فصل: تفسير الآيات (55- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (55- 56):

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}
قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال: أوالي الله ورسوله والمؤمنين يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن سلام: رضينا بالله ربّاً وبرسوله نبياً وبالمؤمنين أولياء.
وقيل: الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} صفة لكل مؤمن ويكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة والزكاة فوصف الله تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها وسجودها في مواقيتها ويؤتون الزكاة يعني ويؤدون الزكاة يعني ويؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم.
أما قوله تعالى وهم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه:
أحدهما: أن المراد من الركوع هنا الخضوع والمعنى أن المؤمنين يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لأوامر الله ونواهيه.
الوجه الثاني: أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإنما خص الركوع بالذكر تشريفاً له.
الوجه الثالث: قيل إن هذه الآية نزلت وهم ركوع. وقيل: نزلت في شخص معين وهو علي بن أبي طالب. قال السدي: مر بعلي سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، فعلى هذا قال العلماء: العمل القليل في الصلاة لا يفسدها والقول بالعموم أولى وإن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب وهو راكع. ويدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} من هم؟ فقال: المؤمنون، فقلت: إن ناساً يقولون هو علي، فقال: علي من الذين آمنوا.
وقوله تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا} يعني ومن يتول القيام بطاعة الله ونصر رسوله والمؤمنين. قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم {فإن حزب الله} يعني أنصار دين الله {هم الغالبون} لأن الله ناصرهم على عدوهم والحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه.

.تفسير الآيات (57- 59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً} قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى: اتخذوا دينكم هزواً ولعباً هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولاً وهم على ذلك يبطنون الكفر ويسرونه {من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعني اليهود {والكفار} يعني عبد ة الأصنام وإنما فصل بين أهل الكتاب والكفار وإن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبد ة الأصنام أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب {أولياء} يعني لا تتخذوهم أولياء والمعنى أن أهل الكتاب والكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء وأنصاراً {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} يعني مؤمنين حقاً لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء الله عز وجل.
قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً} قال الكلبي: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي: نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقيل: إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت وما أسمج هذا الأمر؟ فأنزل الله عز وجل: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} الآية وأنزل {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً} {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} يعني أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم.
قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذي اتخذوا دينك هزواً ولعباً {هل تنقمون منا} وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب والمعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل وهذا ليس مما ينكر أو ينقم منه وهذا كما قال بعضهم:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهنَّ فلول من قراع الكتائب

يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم. قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازوراء وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط- إلى قوله- ونحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنهم قالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله هذه الآية: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزلنا إلينا وما أنزل من قبل} وهذا هو ديننا الحق وطريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا {وأن أكثركم فاسقون} يعني أنما كرهتم إيماننا ونقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة وأخذ الأموال بالباطل وإنما قال أكثركم لأن الله يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وبرسوله. قوله عز وجل.

.تفسير الآيات (60- 63):

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}
{قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك} هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف ديناً شراً من دينكم. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ونقمتم علينا من إيماننا بالله وبما أنزل علينا {مثوبة عند الله} يعني جزاء.
فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب، فكيف جاءت في الإساءة؟. قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع

فإن قلت: هذا يقتضي أن الموصفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك ومعلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه؟. قلت: جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك.
وقوله تعالى: {من لعنه الله} معناه هل أنبئكم بمن لعنه الله أو هو من لعنه الله ومعنى لعنه الله: أبعده وطرده عن رحمته {وغضب عليه} يعني وانتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة {وجعل منهم القردة والخنازير} يعني من اليهود من لعنه الله وغضب عليه ومنهم من جعلهم قردة وخنازير قال ابن عباس: إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير.
وقيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود ومسخ الخنازير كان في الدين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام ولما نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود وقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير وافتضحوا بذلك {وعبد الطاغوت} يعني: وجعل منهم عبد الطاغوت، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له والطاغوت هو الشيطان. وقيل: هو العجل. وقيل: هو الكهان والأحبار. وجملته أن كل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبد ه وهو الطاغوت {أولئك} يعني الملعونين والمغضوب عليهم والممسوخين {شرّ مكاناً} يعني من غيرهم ونسب الشر إلى المكان والمراد به أهله فهو من باب الكناية وقيل: أراد أن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه {وأضل عن سواء السبيل} يعني وأخطأ عن قصد طريق الحق.
قوله تعالى: {وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} قال قتادة: نزلت في أناس من اليهود دخلواعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وشأنهم {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} يعني: إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج {والله أعلم بما كانوا يكتمون} يعني من الكفر الذي في قلوبهم.
قوله عز وجل: {وترى كثيراً منهم} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وترى يا محمد كثيراً من اليهود وكلمة من يحتمل أن تكون للتبعيض. ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى: {وترى كثيراً منهم يسارعون}. المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير. ومنه قوله تعالى: {يسارعون في الخيرات} وضدها العجلة، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون {في الإثم والعدوان وأكلهم السحت} الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها. والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان وما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه {لبئس ما كانوا يعملون} يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإِثم والعدوان وأكلهم السحت.
قوله تعالى: {لولا} يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ {ينهاهم الربانيون والأحبار} قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم {عن قولهم الإثم} يعني الكذب {وأكلهم السحت} والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت {لبئس ما كانوا يصنعون} يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي. وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية. قال ابن عباس: ما في القرآن أشد توبيخاً من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}
قوله عز وجل: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي. قال ابن عباس: إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة.
فعند ذلك قال فنحاص: يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء. فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوَّاً كبيراً، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخباراً عنهم: وقالت اليهود يد الله مغلولة. يعني نعمته مقبوضة عنا. وقيل: معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل.
والقول الأول أصح، لقوله تعالى: {ينفق كيف يشاء} واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} والسبب أن اليد آلة لكل الأعمال لاسيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازاً فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد وقيل للبخيل مقبوض اليد.
وقوله تعالى: {غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا} يعني: أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله.
قال الزجاج: رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة. وقيل: هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم؟ فقال: غلت أيديهم أي في نار جهنم. فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا سبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار.
وقوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.
وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين: أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال الله تعالى: {لما خلقت بيدي} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين».
والقول الثاني: قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه، أحدها: الجارحة وهي معلومة. وثانيهما: النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها. وثالثها: القدرة قال الله تعالى: {أولي الأيدي والأبصار} فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة. ورابعها: الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه قوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} أي يملك ذلك، أما الجارحة فمنتفية في صفة الله عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علواً كبيراً فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني، التي فسرت اليد بها فحاصلة، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وها هنا إشكالان:
أحدهما: أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة الله واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم {يد الله مغلولة} كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال: بل يداه مبسوطتان. أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه.
الإشكال الثاني: أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم الله غير محصورة ولا معدودة ومنه قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل: نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع. فالمراد بالتثنية، المبالغة في وصف النعمة. أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا: إن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره. ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولاً: أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلابد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه.
وأجيب عن قولهم: إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضاً قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه، كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس. بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال: إن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة، كما نقول: المجسمة تعالى الله عن قولهم علّواً كبيراً {ينفق كيف يشاء} يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله.
(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفص وهذا الحديث أيضاً أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف.
وقوله تعالى: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً} يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغياناً مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} يعني: ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى. وقيل: ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فإن بعض اليهود جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والمارونية.
فإن قلت، فهذا المعنى أيضاً حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيباً على اليهود والنصارى حتى يذموا به. قلت: هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.
أما في الصدر الأول، فلم يكن شيء من ذلك حاصلاً بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم الله يبعث الله عليهم من يهلكهم.
أفسدوا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا. وقالوا: يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبداً وقال مجاهد: معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأه الله تعالى وقال السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى الله عليه وسلم فرَّقه الله تعالى وكلما أوقدوا ناراً في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه {ويسعون في الأرض فساداً} يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم. وقيل: إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك {والله لا يحب المفسدين} يعني أن الله لا يحب من كانت هذه صفته. قال قتادة: لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه.