فصل: تفسير الآيات (7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (7- 9):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)}
قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} يعني: ما أنعم به عليكم من النعم كلها، لأن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها والانقياد لأمره وهو الله تعالى: {وميثاقه الذي واثقكم به} يعني: واذكروا عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون {إذ قلتم سمعنا وأطعنا} وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا وقيل الميثاق هو الذي أخذه عليهم في يوم ألست بربكم قالوا بلى: {واتقوا الله} يعني فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه {إن الله عليم بذات الصدور} يعني إن الله تعالى عالم بما في قلوب عباده من خير وشر. وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله} قال ابن عباس يريد أنهم يقومون لله بحقه ومعنى ذلك: هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه {شهداء بالقسط} يعني وتشهدون بالعدل يقول لا تحابِ في شهادتك أهل ودِّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعداءك أقم شهادتك لهم وعليهم بالصدق والعدل.
{ولا يجرمنكم شنآن قوم} ولا يحملنكم بغض قوم {على ألا تعدلوا} على ترك العدل فيهم لعدوانهم {اعدلوا} أمر الله بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو {هو أقرب للتقوى} أي العدل أقرب للتقوى {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} يعني: أن الله تعالى خبير بجميع أعمالكم مطلع عليها وخبير بمن عدل ومن لم يعدل.
قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} يعني عملوا بما واثقهم الله به وأوفوا بالعهود التي عاهدهم عليها {لهم مغفرة وأجر عظيم} هذا بيان للوعد كأنه لما تقدم ذكر الوعد فقيل: أي شيء هذا الوعد؟ فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} يعني: والذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا عهوده ومواثيقه وكذبوا بما جاءت به الرسل من عنده {أولئك} يعني من هذه صفته {أصحاب الجحيم} هذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال: فلان صاحب فلان يعني الملازم له.
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} يعني: اذكروا نعمة الله عليكم بالدفع عنكم مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم ثم وصف تلك النعمة التي ذكرهم بها وأمرهم بالشكر عليها فقال تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} يعي بالقتل والبطش بكم فصرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم.
اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وفي صفة هذه النعمة التي أمر الله تعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بذكرها والشكر عليها، فقال قتادة: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة حين أراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل صلاة الخوف. وقال الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل فقال رجل من المشركين: هل لكم أن أقتل محمداً؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. قالوا: وددنا أنك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه أياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر إليه مرة وإلى النبي مرة ثم قال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف ومضى فأنزل الله هذه الآية. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر فاقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم: أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء يسقط من بين مناقيرها علق الدم فقال أحد النفر الثلاثة: قتل أصحابنا. ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً من المشركين فاختلفا ضربيتن فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه فقال: الله أكبر الجنة ورب العالمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما ألى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات.
وقيل أراد أن يستقرض منهم ديه رجلين فقالوا نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة أجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعض اليهود ببعض وقالوا: إنكم لم تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر منكم على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيربحنا منه فقال عمرو بن جحاش: أنا. فعمد إلى رحى عظيمة ليطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة. قال: وخرج معه علي بن أبي طالب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لا تبرح مكانك حتى يخرج إليك أصحابي فمن خرج إليك منهم وسألك عني فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم اتبعوه إلى المدينة وأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم} يعني اليهود {أن يبسطوا إليكم أيديهم} يقال بسط يده إليه إذا بطش به وهو إذا مدها إلى المبطوش به ليقتله {فكفَّ أيديهم عنكم} يعني أنه تعالى منعهم مما أرادوه بكم {واتقوا الله} يعني فيما أمركم به ونهاكم عنه {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكل عليه لأنه هو الكافي عباده جميع أمورهم فإذا فعلوا ذلك وتوكلوا عليه حفظهم ورعاهم ممن أرادهم بسوء كما كفَّ أيدي اليهود عنهم لما أرادوا أن يفتكوا بهم وهذه القصة أولى بالصواب لأنه عقب الآية بذم اليهود وذكر قبيح أفعالهم وخيانتهم.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)}
قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} لما ذكر الله في الآية المتقدمة بعض غدرات اليهود وما أرادوه من كيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتبعه بذكر أسلافهم وما نقضوه من المواثيق والعهود ومعنى الآية أن الله أخذ ميثاقهم أن يعبد وه ولا يشركوا به شيئاً وأن يعملوا بما في التوراة من الأحكام والتكاليف {وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} اختلف العلماء في معنى النقيب فقال ابن عباس: النقيب الضمين. وقال قتادة: هو الشهيد على قومه. وقيل: هو الأمين الكفيل. وقيل: هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم.
ذكر القصة في ذلك:
قال أصحاب الأخبار والسير: إن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الرض المقدسة وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فأمر الله موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض وقال: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم وخذ من قومك اثني عشر نقيباً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء وهي مدينة الجبارين فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له، عوج بن عنق، وعنق: أمه، وهي إحدى بنات آدم عليه السلام. وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع هكذا نقله البغوي وفيه نظر لأن آدم عليه السلام كان طوله على ما ورد في الأحاديث الصحيحة ستين ذراعاً. قال: وكان عوج يحتجر بالسحاب ويشرب من مائة ويتناول الحوت من قعر البحر ويشويه في عين الشمس، ويروى أن الماء لما طبق على الأرض من جبل وغيره ما بلغ ركبتي عوج وقال لنوح عليه السلام: احملني معك في السفينة فقال نوح عليه السلام: اخرج عني يا عدو الله فإني لم أؤمر بك وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام وذلك أنه اقتلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى، وكان فرسخاً في فرسخ وحملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فنقب الصخرة وقورها بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته وأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله قال، فلما لقي عوج النقباء أخذهم وجعلهم في حجزته وكان على رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته وقال لها: اتظري إلى هؤلاء الذين يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا منك وقيل إنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم وكان مما رأوا أن العنقود العنب لا يحمله إلا خمسة أنفس منهم بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبسها خمسة أنفس فرجع النقباء وقال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إذا خبرتم بني إسرائيل خبر القوم رجعوا عن نبي الله موسى ولا يقاتلونهم معه اكتموا عن بني إسرائيل خبر القوم وأخبروا موسى وهارون بما رأيتم فيريان رأيهما وأخذ بعض النقباء على بعض الميثاق بذلك فلما رجعوا إلى بني إسرائيل نكثوا العهد والميثاق وأخبر كل رجل سبطه بما رأى إلا رجلان منهم وهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهم أوفيا بالعهود ولم ينكثا الميثاق فذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} {وقال الله إني معكم} فيه حذف تقديره وقال للنقباء: إني معكم يعني بالنصر والمعونة.
وقيل: هو خطاب لعامة بني إسرائيل: والقول الأول أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فكان عوده إلى النقباء أولى ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطباً لبني إسرائيل: {لئن أقمتم الصلاة} هذه جملة شرطية والشرط مركب من خمسة أمور، وهي قوله: {لئن أقمتم الصلاة} {وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً} وجزاء الشرط قوله تعالى: {لأكفرنّ عنكم سيئاتكم} وذلك إشارة إلى إزالة العذاب. وقوله تعالى: {ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} إشارة إلى إيصال الثواب ومعنى الآية لئن أقمتم الصلاة المكتوبة وآتيتم الزكاة المفروضة وآمنتم برسلي يعني جميع رسلي وإنما أخر ذكر الإيمان بالرسل لأن اليهود كانوا مقربين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان ببعض الرسل فقال الله لهم إنه لا يتم لكم ذلك ولا يحصل المقصود إلا بالإيمان بجميع الرسل. وقوله تعالى: {وعزرتموهم} يعني ونصرتموهم. وأصل التعزير في اللغة: الردع. فمعنى وعزرتموهم: ونصرتموهم بأن تردوا أعداءهم عنهم. وقيل: معناه وقرتموهم وعظتموهم. والقول هو الأول.
وأقرضتم الله قرضاً حسناً: يعني به الصدقات المندوبة لأن الزكاة تقدم ذكرها فلا فائدة في تفسير هذا الفرض بالزكاة. فإن قلت: كيف؟ قال: وأقرضتم الله قرضاً حسناً ولم يقل إقراضاً حسناً لأن مصدر أقرضتم الإقراض قلت: إن قوله قرضاً أخرج مصدراً من معناه لا من لفظه وذلك أن أقرض بمعنى قرض فكان معنى الكلام وأقرضتم الله فقرضتم قرضاً حسناً ونظير ذلك قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} إذ كان معناه فنبتم نباتاً وقوله: {لأكفرن عنكم سيئاتكم} يعني إذا فعلتم سائر ما أمرتكم به لأمحونَّ عنكم سيئآتكم وأغفرها لكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار {فمن كفر بعد ذلك منكم} يعنعي بعد أخذ العهد والميثاق {فقد ضل سواء السبيل} يعني فقد أخطأ الطريق المستقيم وهو طريق الدين الذي شرعه والهدى الذي أمر باتباعه.

.تفسير الآيات (13- 14):

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم} أي بسبب نقضهم الميثاق؛ وذلك أن بني إسرائيل نقضوا ميثاق الله وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه {لعناهم} يعني جازيناهم على ذلك بأن أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا وأصل اللعنة الأبعاد عن الرحمة {وجعلنا قلوبهم قاسية} يعني غليظة يابسة لا تلين لأن القسوة خلاف اللين والرقة وقيل معناه أن قلوبهم ليست خالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق {يحرفون الكلم عن مواضعه} يعني يغيرون حدود التوراة وأحكامها وقيل هو تبديلهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته من التوراة وقيل هو تحريفهم معاني الألفاظ بسوء التأويل {ونسوا حظاً مما ذكروا به} يعني وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الأيمان يعني على معصية منهم وكانت خيانتهم نقض العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب محمد صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من خيانتهم التي ظهرت {إلا قليلاً منهم} يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب {فاعف عنهم واصفح} أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفوا عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الاية فاعفُ عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك. وقيل: معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد {إن الله يحب المحسنين} يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن والله يحب المحسنين قوله عز وجل: {ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم} لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى} ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن الله تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {فنسوا حظاً مما ذكروا به} يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {فأغرينا} يعني فألقينا وأوقعنا {بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}.
قال قتادة: لما تركوا العمل بكتاب الله وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده، ألقى الله العداوة والبغضاء بينهم. وقيل: العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان: أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة. والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى {وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} يعني أن الله تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم.