فصل: مقدمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: قوت المغتذي على جامع الترمذي




.مقدمة:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّر وأعن وتمم يا كريم.
الحمد لله على فضله العميم، والصلاة والسلام على نبيِّه الكريم، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل الجسيم.
هذا الكتاب الرابع مما وعَدتُّ بوضعه على الكتب الستة، وهو تعليقٌ على جامع أبي عيسى الترمذي، على نمط ما علَّقته على صحيح البخاري المسمى بالتوشيح، وعلى صحيح مسلم المسمى بالديباج، وعلى سنن أبي داود المسمى بمرقاة الصعُود، وسميته قوت المغتذي على جامع الترمذي جعله الله تعالى خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا للفوز بجنات النعيم.
قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر في كتاب شروط الأئمة: لم ينقل عن واحد من الأئمة الخمسة أنه قال: شرطت في كتابي هذا. أن أُخرج على كذا، لكن لما سبرت كتبهم عُلم بذلك شرط كل واحد منهم:
فشرط البخاري ومسلم أن يُخَرِّجا الحديث المجمعَ على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، وأما أبو داود والنسائي فإن كتابيهما ينقسمان على ثلاثة أقسام:
الأول: الصحيح المخرَّج في الصحيحين.
والقسم الثاني: صحيح على شرطيهما، وقد حكى أبو عبد الله بن منده: أن شرطَهما إخراجُ أحاديث أقوام لم يجتمع على تركها، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطعٍ ولا إرسالٍ؛ فيكون هذا القسم من الصحيح؛ إلاَّ أنه طريق لا يكون طريق ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ بل طريقه طريق ما ترك البخاري ومسلم من الصحيح؛ لما بيَّنا أنهما تركا كثيرًا من الصحيح الذي حفظاه.
والقسم الثالث: أحاديث أخرجاها من غير قطع عنها بصحتها، وقد أبانا علتها بما يفهمه أهل المعرفة، وإنما أودعا هذا القسم في كتابيهما لرواية قوم لها، واحتجاجهم بها، فأورداها وبيَّنا سقَمها لتزول الشبهة، وذلك إذا لم يجدا له طريقًا غيره؛ لأنه أقوى عندهما من رأي الرجال.
وأمَّا أبو عيسى الترمذي فكتابه على أربعة أقسام:
قسمٌ صحيح مقطوعٌ به، وهو ما وافق البخاري ومسلمًا.
وقسم على شرط أبي داود والنسائي كما بيَّنا في القسم الثاني لهما.
وقسمٌ آخر كالقسم الثالث لهما أخرجه وأبان عن عِلَّته.
وقسمٌ رابعٌ أبان هو عنه وقال: ما أخرجت في كتابي إلاَّ حديثًا قد عمِل به بعض الفقهاء.
فعلى هذا الأصل كل حديثٍ احتجَّ به محتج، أو عمل بموجبه عامل أخرجه، سواءٌ صحَّ طريقه أم لم يصح.
وقد أزاح عن نفسه: فإنه تكلم على كل حديث بما هو فيه، وكان من ْطريقه أن يُتَرجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه، وأُخرج حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا يكون الطريق إليه كالطريق إلى الأولى إلاَّ أن الحكم صحيح، ثم يتبعه بأن يقول في الباب عن فلان وفلان، ويعد جماعة، منهم الصحابي الذي أخرج ذلك الحكم من حديثه، وقلَّ ما يسلك هذه الطريق إلاَّ في أبوابٍ معدودة.
وقال الحازمي في شروط الأئمة: مذهب من يُخرِّج الصحيح أن يعتَبر حال الراوي العدلِ في مشايخه، وفي من روى عنهم، وهم ثقات أيضًا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابتٌ يَلزم إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلاَّ في الشواهد والمتابعات. قال: وهذا بابٌ فيه غموض، وطريق إيضاحه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم. فلنوضح ذلك بمثال: وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلاً على خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزيةٌ على التي تليها.
فالأولى: في غاية الصحة، نحو: مالكٍ، وابنِ عيينة، وعُبيدِ الله بن عمر، ويُونسَ، وعُقَيلٍ ونحوِهم، وهي مقصد البخاري.
والثانية: شاركت الأولى في التثبت، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للزهري حتى كان فيهم من يلازمه في السفر، ويلازمه في الحضر. والثانية: لم تلازم الزهري إلاَّ مدَّة يسيرة، فلم تمارس حديثه، فكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى- وهذا شرط مسلم- نحو: الأوزاعي، والليث بنِ سعد، والنعمانِ ابنِ راشد، وعبد الرحمن بنِ خالد بن مسافر، وابن أبي ذئب.
والثالثة: جماعة لَزِموا الزهري كالطبقة الأولى، غير أنهم لم يَسْلَموا من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهم شرط أبي داود والنسائي، نحو: سفيان بن حسين، وجعفر بن بُرقان، وإسحاق بن يحيى الكلبي.
والرابعة: قومٌ شاركوا أهل الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري، لأنهم لم يصاحبوا الزهري كثيرًا، وهم شرط الترمذي، قال: وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفًا، أو من حديث الطبقة الرابعة فإنه يُبيِّن ضعفه ويُنبه عليه، فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات، ويكون اعتماده على ما صحَّ عند الجماعة، ومن هذه الطبقة: زمعة بن صالح، ومعاوية بن يحيى الصدفي، والمثنى بن الصباح.
والخامسة: قومٌ من الضعفاء والمجهولين، لا يجوز لمن يُخَرِّج الحديث على الأبواب أن يخرِّج لهم إلاَّ على سبيل الاعتبار والاستشهاد، عند أبي داود فمن دونه. فأما عند الشيخين فلا، كـ: بحرِ بن كُنيز السقا، والحكمِ بن عبد الله الأيلي، وعبد القدُّوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب.
وقد يُخرِّج البخاري أحيانًا عن أعيان الطبقة الثانية، ومسلم عن أعلام الطبقة الثالثة، وأبو داود عن مشاهير الرابعة؛ وذلك لأسباب تقتضيه.
وقال الذهبي في الميزان: انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديثَ المصلوبِ والكلبي وأمثالهما.
وقال أبو جعفر بن الزبير: أولى ما أُرشد إليه: ما اتفق المسلمون على اعتماده، وذلك الكتب الخمسة، والموطَّأ الذي تقدمها وضعًا ولم يتأخر عنها رتبة، وقد اختلفت مقاصدهم فيها، وللصحيحين فيها شفوف، وللبخاري- لمن أراد التفقُّه- مقاصدُ جليلة، ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك وأجلها.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في أول شرح الترمذي: اعلموا- أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب. وعليهما بنى الجميع، كالقشيري (أي: الإمام مسلم) والترمذي، فما دونهما ما طفقوا يُصنِّفونه، وليس (في قدر) كتاب أبي عيسى مثله حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع.
وفيه أربعة عشر علمًا فوائد؛ صنف- وذلك أقرب إلى العمل- وأسند وصحح وأسقم، وعَدَّد الطرق، وجرح وعدَّل، وأسمى وكنَّى، ووصل وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبيَّن اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله. وكل علم من هذه العلوم أصلٌ في بابه، وفردٌ في نصابه. فالقارئ له لا يزال في رياض مُؤْنِقَة، وعلوم متفقة متسقة. انتهى.
وقال بعضهم:
كتاب الترمذي رياضُ علمٍ ** حكت أزهارُه زهرَ النجومِ

به الآثار واضحة أُبينتْ ** بألقابٍ أُقيمتْ كالرسومِ

فَأعلاها الصحاحُ وقد أنارتْ ** نجومًا للخصوص وللعمومِ

ومن حسنٍ يليها ومن غريبٍ ** وقد بانَ الصحيحُ من السقيمِ

فعلله أبو عيسى مبينًا ** مَعالمَه لطلاب العلومِ

وطرَّزه بآثار صحاحٍ ** تخيَّرها أوُلو النظر السليمِ

من العلماء والفقهاء قِدْمًا ** وأهلِ الفضل والنهج القويمِ

فجاء كتابُه عِلْمًا نفيسًا ** يُنافسُ فيه أربابُ الحلومِ

ويقتبسون منه نفيسَ عِلْمٍ ** يُفيدُ نفوسَهُم أسنى رسومِ

كتبناه روْينَاه لنَرْوى ** من التَّسْنيم في دار النعيمِ

وغاص الفكر في بحر المعاني ** فأَدرك كَلَّ معنى مستقيمِ

فأخرج جوهرًا يلتاح نورًا ** فقُلِّد عِقدَه أهلُ الفُهومِ

ليصعَد بالمعاني للمعالي ** بسعدٍ بعد توديع الجُسوم

محلُّ العلم لا يأوي ترابًا ** ولا يبْلى على الزَّمَنِ القديمِ

فمنَ قَرَأَ العُلومَ ومَن روَاها ** لتنْقُلَه إلى المغْنى المقيم

فإن الرُّوح تأْلَف كلَّ رَوْحٍ ** وَرِيحًا منه عاطرةَ النسيمِ

تحلَّي من عقائده عقُودًا ** منظَّمةً بِياقُوتٍ وتُومِ

وتُدْرِكُ نفسُه أَسْنى ضياءٍ ** من العلم النفيس لدى العليم

ويُحْيى جسمُه أعْلى لَذَاذٍ ** مُحياه على الخبر الجسيم

جزى الرحمنُ خيرًا بعد خيرٍ ** أَبَا عيسى على الفِعْل الكريمِ

وألحقَه بصالحِ مَنْ حَواهُ ** مصنَّفُه مِنَ الجِيل العظيمِ

وكان سمِيُّه فيه شفيعًا ** محمدٌ المسمَّى بالرَّحيمِ

صلاةُ الله تورثُه علاءً ** فإنَّ لِذِكْرِهِ أَزْكَى نَسيمِ

وقال ابن الصَّلاح في علوم الحديث: كتاب أبي عيسى الترمذي أصلٌ في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوَّه باسمه، وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه، والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل، والبخاريِ وغيرهما.
وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله: هذا حديثٌ حسن، أو هذا حديث حسنٌ صحيح ونحو ذلك. فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه.
وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح: وقد أكثر علي بن المديني من وصف الأحاديث بالصحة وبالحسن في مسنده وفي علله، فكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح وعنه أخذ البخاري، ويعقوب بن أبي شيبة، وغير واحد، وعن البخاري أخذ الترمذي.
فاستمداد الترمذي لذلك إنما من البخاري، ولكن الترمذي أكثر منه وأشاد بذكره، وأظهر الاصطلاح فيه، فصار أشهر به من غيره.
وقال ابن الصلاح: قول الترمذي وغيره: هذا حديث حسن صحيح فيه إشكالٌ؛ لأن الحسن قاصرٌ عن الصحيح، ففي الجمع بينهما في حديث واحد، جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته. قال: وجوابه: أن ذلك راجعٌ إلى الإسناد، فإذا روى الحديث الواحد بإسنادين؛ أحدهما: إسنادٌ حسنٌ، والآخر: إسنادٌ صحيح، استقام أن يقال فيه: أنه حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، أي أنه حسن بالنسبة إلى إسنادٍ، صحيح بالنسبة إلى إسنادٍ آخر. على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي- وهو ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب- دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده. انتهى.
وقال ابن دقيق في الاقتراح: يرد على الجواب الأول الأحاديث التي قيل فيها حسنٌ صحيحٌ، مع أنه ليس له إلاَّ مخرجٌ واحدٌ. قال: وفي كلام الترمذي في مواضع يقول: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه. قال: والذي أقوله في جواب هذا السؤال: أنه لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما يجيئه القصور ويفهم ذلك فيه إذا اقتصر على قوله: حسن، فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار لا من حيث حقيقته وذاته. وشرح هذا وبيانه: أن هاهنا صفاتٍ للرواة تقتضي قبول الرواية، ولتلك الصفات درجاتٌ بعضها فوق بعض: كالتيقظ، والحفظ، والإتقان مثلاً.
فوجود الدرجة الدنيا: كالصدق وعدم التهمة بالكذب، لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه: كالحفظ والإتقان. فإذا وجدت الدرجة العليا وَلَمْ يناف ذلك وجود الدنيا: كالحفظ مع الصدق، فيصح أن يقال في هذا: إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا، وهي الصدق مثلاً، صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسنًا، ويلتزم ذلك ويؤيده ورود قولهم: هذا حديثٌ حسنٌ في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين. انتهى.
وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير: أصل هذا السؤال غير متجه؛ لأن الجمع بين الحُسْنِ والصحة في حديثٍ واحدٍ رتبةٌ متوسطةٌ بين الصحيح والحسن.
قال: فللقبول ثلاث مراتب: الصحيح أعلاها، والحسن أدناها، والثالثة ما يتشرب من كل منهما، فإن كل ما كان فيه شبه من شيئين لم يَتَمَحَّض لأحدهما، اختص برتبة منفردة، كقولهم لِلْمُزّ- وهو ما فيه حلاوة وحموضة-: هذا حلوٌ حامض، أي: مزٌّ. قال: فعلى هذا يكون ما يقول فيه: حسن صحيح أعلى رتبة عنده من الحسن ودون الصحيح، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن.
قال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على ابن الصلاح: وهذا الذي قاله ابن كثير تَحكُّمٌ لا دليل عليه، وهو بعيدٌ من فهم كلام الترمذي.
قال الإمام بدر الدين الزركشي، والحافظ أبو الفضل بن حجر كلاهما في النكت على ابن الصلاح: هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به. وعبارة الزركشي وهو خرقٌ لإجماعهم، ثم أنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح، إلاَّ قليلاً؛ لقلة اقتصاره على قوله: هذا صحيح مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين.
وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في محاسن الاصطلاح أيضًا: في هذا الجواب نظرٌ.
لكن جزم به الإمام شمس الدين بن الجزري في الهداية والذي قال: صحيح حسن كالترمذي يعني يشابه صحة وحسنًا فهو إذن دون الصحيح معنًى.
وقال الزركشي: فإن قلت: فما عندك في رفع هذا الإشكال؟
قلتُ: يُحتمل أن يريد بقوله: حسن صحيح- في هذه الصورة الخاصة- الترادف، واستعمال هذا قليلاً دليل على جوازه، كما استعمله بعضهم حيث وصف الحسن بالصحة، على قول من أدرج الحسن في قسم الصحيح، ويجوز أن يريد حقيقتهما في إسناد واحد باعتبار حالين وزمانين، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستورًا، أو مشهورًا بالصدق والأمانة، ثم ترقى ذلك الرجل المُستَمِع وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه الترمذي أو غيره مرة أخرى، فأخبر بالوصفين، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على الشيخ الواحد غير مرة. قال: وهذا الاحتمال- وإن كان بعيدًا فهو أشبه ما يقال. قال: ويحتمل أن يكون الترمذي أدَّى اجتهاده إلى حسنه- وأدَّى اجتهاد غيره إلى صحته- أو بالعكس، أو أن الحديث في أعلى درجات الحسن وأول درجات الصحيح، فجمع له باعتبار مذهبين، وأنت إذا تأملت تصرف الترمذي لعلك تسكن إلى قصده هذا. انتهى كلام الزركشي.
وبعضه مأخوذ من الجعبري حيث قال في مختصره: وقوله: حسن صحيح باعتبار سندين أو مذهبين.
وقال الحافظ ابن حجر في النكت: وأجاب بعض المتأخرين عن أصل الإشكال: بأنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث، فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحًا عند قوم، وحسنًا عند قومٍ يقال فيه ذلك. قال: ويُتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول: حسن وصحيح، قال: ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره.
فهذا يقدح في الجواب، ويَتوقف أيضًا على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين، فإن كان في بعضها ما لا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته، قدح في الجواب أيضًا، لكن لو سلم هذا الجواب لكان أقرب إلى المراد من غيره. قال: وإنِّي لأميل إليه وأرتضيه، والجواب عما يرد عليه ممكن. قال: وقيل: يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين، وهما الإسناد والحكم، فيجوز أن يكون قوله: حسن أي باعتبار حكمه؛ لأنه من قبيل المقبول، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة، وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح، بل يسمّي الكل صحيحًا، لكن يرد عليه ما أوردناه أولاً: من أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد.
قال: وأجاب بعض المتأخرين بأنه أراد: حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة راويه عن درجة الصحة المصطلحة، صحيح على طريقة من لا يفرق.
قال: ويرد عليه ما أوردناه فيما سبق.
قال: واختار بعض من أدركنا أن اللفظين عنده مترادفان، ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول على سبيل التأكيد له. كما يقال: صحيح ثابت، أو جيد قوي، أو غير ذلك.
قال: وهذا قد يقدح فيه القاعدة أن الحمل على التأسيس خيرٌ من الحمل على التأكيد؛ لأن الأصل عدم التأكيد، لكن قد يندفع القدح بوجود القرينة الدَّالة على ذلك. وقد وجدنا في عبارة غير واحد كالدارقطني: هذا حديث صحيح ثابت.
قال: وفي الجملة أقوى الأجوبة ما أجاب به ابن دقيق العيد. انتهى كلام الحافظ ابن حجر في النكت.
وقال في شرح النخبة: إذا جمع الصحيح والحسن في وصف واحد؛ فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها؟ وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية.
قال: ومحصَّل الجواب: أنَّ تردد أئمة الحديث في حال ناقليه اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين، فيقال فيه: حسن باعتبار وصفه عند قومٍ، صحيح باعتبار وصفه عند قومٍ، وغاية ما فيه أنه حذف حرف العطف من الذي بعده، وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح، دون ما قيل فيه: صحيح، لأن الجزم أقوى من التردد، وهذا من حيث التفرد، وإلاَّ إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معًا على الحديث يكون باعتبار إسنادين: أحدهما صحيح، والآخر حسن.
وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح، فوق ما قيل فيه: صحيح فقط، إذا كان فردًا؛ لأن كثرة الطرق تقوي. فإن قيل: قد صرح الترمذي بأن شرط الحسن أن يروى من غير وجه. فكيف يقول في بعض الأحاديث: حسنٌ غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه؟ فالجواب: أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقًا، وإنما عرَّف بنوع خاصٍّ منه وقع في كتابه، وما يقول فيه: حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث: حسن وفي بعضها: صحيح وفي بعضها: غريب، وفي بعضها: حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما وقع على الأول فقط، وعبارته تُرشِد إلى ذلك حيث قال في أواخر كتابه: وما قلنا في كتابنا: حديثٌ حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديثٍ يُروى لا يكون راويه متهمًا بكذب، ويُروى من غير وجه نحو ذلك، ولا يكون شاذًّا، فهو عندنا: حديثٌ حسن. فعرف بهذا أنه إنما عرَّف الذي يقول فيه: حسن فقط، أما ما يقول فيه: حسن صحيح أو حسن غريب، أو حسن صحيح غريب، فلم يعرِّج على تعريفه، كما لم يعرج على تعريف ما يقول فيه: صحيح فقط، أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً لشهرته عند أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط: إما لغُموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد؛ ولذلك قيَّده بقوله: عندنا، ولم ينسبه إلى أهل الحديث- كما فعل الخطابي-.
وبهذا التقرير يندفع كثيرٌ من الإيرادات التي طال البحث فيها ولم يُسفر وجهُ توجيهها، فلله الحمد على ما ألهم وعلَّم. انتهى.
قلتُ: وظهر لي توجيهان آخران، أحدهما: أن المراد حسن لذاته صحيح لغيره، والآخر: أن المراد حسنٌ باعتبار إسناده، صحيح أي: أنه أصح شيء ورد في الباب. فإنه يقال: أصح ما ورد كذا وإن كان حسنًا أو ضعيفًا، والمراد أرجحه أو أقله ضعفًا، ثم إنَّ الترمذي لم ينفرد بهذا المصطلح، بل سبقه إليه شيخه البخاري، كما نقله ابن الصلاح في غير مختصره، والزركشي وابن حجر في نكتهما. قال الزركشي: واعلم أن هذا السؤال يرد بعينه في قول الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لأن من شرط الحسن أن يكون معروفًا من غير وجه، والغريب من انفرد به أحد رواته، وبينهما تنافٍ قال: وجوابه أن الغريب يُطلق على أقسام: غريب من جهة المتن، وغريب من جهة الإسناد، والمراد هنا الثاني دون الأول؛ لأن هذا الغريب معروف عن جماعة من الصحابة، لكن تفرد بعضهم بروايته عن صحابي. فحسب المتن: حسن؛ لأنه عرف مخرجه واشتهر، فوجد شرط الحسن، وبحسب الإسناد: غريب؛ لأنه لم يروه من تلك الجماعة إلاَّ واحد، ولا منافاة بين الغريب بهذا المعنى وبين الحسن، بخلاف سائر الغرائب فإنها تنافي الحسن. وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد المحسن الغرافي في كتابه معتمد التنبيه: قول أبي عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ غريبٌ وهذا حديثٌ حسن غريبٌ إنما يريد به ضيق المخرج أنه لم يخرج إلاَّ من جهة واحدة، ولم يتعدد خروجه من طرق إلاَّ إن كان الراوي ثقة فلا يضر ذلك، فيستغربه هو لقلة المتابعة، وهؤلاء الأئمة شروطهم عجيبة، وقد يُخَرِّج الشيخان أحاديث يقول أبو عيسى فيها: هذا حديثٌ حسن وتارة: حسنٌ غريب كما قال في حديث أبي بكر: قلت: يا رسول الله علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي... الحديث: هذا حديثٌ حسنٌ مع أنه متفقٌ عليه. انتهى.
واعلم أن الكتب الأربعة: الصحيحين، وسُننَ أبي داود، والنسائي وقعت لنا من عدة روايات عن مؤلفيها، ولم يقع لنا الترمذي إلاَّ من رواية أبي العباس محمد بن أحمد بن محبوب عن الترمذي، ولا نعلم أنه شرحه أحد كاملاً إلاَّ القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه عارضة الأحوذي، وكتب عليه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قطعة، وكمل عليها الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي قطعة أخرى ولم ْيُتمَّه، وكتب عليه شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني قطعة، والحافظ أبو الفضل بن حجر مجلدًا لم نقف عليه، وله كتاب اللباب فيما يقول فيه الترمذي: وفي الباب، ولم نقف عليه أيضًا والله أعلم.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد: الذي عندي أن الأقرب إلى التحقيق والأجرى على واضح الطريق أن يقال: إن كتاب الترمذي تضمّن الحديث مصنفًا على الأبواب وهو علم برأسه، والفقه علمٌ ثان، وعللَ الأحاديث- ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب- علمٌ ثالث، والأسماءَ والكنى علمٌ رابع، والتعديلَ والتجريحَ خامسٌ، ومن أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن لم يدركه- ممن أسند عنه في كتابه- سادسٌ، وتعديد من روى ذلك الحديث سابعٌ.
هذه علومه الجُمْلِيَّة، وأما التفصيلية فمتعددة بالجملة، فمنفعته كبيرة، وفوائده كثيرة. انتهى.
قال الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: ومما لم يذكره ما تضمنه من الشذوذ وهو نوعٌ ثامن، ومن الموقوف وهو تاسع، ومن المدرج وهو عاشر، وهذه الأنواع مما تكثر فوائده التي تستجاد فيه وتستفاد عنه، وأما ما يقل فيه وجوده من الوفيات، أو التنبيه على معرفة الطبقات وما يجري مجرى ذلك، فداخلٌ فيما أشار إليه من فوائده التفصيلية. انتهى.
فائدةٌ:
قال الحافظ أبو جعفر بن الزبير في بَرْنامجه: روى هذا الكتاب عن الترمذي ستة رجال- فيما علمته-: أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب، وأبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، وأبو ذر محمد بن إبراهيم، وأبو محمد الحسن بن إبراهيم القطان، وأبو حامد أحمد ابن عبد الله التاجر، وأبو الحسن الوَذَاري. قال: وأما ما ذكره بعض الناس: من أنه لا يصح سماع أحد في هذا المصنف من أبي عيسى ولا روايته عنه- وهو كلام يُعزى إلى أبي محمد بن عتاب، عن أبي عمرو السفاقسي، عن أبي عبد الله الفسوي- فهو باطلٌ، قاله من قاله، فإن الروايات في الكتاب منتشرة شائعة عن جِلَّةٍ معروفين إلى المصنف، ثم إن أبا عبد الله بن عتاب، وابنه أبا محمد المذكور، والحافظ أبا علي الغسابي وغيرهم من أئمة هذا الشأن قد أسندوا الكتاب إلى فهارسهم، وما تعرضوا لشيء مِمَّا ذكره مَنْ تَقدَّم كلامُه من جَهْلِ الكتاب، وانقطاع الرواية فيه، ولا ذكروا ذلك عن أحدٍ. انتهى.
وقال الحافظ قطب الدين القسطلاني:
أحاديث الرسول جلا الهمُوم ** وَبُرْء المرء من أَلم الكُلوم

فلا تَبْغِ بها أبدًا بديلاً ** وعرِّفْ بالصحيح مِنَ السقيم

وإِنَّ الترمذيَّ لمَن تَصَدَّى ** لعِلْم الشَّرْع مُغنٍ عن علوم

غدَا خضِرًا نضيرًا في المعاني ** فأضحى روضَة عَطِرَ الشمِيم

فمِنْ جَرحٍ وتعديلٍ حَواه **. ومِنْ عِلَلٍ ومن فِقْهٍ قويم

ومن أَثرٍ وَمِنْ أَسْمَاءِ قَوْمٍ ** وَمِن ذِكْرِ الكُنى لصَدٍ فَهيم

ومِن نَسخٍ ومُشْتَبِهِ الأسَامي ** ومِن فَرْقٍ ومِن جَمْعٍ بهيم

ومِن قولِ الصِّحاب وتابعيهم ** بِحِلٍّ أو بتَحْريمٍ عميم

ومِن نَقْلٍ إلى الفُقَهَاء يُعْزى ** ومِن مَعْنى بَدِيعٍ مستقيم

ومن طبقاتِ أعْصَارٍ تَقضَّت ** ومن حَلٍّ لمنفعةٍ عقيم

وقسَّمَ مَا روى: حسنًا، صحيحًا ** غريبًا، فارتضاه ذَوُوا الفُهوم

ففاق مصنَّفات الناس قِدمًا ** وراق فكان كالعقْد النَّظيم

وجاء كأنه بدْرٌ تلألأ ** يُنيرُ غياهِبَ الجهل العظيم

فَنَافِسْ في اقتباسٍ من نفيسٍ ** بأنفاسٍ ودعْ قولَ الخصيم

فإنَّ الحقَّ أبلجُ ليس يُخفي ** طلاوتَه على الذِّهنْ السليم

وفضلُ العلم يظهر حين يَنْأى ** عَن الأرواح مألوفُ الجسوم

فمأوى العلم مرقى للثُّرَيَّا ** ويَبْقى في الثرى أثرُ الرسوم

وليس العِلْم ينفع مَن حَواه ** بلا عملٍ يُعين على القُدوم

كتابُ الترمذيِّْ غدا كتابًا ** يعطِّرُ نَشرُه مَرَّ النسيم

وإسنادي له في العصر يعلو ** أُساوِي فيه ذَا سنّ قديم

فربِّي اللهَ أحمدُ كُلَّ حينٍ ** على إيلاءِ إِفْضالٍ عميم

وصَلِّ مدى الزمان على رسولٍ ** يفُوح لذكره أَرَجُ النسيم