فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (27):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}
قوله عز وجل: {واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق} يعني اذكر لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل في قول جمهور المفسرين ونقل عن الحسن والضحاك أن ابني آدم اللذين قربا القربان ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل ويدل عليه قوله تعالى في آخر القصة {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس} الآية والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسرين، لأن الله تعالى قال في آخر الاية: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض} لأن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلَّم من فعلِ الغراب بالحق أن أخبرهم خبراً ملتبساً بالحق والصدق لأنه من عند الله وموافقاً لما في الكتب المتقدمة وهم يعلمون صحته ومقصود هذا الخبر هو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا قربا قرباناً} القربان اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو غير ذلك مما يتقرب به.
ذكر قصة القربان وسببه وقتل قابيل هابيل:
ذكر أهل العلم بالأخبار والسير أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاماً وجارية فكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً واختلفوا في مولد قابيل وهابيل فقال بعضهم غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته فلم تجد عليهما وحماً ولا صباً ولا طلقاً ولم تر دماً وقت الولادة فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم وكان إذا كبر أولاده زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم فكبر قابيل وأخوه هابيل وكان بينهما سنتان، فلما بلغوا، أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل ويزوج هابيل إقليما. وكانت إقليما أحسن من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها ونحن أولاد من الجنة وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم: إنها لا تحل لك. فأبى أن يقبل ذلك. وقال: إن الله لم يأمرك بهذا وانما هو من رأيك فقال لهما آدم.
قربا لله قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع. فخرجا من عند آدم ليقربا القربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام رديء وأضمر في نفسه: لا أبالي أيتقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أحد غيري وكان هابيل صاحب غنم فعدل إلى أحسن كبش في غنمه فقربه وأضمر في نفسه رضا الله فوضعا قربانهما على جبل ثم دعا آدم فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله تعالى: {فتقبل من أحدهما} يعني هابيل {ولم يتقبل من الآخر} يعني قابيل فغضب قابيل إذ لم يتقبل قربانه فأضمر لأخيه الحسد إلى أن آتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب عنهم فأتى قابيل وهابيل وهو في غنمه {قال لأقتلنك قال} قال هابيل ولم تقتلني؟ قال قابيل: لأن الله تقبَّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبي {إنما يتقبل الله من المتقين} يعني أن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال فلذلك كان أحد القربانين مقبولاً دون الآخر ولأن التقوى من أعمال القلوب وكان قد أضمر في قلبه الحسد لأخيه على تقبل قربانه وتوعَّده بالقتل فقال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى وإنما يتقبل الله من المتقين فأجابه بجواب مختصر. وقيل: يحتمل أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى بين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يتقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً وإنما يتقبل الله من المتقين ثم قال تعالى إخباراً عن هابيل.

.تفسير الآيات (28- 30):

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}
{لئن بسطت إليَّ يدك} يعني لئن مددت إلي يدك {لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} يعني ما أنا بمنتصر لنفسي بل أستسلم لأمر الله. وقيل: معناه ما كنت بمبتدئك بالقتل وذلك أن الله كان قد حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلماً. وقال مجاهد: كان قد كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه. وقيل: إن المقتول كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفاً من الله فذلك قوله: {إني أخاف الله رب العالمين} والمعنى إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن أبسطها لقتلك أن يعاقبني على ذلك.
قوله عز وجل إخباراً عن هابيل {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} يعني ترجع بإثم قتلي إلى إثم معاصيك التي عملتها من قبل. فإن قلت: كيف؟ قال هابيل إني أريد وإرادة القتل والمعصية من الغير لا تجوز. قلت: أجاب ابن الأنباري عن هذا بأن قال: إن قابيل لما قال لأخيه هابيل لأقتلنك وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه وقال لئن بسطت إليّ يدك الآية فلم يرجع فلما رآه هابيل قد صمم على القتل وأخذ له الحجارة ليرميه بها قال له هابيل عند ذلك إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فحينئذ يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني فكان هذا عدلاً من هابيل وإليه أشار الزجاج فقال: معناه إن قتلتني فما أنا مريد ذلك فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلاً له والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك وعلى هذا التأويل.
قال بعضهم: معناه إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف وما باء بإثم باءَ بعقاب ذلك الإثم ذكره الواحدي وقال الزمخشري: ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام للقتل طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة {فتكون من أصحاب النار} ينعي الملازمين لها {وذلك جزاء الظالمين} يعني جهنم جزاء من قتل أخاه ظلماً.
قوله تعالى: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} يعني زينت له وسهلت عليه القتل وذلك أن افنسان إذا تصور أن قتل النفس من أكبر الكبائر صار ذلك صارفاً له عن القتل فلا يقدم عليه فإذا سهلت عليه نفسه هذا الفعل فعله بغير كلفة فهذا هو المراد من قوله تعالى: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} {فقتله}.
قال ابن جريج: لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر وقيل بل اغتاله وهو نائم فقتله.
واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس: على جبل ثور. وقيل: على عقبة حراء. وقيل: بالبصرة عند مسجدها الأعظم وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة.
وقوله تعالى: {فأصبح من الخاسرين} قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته أما دنياه فإسخاط والديه وبقي بلا أخ وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار.
(ق) عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل».

.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
قوله تعالى: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه} قال أصحاب الأخبار لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوماً. وقال ابن عباس: سنة حتى أروَحَ وأنتن فأراه الله أن يرى قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة ثم ألقاه فيها وواراه بالتراب وقابيل ينظر فذلك قوله تعالى: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض} يعني يحفرها وينثر ترابها ليريه كيف يواري سوأة أخيه يعني ليري الله أو يري الغراب قابيل كيف واري ويستر جيفة أخيه فلما رأى ذلك قابيل من فعل الغراب {قال يا ويلتا} أي لزمه الويل وحضره وهي كلمة تحسر وتلهف وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة وذلك أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما علم ذلك من فعل الغراب علم أن الغراب أكثر منه علماً وعلم أنه إنما ندم على قتل أخيه بسبب جهله وعدم معرفته فعند ذلك تلهف وتحسر على ما فعله فقال: يا ويلتا. وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب {أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} يعني مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر {فأواري سوأة أخي} يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين {فأصبح من النادمين} يعني على حمله على ظهره مدة سنة لا على قتله. وقيل: إنه ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه أبواه وإخوته فندم لأجل ذلك لا لأجل أنه جنى جناية واقترف ذنباً عظيماً بقتله فلم يكن ندمه ندم توبة وخوف وإشفاق من فعله فلأجل ذلك لم ينفعه الندم، قال المطلب بن عبد الله بن حطب: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام وشربت دم المقتول كما تشرب الماء فناداه تعالى أين أخوك هابيل؟ فقال ما أدري ما كنت عليه رقيباً: فقال الله تعالى إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال فأين دمه إن كنت قتلته! فحرم الله الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده ابداً ويروى عن ابن عباس قال لما قتل قابيل هابيل كان آدم بمكة فاشتاكَ الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرت الأرض فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل، وقيل: لما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته ولذلك اسود جلدك. وقيل: إن آدم مكث بعد قتل هابيل مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الأرض مغبرٌّ قبيحُ

تغير كل ذي طعم ولون ** وقل بشاشة الوجه المليحُ

ويروى عن ابن عباس أنه قال: من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب وأن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي سواء ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم مرثيته قال لشيث: يا بني أنت وصيي احفظ هذا الكلام ليُتوارث فيرثي الناس عليه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط العربية وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وزاد فيه أبياتها منها:
وما لي لا أجود بسكب دمعٍ ** وهابيل تضمنه الضريحُ

أرى طول الحياة عليّ غماً ** فهل أنا من حياتي مستريحُ

قال الزمخشري: ويروى أنه رثاه بشعر وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. قال الإمام فخر الدين الرازي: ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة؟
قال أصحاب الأخبار: فلما مضى من عنر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده وأما قابيل فقيل له اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد ها فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أول من عبد النار وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنه فقال ابن الأعمى لأبيه هذا أبوك قابيل فرماه بحجارة فقتله فقال ابن الأعمى لأبيه قتلت أباك قابيل فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي فلما مات قابيل علقت إحدى رجليه بفخذه وعلق بها فهو معلق بها إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث دارت وعليه حظيرة من نار في الصيف وحظيرة من ثلج في الشتاء فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة قالوا: وأتخذ أولاد قابيل آلات للهو من الطبول والزمور والعيدان والطبول والزمور والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى جميعاً بالطوفان في زمن نوح عليه السلام فلم يبق من ذرية قابيل أحد وأبقى الله ذرية شيث ونسله إلى يوم القيامة.

.تفسير الآية رقم (32):

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
قوله تعالى: {من أجل ذلك} يعني بسبب ذلك القتل الذي حصل وقيل الأجل في اللغة الجناية يقال أجل عليهم شراً أي جنى عليهم شراً {كتبنا} أي فرضنا وأوجبنا {على بني إسرائيل}.
فإن قلت: من أجل ذلك معناه من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل. وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعه قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائي. قلت: قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك أي من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره. ويروي عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله تمام الكلام الأول فعلى هذا يزول الإشكال. لكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله من أجل ذلك ابتداء كلام وليس يوقف عليه. فعلى هذا قال بعضهم: إن قوله من أجل ذلك ليس هو إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ما ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب هذا القتل الحرام منه قوله: {فأصبح من الخاسرين} وفيه إشارة إلى أنه حصلت له خسارة في الدين والدنيا والآخرة.
ومنه قوله: {فأصبح من النادمين} وفيه إشارة إلى أنه حظر في أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دافع لذلك البتة فقوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد التولدة من القتل العمد المحرم شرعنا القصاص على القاتل. فإن قلت: فعلى هذا تكون شريعة القصاص حكماً ثابتاً في جميع الأمم، فما الفائدة بتخصيصه ببني إسرائيل. قلت: إن وجوب القصاص وإن كان عامّاً في جميع الأديان والملل إلا أن التشديد المذكور هاهنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان والملل لأنه تعالى حكم في هذه الاية بأن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ولا يشك أن المقصود منه المبالغة في عقاب قاتل النفس عدواناً وأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على قساوة قلوبهم وبعدهم عن الله عز وجل ولما كان الفرض من ذكر هذه القصة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما أقدم عليه اليهود بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة مناسب للكلام وتوكيد للمقصود والله أعلم بمراده.
قوله عز وجل: {أنه من قتل نفساً} يعني من قتل نفساً ظلماً {بغير نفس} يعني بغير قتل نفس لا على وجه الاقتصاص فيقاد من قاتل النفس على وجه العدوان المحرم {أو فساد في الأرض} هو عطف على بغير نفس يعني وبغير فساد في الأرض فيستحق به القتل لأن القتل على أسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد من قوله: {قتل نفساً بغير نفس} ومنها الشرك والكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق ونحو ذلك وهو المراد من قوله أو فساد في الأرض {فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} قال مجاهد: من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها بقتل الناس جميعاً ومن سلم من قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً. وقال ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً. ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل: معناه أن من قتل نفساً محرمة يجب عليه القصاص مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ومن أحياها يعني من غرق أو حرق أو وقوع في هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً يعني أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعاً وقيل: معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما استحل قتل الناس جميعاً لأنهم لا يسلمون منه ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميع الناس فقد سلموا منه قال أهل المعاني قوله ومن أحياها على المجاز لأن المحيي هو الله تعالى في الحقيقة فيكون المعنى ومن ناجاها من الهلاك فكأنما نجى جميع الناس منه. سئل الحسن عن هذه الاية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
وقوله تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات} يعني: ولقد جاءت بني إسرائيل رسلنا ببيان الأحكام والشرائع والدلالات الواضحات {ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك} يعني بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل {في الأرض لمسرفون} يعني بالقتل لا ينتهون عنه وقيل معناه لمجازون حد الحق وإنما قال تعالى وإن كثيراً منهم، لأنه تعالى علم أن منهم من يؤمن بالله ورسوله وهم قليل من كثير. قوله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال ابن عباس نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا قول الضحاك أيضاً.
وقال الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال ولم يكن هلال شاهداً فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم بهذه الاية.
وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في قوم من عرينة وعكل أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل.
(ق) عن أنس بن مالك أن ناساً من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. زاد في رواية قال قتادة: فحدثني ابن سيرين إن ذلك قبل إن تزول الحدود.
وفي رواية للبخاري أن ناساً من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الرعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في الحرة يعضون الحجارة. زاد في رواية: قال أبو قلابة وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا، وفي رواية أبي داود إن قوماً من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله زاد في رواية له.