فصل: تفسير الآيات (102- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (102- 103):

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}
{قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها فأصبحوا بها كافرين، وقوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة، فكان هذا السؤال وبالاً عليهم، وقوم عيسى، سألوا نزول المائدة عليهم ثم كذبوها. كأنه تعالى يقول: إن أولئك سألوا فلما أُعطوا سؤلهم كفروا به فلا تسألوا أنتم شيئاً فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك.
قوله تعالى: {ما جعل الله} أي ما أنزل الله ولا حكم به ولا شرعه ولا أمر به {من بحيرة} البحيرة: من البحر وهو الشق. يقال: بحر ناقته إذا شق أذنها فهي فعيلة بمعنى مفعولة {ولا سائبة} يعني المسيبة المخلاة {ولا وصيلة} الوصيلة: الشاة وكانت العرب في الجاهلية إذا ولدت لهم ذكراً أو أنثى قالوا وصلت أخاها {ولا حام} الحام: هو الفحل من الإبل يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع به. قال ابن عباس: في بيان هذه الأوصاف، البحيرة: هي الناقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كانت أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على الناس منافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة فإذا ماتت حلت الرجال والنساء. وقيل كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم سيب مع أمها ويفعل بها ما يفعل بأمها. وقيل: السائبة البعير الذي يسيب لآلهتهم وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر، فقال: إنْ شفاني الله أو شفى الله مريضي أو قدم غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها، فلا تحبس عن ماء ولا مرعى ولا يركبها أحد، فهي بمنزلة البحيرة والوصيلة من الغنم. كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكر ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كانت ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر فلم يذبحوه من أجل الأنثى والحامي هو الفحل إذا ركب ولد ولده. وقيل: هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن. قالوا: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فإذا مات أكله الرجال والنساء.
(ق) عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار» ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار».
(خ) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت جهنم تحطم بعضها بعضاً ورأيت عمراً يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب» القُصْب بضم القاف وسكون الصاد المهملة الأمعاء كانت الجاهلية تفعل هذا في جاهليتهم فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أبطل ذلك بقوله «ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام يعني ما بحر الله من بحيرة ولا سيب من سائبة ولا وصل من وصيلة ولا حمى من حام ولا أذن فيه ولا أمر به ولكنكم أنتم فعلتم ذلك من عند أنفسكم».
(خ) عن ابن مسعود أن أهل الإسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.
وقوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} يعني بقولهم إن الله أمرنا بهم {وأكثرهم لا يعقلون} أراد بالأكثر الاتباع يعني أن الاتباع لا تعقل أن هذا كذب وافتراء من الرؤساء على الله عز وجل.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين بحروا البحائر وفعلوا هذه الأشياء أضافوها إلى الله كذباً تعالوا إلى ما أنزل الله يعني في كتابه وإلى الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه كتابه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله ويبين لكم الشرائع والأحكام وإن الذي تفعلونه ليس بشيء {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} يعني قد اكتفينا بما أخذنا عنهم من الدين ونحن لهم تقع قال الله رداً عليهم {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} يعني إنما يصح الاقتداء بالعالم المهتدي الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فيصح اقتداؤهم بهم.

.تفسير الآية رقم (105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} قال بعض العلماء: هذا أمر من الله تعالى ومعناه احفظوا أنفسكم من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي لأنك إذا قلت عليك زيداً معناه الزم زيداً وقيل معناه عليكم أنفسكم فأصلحوا واعملوا في خلاصها من عذاب الله عز وجل. وانظروا لها ما يقربها من الله عز وجل. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، يعني لا يضركم كفر من كفر إذا كنتم مهتدين وأطعتم الله عز وجل فيما أمركم به ونهاكم عنه.
قال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم. وقيل: لما قبلت الجزية من أهل الكتاب قال بعض الكفار: كيف تقبل الجزية من بعض دون بعض؟ فنزلت هذه الآية. وقيل: إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم فقيل لهم: عليكم أنفسكم واجتهدوا في صلاحهم لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين. فإن قلت هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قلت: لا يدل على ذلك والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عزَّ وجل لا يكون مؤاخذاً بذنوب أصحاب المعاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضلَّ إذا اهتديتم} ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود زاد فيه: «ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقال قوم في معنى الآية عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه أي وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه أي وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت قلوبكم وأهواؤكم وألبستم شيعاً وأذيق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
وقيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم} فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنت الغائب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف نصنع بهذه الآية قال: أية آية قلت {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» وفي رواية: «قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم، قال: لا بل أجر خمسين منكم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقيل في معنى الآية: إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه لا يضره من ضل. وقال ابن عباس: قوله «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» يقول إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به وعن صفوان بن محرز قال: دخل عليَّ شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره فقلت له: ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أوليائه {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وقال الحسن: لم يكن مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقيل في معنى الآية: لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب. وقال ابن زيد: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءكم وضللتم وفعلت وفعلت وكان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل وتفعل فقال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} قال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم لأن الله تعالى يقول:
{وتعاونوا على البر والتقوى} ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه.
وقال عبد الله بن المبارك: هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال: عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات والذي يؤكد ذلك أن معنى قوله: {عليكم أنفسكم} أي احفظوا أنفسكم وهذا أمر بأن نحفظ أنفسنا ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله أعلم.
وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً} يعني في الآخرة الطائع والعاصي والضال والمهتدي {فينبئكم بما كنتم تعملون} يعني فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها.

.تفسير الآية رقم (106):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)}
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري، وعدي بن بداء، خرجا من المدينة في تجارة إلى الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتاباً فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في متاعه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا إلى المدينة ومات بديل، ففتشا متاعه، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فغيباه، ثم إنهما قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوه فأصابوا الصحيفة وفيها تسمية ما كان معه فجاء أهل الميت إلى تميم وعدي فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه قالا: لا. قالوا: فهل أتجر تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فهل طال مرضه فأنفق شيئاً على نفسه قالا: لا. قالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا فقدنا إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ومَا لَنا بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار وحلفا فأنزل الله هذه الآية هذا قول المفسرين. وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال تميم برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم: ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح.
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه قال ابن عباس: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرج هذه الرواية الأخيرة البخاري في صحيحه فأما التفسير فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} يعني ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر {إذا حضر أحدكم الموت} يعني إذا قارب وقت حضور الموت {حين الوصية اثنان} لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية {ذوا عدل منكم} يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى: {فيقسمان بالله} والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيداً فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك: شهدت وصية فلان بمعنى حضرت {أو آخران من غيركم} يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين: وقيل: معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة: هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح: من كان بأرض غربة لم يجد مسلماً وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبد ة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلماً. عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحداً من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود.
وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا} فعمَّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده {ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئاً من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال: {ممن ترضون من الشهداء} والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولاً فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال.
وقوله تعالى: {إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني: إن أنتم سافرتم في الأرض {فأصابتكم مصيبة الموت} يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما {تحبسونهما} يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما {من بعد الصلاة} يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر {فيقسمان بالله} يعني فيحلفان بالله. قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها {إن ارتبتم} يعني إن شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما، فحلّفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع {لا نشتري به ثمناً} يعني لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده {ولو كان ذا قربى} يعني ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم {ولا نكتم شهادة الله} إنما أضاف الشهادة إليه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها {إنا إذاً لمن الآثمين} يعني إن كتمنا الشهادة أو خنّا فيها ولما نزلت هذه الآية صلى صلى الله عليه وسلم العصر ودعا تميماً وعدياً وحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء من بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي. وقيل: لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم، فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا اشتريناه منه. فقالوا لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.