.‏

جَرى كُلُّ بما رأى أهلُ بلدته يفعلُه مِن رَفْعٍ أو تَرْك، وقد حققنا سابقًا‏.‏

ومن ههنا علمت أن اختلافَ الاختيار غيرُ اختلاف الأفضلية‏.‏ وقد تحقق عندي أن التلامذةَ في السلف كانوا يأخذون بعمل شيوخهم، وهكذا عُلِم مِن حالِ بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضًا‏.‏

فائدة

واعلم أن ابن إدريس من أوداء مالك رحمه الله تعالى، وهو مِن أهل الكوفة، وما يقوله مالك من قوله‏:‏ «بلغنا» فإنه يأخذ منه، وكذلك ما ينقله عن عمل عليِّ رضي الله عنه فإِنما يأخذه عن ابن إدريس هذا‏.‏

باب‏:‏ الثِّيَابِ البِيضِ لِلكَفَن

والأَحْسن بِحَسَب الألوان هو البياضُ‏.‏

1264- قوله‏:‏ ‏(‏سَحُولية‏)‏ قريةُ في اليمن‏.‏

19- بابُ الكفَنِ في ثَوْبَينِ

وقَسَمُه الحنفيةُ على ثلاثةِ أنحاء‏:‏ كَفن سُنَّة، وكِفاية، وضرورة، والثَّوبان هو الثاني، والتفصيل في الفِقْه‏.‏

1265- قوله‏:‏ ‏(‏ولا تُخَمِّرُوا رَأْسَه‏)‏‏.‏ واعلم أنهم اختلفوا فيمن مات مُحْرِمًا‏.‏

فقال الشافعيّ رحمه الله تعالى‏:‏ إنه لا يُخمَّر رَأسُه لأنه من محذورات إِحرامِه، فيراعي فيه سبيلُ الأَحْياء، وتمسك بهذا الحديث‏.‏

وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ إذا مات الإِنسانُ انقطع عنه عَمَلُه، فيكون كسائر الأمواتِ فيُخَمَّر رأسُه أيضًا‏.‏ والحديث حَمَلُوه على التخصيص، فإِنه ليس لكل أَحَدٍ أن يُقْطَع فيه بأَنه يُبعث أيضًا يوم القيامة على ما مات عليه من العمل‏.‏ وإنما فاز رجلٌ بهذه البشارة لمكان النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والبشاراتُ لا تكون ضوابطَ لِيَعْمل بها كُلُّ عامل، ثُمَ يَرْجُو بها، ولكنَّها من حقائقِ الغيب تكونُ مودَعةِ لواحدٍ غَيْرِ مُعَيَّن في الظاهر، ومُعَيَّن عند الله العظيم، فإِذا وقعت لواحدٍ لا يبقى فيها حَظُّ للآخرَ‏.‏ أَلا ترى إلى قوله‏:‏ «سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ»‏.‏ فإِن البِشارة بتلك المنزلةِ قد كانت سَبَقَت لواحدٍ ذي نصيبٍ، فبادَر إليها عُكّاشة ففاز بها، فإِذا أَرادها آخَرُ منهم، أجيب أنها كانت لواحدٍ في عِلْم اللَّهِ وقد صارت له‏.‏

وكقوله‏:‏ اقبلوا البُشْرَى بني تميم‏.‏ فقالوا‏:‏ إِذا بَشَّرْتَنا فأَعْطِناه»، فجاءه أَهْلُ اليمن فقال لهم‏:‏ «اقبلوها أنتم إذ لم يَقْبَلْها بَنُو تميم»‏.‏ فَقَبِلُوها فصارَتْ لهم‏.‏

وأظنُّ أن قوله صلى الله عليه وسلّم في حمزةَ رضي الله عنه‏:‏ «لولا صفيةُ لَتَركْتُه تأكُلُه السِّباع حتى يُحْشَرَ يومَ القيامةِ من بطونِها» من هذا الباب، فإِنه لو تَرَكه لكانَ مُختصَّا به ولم يكن مسألةً وشريعةً مستمرَّةً في الشهداء‏.‏

ومن هذا الباب ما في بعض «التذكرة»‏:‏ أن رجلا رأى سيبويه في المنام فسأله عن مغفرَتِه، فقال‏:‏ غُفِر لي، فسأله عن سَبَبِها، فأجابه أَنَّه اختار أَنَّ اسمَ اللَّهِ مُرْتَجِل‏.‏ فلو حاكاه أَحدٌ الآن، وجعل يكتبُ عليه رسالةً ثُم يَدَّعِي المغفرةَ لنفسه لأنه غُفِر لفلانَ بِمثْله، فإِنه أَحْمَق، أَلا يَدْري أنها كانت بِشارةً فاز بها سِيبويه، وليست ضابطةً للمغفرةِ‏.‏ ونحوه ما في «التذكرة» أيضًا‏:‏ أن رجلا رأى باسم الله مكتوبًا مطروحًا فعظَّمه ورَفَه، فَغُفِر له‏.‏ فلو فَعَله أحدٌ لا يجِب له أن يستحق به الجنةَ، فإِنها أَفعالٌ إِلهيةٌ، وأسرارٌ ربَّانيةٌ جرت مع آحَادِ النَّاس، فلا يُحْكَم بها، فإِنها لا تكون بمادتها بتلك المنزلةِ، وإِنما يريدُ اللَّهُ أن يَمُنُّ بها على أحدٍ فيفعلُ ما يشاء، ويحكم ما يريد‏.‏ ومن هذا الباب ما يظهَرُ من رحمته على بعض المسرفين يومَ القيامة‏.‏

إذا علمت هذا فاعلم أن الوُجْدان يشهد بكونِ عدمِ التخمير من خصائصه، فيختصُّ به فقط، لا أَنه يُخَمَّر رأسُ سائر المُحْرِمين أيضًا‏.‏ ومن هذا الباب مَنْ جاءه يسألُ عن شرائع الإسلام، فأخبر ببعضها وبَشَّر عليها بقوله‏:‏ «أَفْلَح وأبيه إِنْ صَدَق»‏.‏ ومرَّ تقريرُه في الإِيمان‏.‏

ثم عند مسلم زيادةُ لفظٍ وهي‏:‏ «لا تُخَمِّرُوا رأسَهُ ولا وَجْهَه»، مع أنَّ أَثَرَ الإِحرام في الرأس فقط دون الوَجْه، على خلاف المرأة‏.‏ واعتذر عنه النووي في شَرْحه‏.‏ وكذا يَرِد عليهم قَوْلُه «اغسِلوه بماءٍ وسِدْرٌ، فإِنه إزالة التَّفَث مع كونه طيبًا أيضًا فاعتذر عنه‏.‏

باب‏:‏ الحَنُوطِ لِلمَيِّت

باب‏:‏ كَيفَ يُكَفَّنُ المُحْرم

وأخرج فيه قوله‏:‏ «ولا تُحَنِّطُواه»‏.‏ قلتُ‏:‏ ولم يُحْسِن المُصَنِّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة، فإنَّ عدمَ التحنيط مُختصُّ بهذا المُحَرِم فقط، لا أنه حُكْم سَائِر الأَموات‏.‏

باب‏:‏ الكَفَنِ في القَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لا يُكَف

وقوله‏:‏ يُكَفُّ مضعّف وفي نسخة ناقص، وهي محرفةٌ عندي، ثُمَّ الأُولى عندي مجهولا‏.‏

وحاصله‏:‏ أن قميصَ الميت لا يجب أن يكون مِثْل الحيّ، بل يجوزُ مكفوفًا أو غيرَ مكفوف، بخلاف قميص الحيّ، فإنه يكونُ مكفوفًا ‏(‏ترباهوا‏)‏‏.‏ وهذا يُشْعِر بأن القميصَ في ذِهْنه يكون مَخِيطًا، وهو ظَاهِرُ فِقْهِ الحنفية، وإنْ كان العملُ بخلافِهِ، كما مرَّ معنا البحث فيه‏.‏

1269- قوله‏:‏ ‏(‏أَعْطِني قَمِيْصَك‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ قلتُ‏:‏ ولا بأسَ بإعطاءِ القميص مُرُوءَةً‏.‏ وقيل‏:‏ أَرَادَ به أن يُكَافىء قميصه الذي كان كَسَاه عباسًا يوم بدر، فإنَّه إذ جاءَ أسيرًا في أُسراءِ بَدْر لم تكن عليه ثيابٌ، وكان طويلَ القامةِ فلم يَصْلُح له غيرُ قميصِ عبدِ اللَّه- فإنه كان طويلا- فكان أعطاه إيَّاه، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يكافئه في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ أَسَلم يومئذٍ أَلْفٌ من المنافقين لأَجْلِ هذا الإحسان‏.‏

ثم في «الفتح»‏:‏ أَنَّ عبدَ الله كان أَوْصَى ابنه- واسمه أيضًا عبد الله- أن يَسْأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن قَميصه ليُكفَّنَ فيه‏.‏ ولا بُعْد في أن يكون حصل له تصديقٌ اضطراري، ثُم استمرَّ به حتى رَسَخِ ببواطنِهِ قبل وفاته، إلا أنَّ الأُمةَ كافةً لَقَّبته برأس المنافقين‏.‏ وقد كان حَسَد النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في أول أَمْرِهِ، لأن أَهْلَ المدينةِ قبل مَقْدَمِه صلى الله عليه وسلّم كانوا أرادوا أن يجعلُوه رئيسَهم، فَلَمَّا قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهاجر إليهم، صار هو الأمير‏.‏ كيف لا وقد كان أميرًا في الأرواح، وفي مسجد بيت المَقْدِس عند مُجْتَمع النَّبيين وسوف يكون أميرًا في المَحْشَر أيضًا، فلم يزل هذا المنافقُ يغتمُّ له، ثُم اللَّهُ يَدْري إلى ما آل إليه أَمْرُه‏.‏

1269- قوله‏:‏ ‏(‏أَنَا بَيْنَ خِيْرَتَيْنِ‏)‏‏.‏ وفي الروايات‏:‏ إني لا أزيدُ على السبعين‏.‏ ومَرَّ عليه الغزالي رحمه الله تعالى في «المُسْتَصْفَى» ولم يبلغ حَقِيْقَتَهُ وقال‏:‏ إنَّ الآية لا يُفْهَمُ منها التخييرُ أصلا، فكيف يمكن أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَهِمه‏؟‏ ثم حكم عليه بالوَضْع‏.‏ قلتُ‏:‏ سبحانَ الله، كيف وهو حديثٌ في صحيحِ البخاري‏؟‏ والحَلُّ أنه من بابِ البلاغة، وهو تلقي المخاطَب بما لا يترقَّب‏.‏ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما لم يُنْه عن الصلاةِ عليه صراحةً مَشَى على مُحْتَمل اللفظ، وليس فيه إلا‏:‏ أنَّ استغفارَكَ غيرُ مفيدٍ له، فلم يبحث عن النَّفْعِ الأخروي، فإنه لما أراد أن يُصلِّي عليه اكتفى بِسَعَة الألفاظ فقط، ولم يكن فيها إلا عَدَمُ نَفْع صلاته‏.‏ فَصَلَّى عليه شفقةً وحِرْصًا حتى نزل صريحُ النَّهْي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم‏}‏‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 84‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وحينئذٍ صار أَبْعَدَ الناس عن الصلاةِ عليهم‏.‏ وأين عمرُ رضي الله عنه من النبيّ صلى الله عليه وسلّم فإنه كان نَبيَّهُم وأَوْلَى بأَنفُسِهِم، فأراد أنْ ينتفعَ بالمحتَمِلات، فإنه آخِرُ الحِيَل، لعلَّ اللَّهَ ينفعُهُ بها‏.‏

ونظيرُهُ قوله صلى الله عليه وسلّم «مَثَلُ أُمتي كَمَثَلِ المَطَرِ، لا يُدْرَى أوَّلُهَا خيرٌ أم آخِرُهَا»‏.‏ لم يُدْرِك مرادَه نحو أبو عمرو، والتزم أَنَّ غيرَ الصحابي مما يمكن أنْ يكونَ مِثْلَ الصحابي، مع أنه باطلٌ قطعًا، ولم يَحْمِله عليه إلا مُحْتَمل اللفظ، والمَشْي على المُحْتَمَل إنما يليقُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم دونَ غيره‏.‏ والطِّيبيّ لما كان حاذِقًا في العربية أدرك حقيقةَ المرادِ، وقال إنه نحوُ قوله‏:‏

تَشَابَهَ يومًا بأسُهُ وَنَوَالُهُ *** فما نحن ندري أيُّ يومَيه أَفْضلُ

أيوم نداه الغُمْر أم يوم بأسه *** وما منهما إلا أَغَرُّ مُحَجّلُ

فهو مِنْ باب تَجَاهُل العارف من صنائع البدائع، لا من باب العقائد والمسائل‏.‏ والحاصل‏:‏ أَنَّ أُمَّتِي خَيْرٌ كُلُّهَا‏.‏

باب‏:‏ الكَفَنِ بِغَيرِ قَمِيص

1271- قوله‏:‏ ‏(‏كُفِّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى قوله‏:‏ «لَيْسَ فيها قَمِيْصٌ ولا عِمَامَةٌ»‏)‏ وهو حُجَّةٌ للشافعية رحمهم الله‏.‏

قلتُ‏:‏ وروى أبو داود- بِسَندٍ فيه يزيدُ بنُ زياد- عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ «كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ثلاثة أثوابٍ نَجْرَانِيَّة‏:‏ ثوبانِ وقميصُهُ الذي مات فيه» اه‏.‏ ‏(‏393‏)‏- باب‏:‏ الكفن- ويزيد بن زياد هذا عالمٌ جليلٌ القَدْر، كما أقَرَّ به الذَّهْبِيّ‏.‏ وقد حَسَّن الترمذيُّ حَدِيْثَه في باب‏:‏ الذي يُصِيْبُ الثَّوْبَ‏.‏ وأخرج عنه مسلمٌ مقرونًا مع الغير، واختلط في آخر عمرهِ‏.‏ وقالوا‏:‏ إنَّ من قدماءِ تلامذتِهِ سفيانَ، وقُتَيْةَ، وهُشَيْم، وكونُ هشيم من القدماء مذكورٌ في التخريج ‏(‏1210‏)‏‏.‏

ولنا أن نقول‏:‏ إنَّه صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه أعطى قميصَه ابنَ أبي‏.‏ وعند النَّسائي‏:‏ أنه أعطَى قميصَه رجلا من الشهداء‏.‏ وحينئذٍ ساغ لنا أَنْ نقولَ‏:‏ إنَّ نَفْي القيص مَحْمولٌ على عَدَمِ كونِهِ مخيطًا، وإنما عَبَّر الفقهاءُ عن هذا الرداء بالقميص لأنه يُقَمَّص‏.‏ وقد عَلِمْت من قبل أن القَمِيْصَ عندنا في الحقيقةِ رداءٌ يُقَمَّصُ به فقط، لا يكونُ فيها الكُمَّان ولا الدَّخَارِيص ولا الخياطة، فلم تَبْقَ حقيقتُهُ إلا رداءً يُلْبَس كما يُلْبَسُ القَمِيْصُ‏.‏

هكذا يُعلم من الموطأ- لمحمد رحمه الله تعالى ، وأصله في الموطأ لمالك أيضًا إلا أن في إسناده سهو، ففيه عبد الرحمن بنُ عمرو بن العاص، مع أنه عبدُ الله بن عمرو بن العاص‏:‏ «أن الميتَ يُقَمَّصُ، ويُؤزُ، ويُلَّفُّ بالثوبِ الثالثِ» يعني به أن الميتَ وإن لم تكن في كَفَنِهِ هذه الثياب، لأن الكَفَن عبارةٌ عن ثلاثة أَرْدِية، ولكنه يُلْبَسُ الثوبَ الأول كالقميص، والثاني مكانَ الإزار، وكذلك الثالثُ يُلَفُّ به‏.‏ فهذا الذي عناه عبدُ الله بن عمرو- على أن نَفْي القميص يدل على شيوعِهِ في زمن الراوي كما مر معنا التنبيه في حديث ابن عمر رضي الله عنه في رَفْع اليدين ، فإنَّ النَّفْي قد يترشَّح منه الإيجابُ أيضًا، كما قيل‏:‏ إنَّ في مض لمطمعا‏.‏ فلو أَوَّل به حنفيٌّ وادَّعَى ثبوت القميص في كفنه صلى الله عليه وسلّم مع حَمْل النَّفِي على ما ذكرنا لساغ له ذلك، ولكن لَسْتُ أَرْضَى بهذا التأويل‏.‏ والأَصْوبُ عندي أنْ يُلتزم ويُقَرّ بما قاله الخُصوم، لأن الخِلاف معهم ليس في الجواز وعدمه‏.‏

ثم إنَّ المالكيةَ اعتذروا عنه بوجهٍ آخَرَ وقالوا‏:‏ إنَّ القَمِيْصَ وإن ككان في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّم ولكنَّه لم يكن معدودًا في ثيابه الثلاث، بل كان زائدًا عليها‏.‏ وإنَّما اضطُّروا إلى هذا التأويل لأن الكَفَنَ عندهم خَمْسَةُ أبواب‏.‏

فائدة‏:‏

بقي الكلام في العمامة‏:‏ ففي كُتُب الحنفية أنها تجوزُ للأَشراف، والأشراف عندهم يُطلق على السِّيد، لا كما في عُرْفنا اليوم‏.‏ فإنَّ الأشرافَ في عُرْفنا يقابل الأَراذل والسقاط من الناس‏.‏ والذي يظهَرُ لي أن تَرْكَهَا أَوْلى، فإنها إذا لم تكن في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّم ففي غيره أَوْلَى‏.‏ ومع هذا لو عَمَّمُوا أحدًا مِنْ ذوي الفَضْل لا تكون بِدعة، لأن ابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه قد عَمَّم ابنه‏.‏ وفي «الكنز»‏:‏ أنه كُفِّن في سبعة أثواب‏.‏ والعَجَبُ من السُّيوطي رحمه الله تعالى حيث رمز عليه بالصحة، ولم يَرَ أنها تخالِفُ صحيح البخاري، ومحملها أن الراوي تسامح فيها، فَعَدَّ مجموعَ الثياب التي أُتِي بها لِكَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّم وإنْ كان كُفِّن في بعضها‏.‏ ففي الروايات‏:‏ أنهم أتوا بِحُلَّة ليُكَفَّنَ فيها، فلم يناسِبْها الصحابة‏.‏

وكذا في الرواية‏:‏ أَنَّ مولاه شقران قد كان ألقى قطيفته تحته صلى الله عليه وسلّم على غفلة من الصحابة رضي الله عنه، فلما استشعروا بها أمروا بها فأُخْرِجت، وقيل‏:‏ بَقيت تحته صلى الله عليه وسلّم ‏:‏

وأُلقِيتْ في قبره قَطِيْفةٌ *** وقيل أُخْرِجت وهذا أَثْبَتُ

وكذلك يمكن أَنْ يكونوا أَتَوا بقميصٍ فلم يناسبوه أيضًا‏.‏ ومن ههنا اختلف في التعبير، فمن نظر إلى الأثواب التي جيء بها للكفن عَدَّها سبعًا، كما في «الكنز»‏.‏ ومَنْ نظر إلى الأثوابِ التي كُفِّن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيها عَدَّها ثلاثًا، كما في البخاري، وتلك أنظارٌ تَصِحُّ كلُّهَا‏.‏

فائدة‏:‏

واعلم أنَّ الرافضي عند علماء الجرح والتعديل، مَنْ سَبَّ الصحابةَ رضي الله عنهم، ومَنْ كان حُبُّه مع أهل البيت أَزْيَدَ كان يُسمُّوْنَه شِيعيًّا، ولم يكن العرف عندهم كما شاع الآن، فإنَّ الشيعيّ والرافضي عندنا واحد‏.‏ فإذا ظهر عندهم من حال أحد أن وجهته إلى أهل البيت رموه بالشَّيعية وغيرها، وليس بشيءٍ فإِنَّا إذا فتشنا عن حاله لا نجده إلا نَاصِحَا لله ولرسوله، فليتنبه‏.‏ ولا ينبغي أن يتأثر من جرحهم إذا ثبت عنده حال رجل بخصوصه من عِلْمه ودِينه، كأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، فإنه قد بلغ عندنا عِلْمُه وحالُهُ على ضوء الشمس في رابعةِ النهار، واختبرناه بكل ما يمكن، فما وجدناه إلا تِبْرًا أحمر، فلا نتأثر فيه بما قيل‏.‏ وقال‏:‏ نعم مَنْ لم يبلغ عندنا حالُهُ وَفَضْله إلا جمليًا، فلا سبيل لنا إليه إلا بالاعتماد على ما قالوا‏:‏ ولا يحسبن جاهلٌ أو متجاهل أبي أُهْدِر علمَ الجرح والتعديل، أو استخفُّ به، فإنه هو المحك‏.‏ ولكن أُنبِّه الممارِسَ المزوالَ للفن، فإنه يَمُرُّ مِثْلُ ذلك كثيرًا، فيرى من رجالِ البخاري مِنْ لم يخلصوا من الجرح‏.‏ ثُمَّ يقلق في مكانه، وتضطرب نَفْسُهُ‏.‏ أليس قد أقرَّ الحافظ رحمه الله تعالى أن التعصُّب بالمذاهب أيضًا دخل في هذا الباب‏؟‏ ثُمَّ الناس أيضًا على أنحاء‏:‏ بين شديدٍ ولين، فلا سبيلَ إلى الفصل إلا التجربة والممارسة والتفطن لما قالوا، والتنبه على ما فعلوا، وذكل كله للمشتَغِل العاني دون المستريح المجاني، فإنه ليس له إلا الاتباع، ولا عبرة برأيه ف‏.‏ي هذا الباب، بل لا حَقَّ له أصلا فاحفظه‏.‏

باب‏:‏ الكَفَنِ وَلا عِمَامَة

باب‏:‏ الكَفَنِ مِنْ جَمِيعِ المَال

خالف فيه مالكًا رحمه الله ونَفَى العِمَامة‏.‏

باب‏:‏ إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلا ثَوْبٌ وَاحِد

باب‏:‏ إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا، إِلا ما يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيهِ، غُطِّي بِهِ رَأْسُه

باب‏:‏ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ في زَمَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيه

وهو كَفَنُ ضرورة، وهو بما قدر، فإن لم يوجد إلا رِدَاء، إن غطى به الرأس انكشفت الأقدام، وإن غُطّيت الأقدام انكشفت الرأس، ينبغي أن يُعطى الرأسُ ويجعل على قدميه الإِذْخِر، كما في الباب الآتي‏.‏

باب‏:‏ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِز

1278- قوله‏:‏ ‏(‏نُهِيْنَا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم علينا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ كيف أشارت إلى المراتب في النهي، فدلت على أنه ليس بنهي عَزْم وإن كان مطلوبًا، وتلك المراتب لا يُدْرِكُهَا العلماء، ومنهم مَنْ لا يكاد يفهمه، فسبحانَ اللَّهِ ما أعلم وأَزكى نساء زمانه صلى الله عليه وسلّم حيث سبقوا على أُولي العِلْم ببركة صُحبة نبيِّنّا صلى الله عليه وسلّم

تنبيه‏:‏ قد سبق معنا فيما مرَّ أنَّ لَفْظَ الاتباع بمادتِه أَقْرَبُ إلى الحنفية، وأَعْدَلُ الأقوال عندي أن لا يُؤخذ بالألفاظ بتلك الشدة‏.‏ فإنَّ رعايةَ الحقيقة والأَخْذَ بها بهذه المثابةِ، إنما يليقُ بِشَأَنِ القرآن العزيز، فلا ينبغي الجمودُ عليه في باب الأحاديث، ولا تُبنى عليه المسائل فإن الاتباع في العُرف يُستعمل في الأمور الحِسيَّة والمعنوية كليهما‏.‏ ويطلق على المشي مع أحدٍ مطلقًا، تقدم أو تأخر‏.‏ وحينئذٍ لا يكون لفظُ الاتِّباع دليلا لنا وإن صَلَح لغةً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا فَزُورُوهَا‏)‏‏)‏ وفيها روايتانِ عن إمَامِنا نقلهما الشَّامي‏:‏ الأُولى إجازتُهَا للرِّجَال فقط، والأخرى الإجازةُ مطلقًا‏.‏ والمختار عندي الجَمْع بينهما على أنهما ليستا روايتين عن الإمام رحمه الله، بل هما وجهتين لروايةٍ واحدةٍ في الحقيقة، فظنَّ أنهما روايتان مستقلتان‏.‏ ولذا تصدَّى الشامي إلى الترجيح‏.‏ والأمر عندي أن تقسم على التارات والحالات، فإن كانت صابرةً لا يُخْشى منها الجزع وهَتْك الحدود جاز لها أن تَخْرُج، وإلا لا‏.‏ بقي السَّفَر إلى المزارات والمقابر كيف هو‏؟‏ أقول‏:‏ يجوزُ للمقابر المُلْحَقة بالإجماع‏.‏ وتُستحب زيارةُ النبي صلى الله عليه وسلّم بالتواتر‏.‏ وأمَّا ما سواها من المقابر فلا نَقْل لَهَا عندي من الأئمة، نعم نُقولُ من المشايخ، فلذا أَكُفُّ عن اللِّسَانَ‏.‏

باب‏:‏ حَدِّ المَرْأَةِ عَلَى غَيرِ زَوْجِهَا

باب‏:‏ زِيارَةِ القُبُور

واعلم أن الإحداد بالموتِ متفقٌ عليه عند جميع الأئمة، أما في الطَّلاق فهو عند الحنفيةِ فقط، وهو مختار النَّخَعِي أيضًا‏.‏ وهذا النَّخَعي من أساتذةِ إمَامِنَا رحمهما الله‏.‏ ثُمَّ إنَّه يحِب لَحقِّ الزَّوْج، ويجوز لغيره أيضًا ثلاثة أيامٍ عند محمد رحمه الله وعليه الاعتماد عندي، وإن كان في الكُتُب عدمُ الجواز‏.‏

واعلم أن هناك فائدة ينبغي أن تحفظَها ولا تَنْسَها، وهي أن الفقيه الغَيْرَ المُحَدِّث إذا رأى في الفِقْه سكوتًا عن أَمرٍ ربما يَحْمِله على النَّفي فيصرِّح به، فيجيء المتأخِّرُ ويظن أنه منقولٌ عن أئمتنا فيتضرر به، فإنه يد يخالِفُ صريحَ القرآن‏.‏ فيجب على الفقيه أن يشتغل بالحديث والقرآنِ أيضًا لتبقى مراعاتُهُما بمرأى عينيه‏.‏ ومَنْ لا يشتغلُ بالحديث فإنه لا يحصلُ له علم بكثيرٍ من المسائل التي تتعرض لها الأحاديث ولم يتعرض لها فقهاؤنا، وذلك لعدم كونها من موضوع فَنِّهِم‏.‏ وقد مرَّ معنا التنبيه في الأوائل أن التقليدَ لا يحكم إلا بعد النظر إلى الأحاديث‏.‏ وكذا الأحاديث لا يستقِرُّ مرادُهَا عندنا إلا بعد النَّطر إلى أقوال السَّلَفِ، فمن أراد أن يحصلَ له عِلْمُ السَّلَف فليَجْمَع بين الأَمْرَين‏.‏

1270- قوله‏:‏ ‏(‏جَاء نَعْيُ أبي سُفْيَانَ‏)‏ وهو والدُ أُمِّ حبيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حينَ تُوفِي أَخُوها‏)‏ قال الحافظ رحمه الله‏:‏ إنَّ الذي مات بالحبشةِ مات على النصرانية فلا معنى للإِحداد عليه، والآخَرُ بقي بعدها حَيًّا، فعلى مَنْ كانت تحد‏.‏ ثُم أجاب مِنْ عنده‏:‏ أن الذي أرادَتْ عليه الإِحْدادِ هو الذي مات على النَّصْرَانية، ولا بأس به فإنَّه أَمْرٌ فِطْريّ‏.‏ أقول‏:‏ ولا تَعَرُّضَ إليه لعدم بناءِ مسألة عليها، نعم مَنْ أَراد أن يضعَ شَرْحًا على البخاري فعليه أن يدخلَ في تلك المباحث‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكاءِ أَهْلِهِ عَلَيهِ»إِذَا كانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِه

واعلم أنَّ في مسألة البابِ خلافًا بين عائشةَ وابنِ عمر رضي الله عنهما‏.‏ فقالت عائشةُ رضي الله عنها إنالكيت لا يعذب ببكاء الأهل، فإنه من فعلهم فلا تزره نفس الميت وابن عمر رضي الله عنه يثبته‏.‏ وجات عائشة رضي الله عنها‏.‏ عَمَّا رواه ابنُ عمرَ رضي الله عنه، بأنه سها فيه، فإنَّها كانت واقعة جزئيةً لا مرأة يهوديةٍ وكانت تُعذَّب، فجعلها ابنُ عمرَ رضي الله عنه ضابطةً كليةً للمسلمين وغيرهم‏.‏2

قال العلماء‏:‏ إن تخطئتَها ليس بذاك، فإنَّه رواه غيرُهُ أيضًا لا يمكن الوَهْم كم كُلِّهم‏.‏ وقد ذكر العلماءُ للحديث سبعةَ وجوه سَرَدَها الحافظ رحمه الله واختار منها البخاريُّ رحمه الله‏:‏ أن العذابَ فيما كان النَّوْحُ من سُنَّتِه، وأَمَّا إذا لم يكن مِنْ سُنَّته فإنَّه لا يُعذَّبُ‏.‏

وحاصِلُهُ‏:‏ أنه قسم على الحالات، فجعل بَعْضَه حرامًا، وبعضَه جائزًا، والذي هو حرامٌ هو أن يَرْضَى به الميتُ فيكون رضاؤه بالبكاءِ سببًا لعذَابِهِ‏.‏ ولفظ «البَعْض» في الحديث أيضًا يَدُلُّ على أن بَعْضَه جائزٌ كما سيجيء، واستدل عليه بآيةٍ وحديث‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بإصلاح نَفْسه ورعيته، فيُؤاخَذُ بتركِ إصلاح نَفْسِهِ ورعيتِهِ معًا‏.‏ وأما إذا نهاهم عن البكاءِ ثُمَّ فعلوه بعد موته فله ضابطةٌ أُخْرَى، وهي كما ذكرت عائشةُ رضي الله عنها‏.‏ وهذا الذي عُني بالتقسيم على الأحوالِ‏.‏ وتفصيلُهُ أَنَّ الشَّرْعَ كما يُؤاخِذ المباشِرَ كذلك قد يؤاخذ المُسَبِّب أيضًا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 164‏)‏ لا يُخَالِف أَخْذَ المسبِّب فإنَّ التسبيبَ أيضًا مِنْ فِعْلِهِ كالمباشَرَة، فلم يكن مِنْ وِزْرِ الآخَر بل وِزْر نَفْسِهِ والمرءُ يُؤاخَذُ به لا محالة إلا أنَّ المُؤاخَذَةَ في المباشِر مطلقٌ، وفي مؤاخذة المسبِّب تفصيلٌ، وهو الذي رُوعي في قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ففيه المؤاخذةُ مِنْ المُسبِّب‏.‏

فإذا عَلِمت أَنَّ الشَرْع وَرَد بِأَخْذِ المباشِر والمُسَبِّب كِلَيْهِمَا فالطَّرْد على واحدٍ منها وتَرْك الآخَر حَمَقٌ قَطْعَا‏.‏ ولكن يجري في مِثْله التَّقْسِيْم على الحالات‏.‏ ولذا قلت فيما مَرَّ‏:‏ إِنَّ الشَّرْعَ نَصَب القواعِدَ، وقد يَصْدُق على جزىءَ واحدٍ قواعدُ شَتَّى وحينئذٍ يتعسَّر إدخالُهُ في واحدٍ منها وَتَرْك التجاذب، فيحتاجُ إلى النَّظر في أَنَّ هذا الجزئي بأيِّ القواعِد أَقْرَب فيلحق بها، ويقسم بينها‏.‏ وهذا التقسيمُ الصحيحُ هو وظيفةُ المُجْتَهِد، وهو على نحو ما قال الدَّوَّاني‏:‏ إنَّ أُلوفًا من الكلياتِ تَصْدُق في مَحَلَ فيصيرُ مجموعُهَا جزئيًا‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن التعذيب عبارةٌ عن تعبيرِهِ بما أَثْنُوا عليه بعدَهُ، كقول الملائكة لأبي موسى الأشعري عند الترمذي‏:‏ «أهكذا كنت‏؟‏» حين غُشِي عليه وناحَت عليه زَوْجَتُهُ‏.‏ وأَرْجَحُ الأجوبةِ عندي ما ذكره ابنُ حَزْم رحمه الله‏:‏ إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يَذْكُرونَ في النياحةِ أفعالَ الميت التي تكونُ مِنْ أَعْظَمِ الكبائرِ وموجِبات النار، نحو قولهم‏:‏ إنَّك قاتَلْتَ فُلانًا فلم تَتْرُك منهم أحدًا، وأَغَرْتَ على فلانٍ إلى غير ذلك من الشنائع‏.‏ وكانوا يذكرونها افتخارًا وَمَدْحَا للمَيِّت على ظَنِّهم الفاسدِ‏.‏ وكانت تلك الأشياءُ كُلُّها من أفعالِ الميت، فكان العذابُ من أَجْل أفعالِهَا لا من أجل البكاء‏.‏ ويوضِّحُهُ ما عند المُصَنِّف رحمه الله في الصفحة الأخرى‏:‏ إنَّ الميتَ يُعذَّب في قَبْره بما نِيح عليه، وما نِيح هو معاصِيه بِعَيْنَها التي اقترفها وليست مِنْ فِعْل غيره‏.‏ وهذا أَعْجَب الشُّروح إليَّ‏.‏

1284- قوله‏:‏ ‏(‏فَلْتَصْبِر‏)‏ وفي بعضِ الروايات‏:‏ «فلتصبري» وفيه دليلٌ على أنَّ «اللام» قد تَدْخُل على الأَمْر الحاضِر أيضًا، كما قاله الكُوفيون خلافًا للبَصْريِّين‏.‏

1284- قوله‏:‏ ‏(‏تُقْسِمُ عَلَيْهِ‏)‏ وهو من باب إبرار المُقْسِم فلو كان من لفظها‏:‏ أَنَّها تُقْسِم عليك أَنَّك لتأتِيَنَّهَا، لا يكونُ واحِدٌ منهما حالِفَا‏.‏ وإنْ كان‏:‏ أني أحلِفُ أَنَّك لتأتيني، ويصيرُ المتكلِّم به حالِفَا، ويُستحب إبراره للآخَر‏.‏ وترجمته في الهندية تقسم عليه آي ‏(‏واسطه ديتي هين‏)‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ ثُمَّ بقي هذا الولد حيًّا إلى زمنٍ مع التصريح بدخولِهِ في النَّزْع‏.‏

قلتُ‏:‏ وينبغي أن يُعدَّ هذا من مُعجزاتِهِ صلى الله عليه وسلّم والعَجَب من السُّيوطي رحمه الله تعالى أنه تَمسَّك فيه بروايةٍ تكاد تكونُ موضوعةً، ولو أتى بهذه لكان أحسن، نعم ينبغي للطبيبِ أن يَبْحَث في أنه هل يمكنُ عَوْدُ الروحِ بعد الدخول في النَّزْع أم لا‏؟‏ فإن أُمكن فلا يخلو إما أن يَطَّرد ذلك أو لا‏.‏ وعلى الثاني تكونُ معجزةً، وعلى الأول لا تكون معجزةً لدخوله تحتَ الضابطةِ الطبية‏.‏ وأما إذا كان لا يمكنُ العَوْدُ أصلا فهو معجزةٌ مُطْلقًا‏.‏ والذي يظهر من كُتب الطبِّ أن الطَّبْع إذا صار مغلوبًا في البحران يرجِعُ إلى القلبِ كليلا، فإذا رجع إليه قَوِي لكونِ القَلْب مَعْدَن الحياة فيكتسب منه قوةً وجعل يدافِعُ المرضَ حتى يدفَعَه‏.‏ فهذا يدلُّ على أن العوْدَ بعد النَّزْع ممكنٌ وإن لم يكن مُطَّرِدًا فيكونُ معجزةً في هذه المادة‏.‏ وقد قال لي بعضُ أقاربي‏:‏ أني دخلت في النَّزْع مرةً، فرأيتُ أن شيئًا ينزع من قدمي، فإذا بلَغ إلى السُّرّةِ تَفَلَّت وبلغ إلى مَوْضِعه كالبرق، ولم أزل أُحُسُّ كذلك حتى بَقِيْتُ حيًّا‏.‏

1285- قوله‏:‏ ‏(‏لَمْ يُقَارِف‏)‏ والمقارفة الإتيان بما لا ينبغي ‏(‏ناشايان كام‏)‏‏.‏ قال الشارحون رحِمهم الله تعالى‏:‏ إنَّ عثمانَ رضي الله عنه كان قد جامع بَعْضَ جوارِيه في تلك الليلة وله العُذْر أيضًا، فإنَّ مَرَضَها لما طال وتمادَى ولم يكن يخطر بِبَالِهِ أنها تُتوفَّى في هذه الليلة اشتغل بِمِثْلِهِ، ولكنَّه لما كان مُشْعِرًا بِغَفْلَتِهِ في عدم إقامته بحقِّ التمريض أظهر عنه المَلالَ‏.‏ ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في تفسيره عن الطحاوي‏:‏ لم يُقاول الليلةَ ثُمَّ رَدَّ عليه‏.‏

قلتُ‏:‏ ليس مَا ذَكَره الطحاوي روايتَه ولا بَدلا عن اللفظ، بل أراد الطحاويُّ رحمه الله تعالى بيانِ المراد‏.‏ وحاصله‏:‏ أن تلك الواقعةَ لما لم تَثْبُت بالروايةِ فلا حاجةَ إلى التزامها‏.‏ ويمكن أن يكونَ اشتغل بالتحديث والمقاولةِ مع كونه لا ينبغي له في مِثْل هذا الأوان، فَكَرِهَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم نعم لو ثَبت في رواية أنه كان جَامع لكان لالتزامِه وَجْه‏.‏ أمَّا إذا لم يَثْبُت فلا حاجةَ لنا إلى تقديرِهَا مِنْ أجل لَفْظ المَقَارَفة هكذا يعلم بالمراجعة إلى مُشْكِلة‏.‏

مسألة

يجوزُ للأجانب إنزالُ الميتِ في القبر عند الحاجة، وإن كان الأَوْلَى هو الزَّوْج والأَقارب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد كان عُمرُ رضيا للَّهُ عنه يقولُ بَعْضَ ذلك‏)‏ وكأنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه لم يُسَلِّم عذابَ الميتِ بِبُكَاءِ الحيِّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صَدَرْتُ مَعَ عمرَ رضي اللَّهُ عنه‏)‏ وهذا آخِرُ حجة، ثم استُشْهِد بَعْدَهُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنَّ اللَّهَ لَيزيدُ الكافِرَ عذابًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهذا مضمونٌ آخَرُ غير ما مرَّ‏.‏ وفيه‏:‏ أنَّ العذابَ عليه من معاصيه، ولكنَّ اللَّهَ يزيدُهُ عذابًا من نياحَتِهم وقد آخَذَهُ القرآنُ أيضًا في واضعَ‏.‏ ونَبَّه ابنُ المنير على أنَّ مِنْ سُنَّة اللَّهِ تعالى أن العبدَ إذا ازداد في الكفر يزادُ عليه بعضُ الكفر نكالا‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 10‏)‏ فاقترفوا الكُفْرَ هؤلاء من عِنْد أَنْفُسِهم فعُوقِبُوا بِكُفْرٍ آخَرَ من عنده تعالى‏.‏