فصل: تفسير الآيات (86- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (86- 88):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
{أولئك الذين اشتروا} أي استبدلوا {الحياة الدنيا بالآخرة} لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة {فلا يخفف عنهم العذاب} أي فلا يهون عليهم {ولا هم ينصرون} أي ولا يمنعون من عذاب الله تعالى. قوله عز وجل: {ولقد آتينا} أي أعطينا {موسى الكتاب} يعني التوراة جملة واحدة {وقفينا} أي وأتبعنا من التقفية وهو أن يقفو أثر الآخر {من بعده بالرسل} يعني رسولاً بعد رسول وكانت الرسل بعد موسى إلى زمن عيسى عليهم السلام متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة: قيل إن الرسل بعد موسى يوشع بن نون وأشمويل وداود وسليمان وأرمياء وحزقيل وإلياس ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فجاءهم بشريعة جديدة، وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} اي الدلالات الواضحات وهي المعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل هي الإنجيل. واسم عيسى بالسريانية أيشرع ومريم بمعنى الخادم وقيل هو اسم علم لها كزيد من الرجال {وأيدناه} أي وقويناه {بروح القدس} قيل: أراد بالروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى وأضاف روح عيسى إليه تشريفاً وتكريماً وتخصيصاً له كما تقول عبد الله وأمة الله وبيت الله وناقة الله وقال ابن عباس هو اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى وقيل هو الإنجيل لأنه حياة القلوب سماه روحاً كما سمى القرآن روحاً وقيل هو جبريل ووصف بالقدس وهو الطهارة لأنه لم يفترق ذنباً قط وقيل القدس هو الله تعالى والروح جبريل كما تقول عبد الله، سمي جبريل روحاً للطافته لأنه روحاني خلق من النور وقيل سمى روحاً لمكانه من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وحمل روح القدس هنا على جبريل أولى لأنه تعالى قال وأيدناه أي قويناه بجبريل وذلك أنه أمر أن يكون مع عيسى ويسير معه حيث سار فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء فلما سمعت اليهود بذكر عيسى قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم علمت ولا كما يقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً قال الله تعالى: {أفكلما جاءكم} يعني يا معشر اليهود {رسول بما لا تهوى} تقبل {أنفسكم استكبرتم} أي تعظمتم عن الإيمان به {ففريقاً كذبتم} يعني مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم {وفريقاً تقتلون} يعني مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوه، وذلك أن اليهود كانوا إذا جاءهم رسول بما لا يهوون كذبوه فإن تهيأ لهم قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الدنيا وطلب الرياسة {وقالوا} يعني اليهود {قلوبنا غلف} جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة فلا يعي ولا يفقه.
قال ابن عباس غلف بضم اللام جمع غلاف والمعنى أن قلوبنا أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك وقيل أوعية من الوعي لا تسمع حديثاً إلى وعته إلا حديثك فإنها لا تعيه ولا تعقله ولو كان خيراً لفهمته ووعته قال الله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي طردهم وأبعدهم من كل خير. وسبب كفرهم أنهم اعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنهم أنكروه وجحدوه فلهذا لعنهم الله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} أي لم يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين كان أكثرهم منهم.

.تفسير الآيات (89- 90):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قوله عز وجل: {ولما جاءهم كتاب من عند الله} يعني القرآن {مصدق لما معهم} يعني التوراة وهذا التصديق في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن نبوته وصفته ثابته في التوراة {وكانوا} يعني اليهود {من قبل} أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {يستفتحون} أي يستنصرون به {على الذين كفروا} يعني مشركي العرب وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوارة فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فما جاءهم ما عرفوا} أي الذي عرفوه يعني محمداً صلى الله عليه وسلم عرفوا نعته وصفته وأنه من غير بني إسرائيل {كفروا به} أي جحدوه وأنكروه بغياً وحسداً {فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم} أي بئس شيء اشتروا به أنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق واشتروا بمعنى باعوا والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم {أن يكفروا بما أنزل الله} يعني القرآن {بغياً} أي حسداً {أن ينزل الله من فضله} يعني الكتبا والنبوة {على من يشاء من عباده} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {فباؤوا} أي فرجعوا {بغضب على غضب} أي مع غضب قال ابن عباس الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل والثاني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقيل: الأول بعبادتهم العجل والثاني: بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم {وللكافرين} يعني الجاحدين بنوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم {عذاب مهين} أي يهانون فيه.

.تفسير الآيات (91- 93):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} يعني بالقرآن وقيل: بكل ما أنزل الله {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني التوارة وما أنزل على أنبيائهم {ويكفرون بما وراءه} أي بما سواه من الكتب وقيل: بما بعده يعني الإنجيل والقرآن {وهو الحق} يعني القرآن {مصدقاً لما معهم} يعني التوراة {قل} يا محمد {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} إنما أضاف القتل للمخاطبين من اليهود، وإن كان سلفهم قتلوا لأنهم رضوا بفعلهم قيل: إذا عملت المعصية في الأرض فمن كرهها وأنكرها بريء منها، ومن رضيها كان من أهلها {إن كنتم مؤمنين} أي بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء. قوله عز وجل: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة {ثم اتخذتم العجل من بعده} أي من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات {وأنتم ظالمون} إنما كرره تبكيتاً لهم للحجة عليهم {واذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} أي استجيبوا وأطيعوا أي فيما أمرتم به {قالوا سمعنا} يعني قولك {وعصينا} يعني أمرك وقيل إنهم لم يقولوا بألسنتهم، ولكن لما سمعوه وتلقوه تلقوه بالعصيان فنسب ذلك إليهم {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي تداخل حبه في قلوبهم والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ في الثوب. وقيل: إن موسى أمر أن يبرد العجل ويذرى في النهر وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل، ظهر سحالة الذهب على شاربه {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} أي بأن تعبد وا العجل والمعنى بئس الإيمان إيمان يأمر بعبادة العجل {إن كنتم مؤمنين} أي بزعمكم وذلك أنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله تعالى.

.تفسير الآيات (94- 96):

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس} وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة منها قولهم: لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه فكذبهم الله وألزمهم الحجة فقال: قل يا محمد لليهود إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة خالصة لكل دون الناس {فتمنوا الموت} أي فاطلبوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه وأنها له حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلاّ بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إن كنتم صادقين} أي في قولكم ودعواكم، وروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاّ مات» قال الله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} أي لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون {بما قدمت أيديهم} يعني من الأعمال السيئة، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون من يده {والله عليم بالظالمين} فيه تخويف وتهديد لهم، وإنما خصهم بالظلم لأنه أعم من الكفر لأن كل كافر ظالم وليس كلّ ظالم كافراً فلهذا كان أعم وكانوا أولى به {ولتجدنهم} اللام للقسم والنون للتوكيد تقديره والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود {أحرص الناس على حياة} أي حياة متطاولة، والحرص أشد الطلب {ومن الذين أشركوا} قيل هو متصل بما قبله ومعطوف عليه والمعنى وأحرص من الذين أشركوا. فإن قلت: الذين أشركوا قد دخلوا تحت الناس في قوله أحرص الناس فلم أفردهم بالذكر؟ قلت: افردهم بالذكر لشدّة حرصهم وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون إلاّ الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالبعث والجزاء كان حقيقاً بالتوبيخ العظيم وقيل: إن الواو واو استئناف تقديره ومن الذين أشركوا أناس {يود أحدهم} وهم المجوس سموا بذلك لأنهم يقولون: بالنور والظلمة يود أن يتمنى أحدهم {لو يعمر ألف سنة} أي تعمير ألف سنة وإنما خص الألف لأنها نهاية العقود ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون: زه هز إرسال أي عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان فهذه تحيتهم. والمعنى أن اليهود أحرص من المجوس الذين يقولون ذلك {وما هو بمزحزحه} أي بمباعده {من العذاب} أي النار {أن يعمر} أي لو عمر طول عمره لا ينقذه من العذاب {والله بصير بما يعملون} أي لا يخفى عليه خافية من أحوالهم.

.تفسير الآية رقم (97):

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قوله عز وجل: {قل من كان عدواً لجبريل} قال ابن عباس سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن صوريا حبر من أحبار اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل قال ذلك عدونا ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل ينزل بالعذاب والشدّة والخسف، وإنه عادانا مراراً وأشد ذلك علينا أن الله أنزل علي نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بختنصر فلما كان زمنه بعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً، فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال: إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فعلى أي حق تقتله فلما كبر ذلك الغلام وقوى غزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدواً فأنزل الله هذه الآية وقيل: قالوا إن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فاتخذناه عدواً. وقيل إن عمر بن الخطاب كان له أرض بأعلى المدينة وكان ممره إليها على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يوماً ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك وإنا لنطمع فيك فقال عمر والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم، لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال جبريل قالوا ذلك عدونا يطلع محمداً على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدة، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلامة، فقال لهم: تعرفون جبريل وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله تعالى قالوا: جبريل عن يمنيه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدو لجبريل فقال عمر أشهد أن من كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر. ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله ثم رجع عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وقال: لقد وافقك ربك يا عمر، فقال عمر: والله لقد رأيتني بعد ذلك في ديني أصلب من الحجر. والأقرب ان سبب هذه العداوة كون جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي لأن قوله: {فإنه نزله على قلبك} مشعر بذلك قوله: {فإنه نزله} يعني جبريل نزل بالقرآن كناية عن غير مذكور {على قلبك} يا محمد وإنما خص القلب بالذكر لأنه محل الحفظ {بإذن الله} أي بأمره {مصدقاً} أي موافقاً {لما بين يديه} أي لما قبله من الكتب {وهدى وبشرى للمؤمنين} أي في القرآن هداية للمؤمنين إلى الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الثواب وبشرى لهم بثوابها إذا أتوا بها.

.تفسير الآيات (98- 100):

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
{من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل} لما بين في الآية الأولى أن من كان عدواً لجبريل لأجل، أنه نزل بالقرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وجب أن يكون عدواً لله. لأن الله تعالى هو الذي نزله على محمد بين في هذه الاية أن كل من كان عدواً لأحد هؤلاء، فإنه عدو لجميعهم وبين أن الله عدوه بقوله: {فإن الله عدو للكافرين} فأما عدواتهم لله فإنها لا تضره ولا تؤثر وعداوته لهم تؤديهم إلى العذاب الدائم، الذي لا ضرر أعظم منه، وقيل: المراد من عداوتهم لله وعداوتهم لأوليائه وأهل طاعته فهو كقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أي يحاربون أولياء الله أهل طاعته. وقوله وملائكته ورسله، يعني أن من عادى واحداً منهم فقد عادى جميعهم ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بجميعهم وجبريل وميكائيل إنما خصهما بالذكر وإن كانا داخلين في جملة الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما وعلو منزلتهما وقدم جبريل على ميكائيل لفضله عليه لأن جبريل ينزل بالوحي الذي هو غذاء الأرواح وميكائيل ينزل بالمطر الذي هو سبب غذاء الأبدان، وجبريل وميكائيل اسمان أعجميان. ومعناهما: عبد الله لأن جبر وميك بالسريانية هو العبد وإيل هو الله {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى بينات واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام {وما يكفر بها} أي وما يجحد بهذه الآيات {إلاّ الفاسقون} أي الخارجون عن طاعتنا وما أمروا به {أو كلما عاهدوا بها} قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ عليهم من العهود في محمد صلى الله عليه وسلم وأن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهد فأنزل الله هذه الآية أو كلما استفهام إنكار عاهدوا عهداً هو قولهم: إنه قد أظلّ زمان نبي مبعوث وإنه في كتابنا وقيل إنهم عاهدوا الله عهوداً كثيرة ثم نقضوها {نبذه} أي طرح العهد ونقضه {فريق منهم} يعني اليهود {بل أكثرهم لا يؤمنون} يعني كفر فريق منهم بنقض العهد وكفر فريق منهم بالجحد للحق.