فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (33):

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}
أنزل الله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا} الآية.
شرح غريب هذا الحديث وحكمه قوله إنا كنا أهل ضرع يعني، أهل ماشية وبادية نعيش باللبن ولسنا من أهل المدن. والريف هو الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف. قوله: استوخموا المدينة أنها لم توافق مزاجهم وكذا قوله: ناجتووا المدينة وهو معناه والذود من الأبل ما بين الثلاثة إلى العشرة والحرة هي أرض ذات حجارة سود وهي هنا اسم لأرض بظاهر المدينة معروفة. وقوله: فسمر أعينهم، معناه أنه حمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب بصرها. وقوله: وينهى عن المثلة، أن تقطع أطراف الحيوان وتشوه خلقته ومثلة القتيل أن يقطع أنفه وأذنيه ومذاكيره ونحو ذلك. واختلف العلماء في حكم هذا الحديث فقيل: هو منسوخ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقيل: حكمه ثابت غير السمل والمثلة. وقيل: إن هذه الاية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم. وقيل: كان ذلك قبل أن تنزل الحدود، فلما نزلت الحدود وجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها. وقيل: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً من الله تعالى إياه عقوبتهم وما يجب عليهم فقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} واعلم أن المحاربة لله غير ممكنة وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما أن المحاربين لله هم المخالفون أمره الخارجون عن طاعته لأن كل من خالف أمر إنسان فهو حرب له فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله ويعصون أمرهما.
والقول الثاني: معناه يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله فهو من باب حذف المضاف {ويسعون في الأرض فساداً} يعني بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق.
واختلفوا في حكم هؤلاء المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح والمكابرون في البلد وهذا قول قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد ثم ذكر الله تعالى عقوبة هؤلاء المحاربين وما يستحقونه فقال تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} وللعلماء في لفظة أو المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية عنه وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد، وهو أن الإمام مخير في أمر المحاربين فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى من الأرض كما هو ظاهر الآية. والقول الثاني: أن لفظة أو للبيان وليست للتخيير وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أكثر العلماء لأن الأحكام تختلف فترتبت هذه العقوبات على تريتب الجرائم.
وهذا كما روي عن ابن عباس في قطاع الطريق قال: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا لم يأخذوا المال قتلوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض، وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. واختلفوا في كيفية الصلب فقيل: يصلب حياً ثم يطعن في بطنه برمح حيت يموت. قال الشافعي: يقتل أولاً ويصلى عليه ثم يصلب. وإنما يجمع بين القتل والصلب إذا قتل وأخذ المال ويصلب على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زاجراً لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية. واختلفوا في تفسير النفي من الأرض المذكور في الآية، فقيل: إن الإمام يطلبهم ففي كل بلد وجدوا نفوا عنه وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز. وقيل: يطلبون حتى تقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة: النفي هو الحبس لأنه نفي من الأرض لأن المحبوس لا يرى أحداً من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وطيباتها فهو منفي من الأرض في الحقيقة إلا من تلك البقعة الضيقة التي هو فيها.
قال مكحول: إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم ثم قال تعالى: {ذلك} يعني الذي ذكر في هذه الآية من الحدود {لهم} يعني للمحاربين {خزي في الدنيا} أي عذاب وهوان وفضيحة {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} هذا الوعيد في حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو خطر المشيئة، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا وأدخله هذا مذهب أهل السنة.

.تفسير الآية رقم (34):

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
وقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم لله ورسوله ومن السعي في الرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم. يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة {فاعلموا أن الله غفور} يعني لمن تاب من الشرك {رحيم} يعني به إذا رجع عما يسخط الله عز وجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى في هذه الاية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالأجماع، وأما المسلم المحارب، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه. فقال السدي: هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محارباً فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائز بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال: هذا فلان المرادي وأنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير. وقال الشافعي: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الاية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي: ويحتمل أن يسقط كل حد لله عز وجل بالتوبة.

.تفسير الآيات (35- 38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي خافوا الله بترك المنهيات {وابتغوا إليه الوسيلة} يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بنا يرضي وإنما قلنا ذلك، لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله: {اتقوا الله} والثاني: التقرب إلى الله تعالى بالطاعت وإليه الإشارة بقوله: وابتغوا إليه الوسيلة والوسيلة فعلية من وسل إليه إذا تقرب ومن قول الشاعر:
إن الرجال لهم إليك وسيلة

أي قربة. وقيل: معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى الله عز وجل: {وجاهدوا في سبيله} أي وجاهدوا العدو في طاعته وابتغاء مرضاته {لعلكم تفلحون} يعني لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب قوله عز وجل: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} يعني: أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها فم فدى نفسه من العذاب يوم القيامة لم يقبل منه ذلك الفداء {لهم عذاب أليم} المقصود من هذا أن العذاب لازم للكفار وأنه لا سبيل لهم إلا الخلاص منه بوجه من الوجوه.
(ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك» هذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} فيه وجهان: أحدهما أنهم يقصدون الخروج من النار ويطلبونه ولكن لا يستطيعون ذلك قيل إذا حملهم لهب النار إلى فوق طلبوا الخروج منها فلا يقدرون عليه.
والوجه الثاني: أنهم يتمنون الخروج من النار يقلوبهم {ولهم عذاب مقيم} يعني ولهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبداً. قوله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقدمنا قصته في سورة النساء وإنما سمي السارق سارق لأنه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء ومنه استرق السمع مستخفياً والسارق هنا مرفوع بالابتداء لأنه لم يقصد واحد بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده والمراد باليد المذكورة هنا اليمين.
قاله الحسن والشعبي والسدي وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما. وإنما قال: أيديهما ولم يقل يديهما، لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع والمراد باليد هنا الجارحة وحدها عند جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها في حد السرقة من الكوع. وقوله تعالى: {جزاء بما كسبا} يعني ذلك القطع جزاء على فعلهم {نكالاً من الله} يعني عقوبة من الله {والله عزيز} في انتقامه ممن عصاه {حكيم} يعني فيما أوجبه من قطع يد السارق.
فصل في بيان حكم الآية: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اقتضت هذه وجوب القطع على كل سارق وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة.
(ق) عن عائشة، أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وعن عائشة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك يبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها» أخرجه النسائي.
(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» قال الأعمش: يرون أن بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم، أما السرق الذي يجب عليه القطع، فهو البالغ، العاقل، العلم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرق حرام، فلا قطع عليه.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قيمته ربع دينار يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة.
المجن: الترس. ويروي عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي. وقال: الرواية الأولى، أصح. وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروي ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصاباً من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضاً عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} يتناول اقليل والكثير وسواء سرقة من حرز أو غير حرز.
المسألة الثالثة: الحرز، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وابو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئاً من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: «من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وزاد فيه: ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة.
قوله: غير متخذ خبنة: بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه. وقيل: وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله. والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة. وروي مالك في الموطأ، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» هكذا رواه مالك منقطعاً. وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص قوله: ولا في حريسة الجبل. من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها. يقال: حرس يحرس حرساً إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة. ومعنى الحديث: أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز. وقيل: حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» أخرجه الترمذي والنسائي.
المسألة الرابعة: إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أوالشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه.
المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذَّر ويحبس حتى تظهر توبته. يروي عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه «إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس» ويروى عن علي أنه قال: إني أستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.