فصل: تفسير الآيات (129- 130):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (129- 130):

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
قوله عز وجل: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً} الكاف في كذلك كاف التشبيه تقتضي شيئاً تقدم ذكره فالتقدير كما أنزلت العذاب بالجن والإنس الذين استمتع بعضهم ببعض كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً أي نسلط بعضهم على بعض فنأخذ من الظالم بالظالم كما جاء في الأثر: «من أعان ظالماً سلطه الله عليه» وقال قتادة: نجعل بعضهم أولياء بعض فالمؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان. وفي رواية أخرى عن قتادة قال: يتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة، وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس الجن وظلمة الجن ظلمة الإنس يعني نكل بعضهم إلى بعض. وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية وأن الله تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى عليهم خيارهم وإذا أراد بهم شراً ولي عليهم شرارهم فعلى هذا القول إن الرعية متى كانوا ظالمين سلط الله عز وجل عليهم ظالماً مثلهم فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظالم فليترك الظلم.
وقوله تعالى: {بما كانوا يكسبون} يعني يسلط عليهم من يظلمهم بسبب أعمالهم الخبيثة التي اكتسبوها.
قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} المعشر كل جماعة أمرهم واحد والجمع معاشر {ألم يأتكم رسل منكم} اختلف العلماء في معنى هذه الآية وهل كان من الجن رسل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه لم يكن من الجن رسول وإنما كانت الرسل من الإنس وأجابوا عن قوله رسل منكم يعني من أحدكم وهو الإنس فحذف المضاف فهو كقوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله: {مرج البحرين} وهو جائز في كل ما اتفق في أصله فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج ذكر جمهور أهل العلم. قال الواحدي: وعليه دل كلام ابن عباس لأنه قال يريد أنبياء من جنسهم ولم يكن من جنس الجن أنبياء وذهب قوم إلى أنه أرسل إلى الجن رسلاً منهم كما أرسل إلى الإنس رسلاً منهم. قال الضحاك: من الجن رسل كما من الإنس رسل وظاهر الآية يدل على ذلك لأنه تعالى قال: {ألم يأتكم رسل منكم} فخاطب الفريقين جميعاً وأجيب عن ذلك بأن الله تعالى قال: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} وهذا يقتضي كون الرسل بعضاً من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضاً من أبعاض هذا المجموع وكان هذا القول أولى من حمل لفظ الآية على ظاهرها فثبت بذلك كون الرسل من الإنس لا من الجن، ويحتمل أيضاً أن يقال إن كافة الرسل كانوا من الإنس لكن الله تعالى يلقى الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل من الإنس ثم يأتوا قومهم من الجن فيخبروهم بما سمعوا من الرسل ينذرهم به كما قال تعالى:
{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن}- إلى- {فلما قضى ولّوا إلى قومهم منذرين} فكان أولئك النفر من الجن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم وهذا مذهب مجاهد فإنّ الرسل من الإنس والنذر من الجن ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة. وقيل: كانت الرسل يبعثون إلى الجن من الجن، ولكن بواسطة رسل الإنس والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى: {يقصون عليكم آياتي} يعني يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} يعني ويحذرونكم ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة وذلك أن الله تعالى يقول يوم القيامة يوم لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ ما أخبر في كتابه، وهو قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} الآية فيجيبون بما أخبر عنهم في قوله تعالى: {قالوا} يعني كفار الجن والإنس {شهدنا على أنفسنا} اعترفوا بأن الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذروهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: {وغرتهم الحياة الدنيا} إنما كان ذلك بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} في الدنيا.
فإن قلت كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا الشرك والكفر في قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} قلت: يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فإذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الخير والفضل والكرامة أنكروا الشرك لعل ذلك الإنكار ينفعهم، وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فحينئذٍ يختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر فذلك قوله تعالى: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}.
فإن قلت لما كرر شهادتهم على أنفسهم، قلت: شهادتهم الأولى اعتراف منهم بما كانوا عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتكذيب الرسل وفي قوله: {وشهدوا على أنفسهم} ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ولذاتها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والمقصود من شرح حالهم تحذير السامعين وضجر لهم عن الكفر والمعاصي.

.تفسير الآيات (131- 134):

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
وقوله عز وجل: و{ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وقال الزجاج: معناه ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبهم {إن لم يكن ربك} يعني لأنه لم يكن ربك {مهلك القرى بظلم} قال الكلبي: معناه لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل فتنهاهم فإن رجعوا وإلا أتاهم العذاب، وهذا قول جمهور المفسرين قال الفراء: يجوز أن يكون المعنى لم يكن ليهلكهم بظلم منه {وأهلها غافلون} أي: وهم غافلون فعلى قول الجمهور: يكون الظلم فعلاً للكفار وهو شركهم وذنوبهم التي عملوها، وعلى قول الفراء: إنه لو أهلكهم قبل بعثة الرسل لكان ظالماً والله عز وجل يتعالى عن الظلم.
والقول الأول: أصح، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، غير أنه أخبر أنه لا يعذب قبل بعثة الرسل ولو فعل ذلك لم يكن ظلماً منه قوله تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} يعني ولكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات، يعني منازل يبلغها بعمله إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر.
وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج وهذا إنما يكون في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا فمنهم من هو أعظم ثواباً ومنهم من هو أشد عقاباً، وهو قول جمهور المفسرين وقيل: إن قوله تعالى: {ولكل درجات مما عملوا}، مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم. وقوله تعالى: {وما ربك بغافل عما يعملون} مختص بأهل الكفر والمعاصي ففيه وعيد وتهديد لهم.
والقول الأول أصح، لأن علمه تعالى شامل لكل المعلومات فيدخر فيه المؤمن والكافر والطائع والعاصي وأنه عالم بأعمالهم على التفصيل التام فيجزي كل عامل على قدر عمله وما يليق به من ثواب أو عقاب.
قوله عز وجل: {وربك الغني} يعني عن خلقه وذلك أنه تعالى لما بيَّن أن لكل عامل بطاعة أو معصية درجة على قدر عمله بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والعاصين بالعقاب ليس لأنه محتاج إلى طاعة المطيع أو منتقص بمعصية العاصي بل هو الغني على الإطلاق وأن جميع الخلق فقراء إليه {ذو الرحمة} قال ابن عباس: يتوبون ويرجعون {إن يشأ يذهبكم} يعني يهلككم. الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم {ويستخلف} يعني وينشئ ويخلق {من بعدكم} يعني من بعد إهلاككم {ما يشاء} يعني خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} اختلف عبارات المفسرين في هذه اللفظة فقال البغوي: يعني آباءهم الماضين قرناً بعد قرن، ونحوه قال الواحدي وصاحب الكشاف: يعني من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى: {ويستخلف من بعدكم} يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت.
وأما قوله: {ما يشاء} فالمراد منه خلق ثالث أو رابع واختلفوا فيه، فقال بعضهم: خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس. قال القاضي: وهو الوجه الأقرب لأن القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى كمل خلق ثالث ورابع أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي الثواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء الأقوام الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل منهم سواهم ثم بيَّن الله تعالى قوة قدرته على ذلك فقال: {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} لأن المرء إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان كذلك فكما قدر على تصوير هذه الأجسام بهذه الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم خلقاً آخر مخالفاً لها هذا آخر كلامه. وقال الطبري في قوله: {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} يقول كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم ومعنى من في هذا الموضع التعقيب كما يقال في الكلام أعطيتك من دينارك ثوباً يعني مكان الدينار ثوباً لا أن الثوب من الدينار بعض. كذلك الذين خوطبوا بقوله: {كما أنشأكم} لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين ولكن معنى ذلك ما ذكرنا أنهم أنشئوا مكان قوم آخرين قد أهلكوا قبلهم.
قوله تعالى: {إن ما توعدون} به من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة {لآت} يعني أنه كائن قريب {وما أنتم بمعجزين} يعني بفائتين حيثما كنتم يدرككم الموت.

.تفسير الآيات (135- 137):

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}
{قل} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد {يا قوم} أي قل لقومك من كفار قريش {اعملوا على مكانتكم} وقرئ مكاناتكم على الجمع والمكانة تكون مصدراً يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة كما يقال مقام ومقامة فقوله اعملوا على مكانتكم يحتمل أن يكون معناه اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أن يكون معناه اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها كما يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانتك يا فلان أي أثبت على ما أنت عليه لا تتغير عنه. وقال ابن عباس معناه اعملوا على ناحيتكم {إني عامل} يعني إني عامل على مكانتي التي أنا عليها وما أمرني به ربي والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة فإني ثابت على الإسلام والمصابرة.
فإن قلت ظاهر الآية يدل على أمر الكفار بالإقامة على ما هم عليه من الكفر وذلك لا يجوز.
قلت: معنى هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه من الكفر فكأنه قال أقيموا على ما أنتم عليه من الكفر إن رضيتم لأنفسكم بالعذاب الدائم فهو كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} ففيه تفويض أمر العمل إليهم على سبيل الزجر والتهديد وليس فيه إطلاق لهم في عمل ما أرادوه من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: {فسوف تعلمون} يعني لمن العاقبة المحمودة لنا أو لكم. وقيل معناه فسوف تعلمون عند نزول العذاب بكم أينا كان على الحق في عمله نحن أم أنتم {من تكون له عاقبة الدار} يعني فسوف تعلمون غداً القيامة لمن تكون عاقبة الدار وهي الجنة {إنه لا يفلح الظالمون} قال ابن عباس: معناه أنه لا يسعد من كفر بي وأشرك. ثم في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنهما محكمة وهذا على قول من يقول إن المراد بقوله اعملوا على مكانتكم الوعيد التهديد.
والقول الثاني: أنها منسوخة بآية السيف وهذا على قول من يقول إن المراد بها ترك القتال.
قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} الآية لما بين الله عز وجل قبح طريقه الكفار وما كانوا عليه من إنكار البعث وغير ذلك عقبه بذكر أنواع من جهالاتهم وأحكامهم الفاسدة تنبيهاً على ضعف عقولهم وفساد ما كانوا عليه في الجاهلية فقال تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ} يعني مما خلق من الحرث يعني الزرع والثمر والأنعام، يعني ومن الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم نصيباً يعني قسماً وجزءاً. قال المفسرون: كان المشركون في الجاهلية يجعلون لله من حروثهم وثمارهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيباً وللأصنام نصيباً فما جعلوه من ذلك لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه عليها وعلى خدمتها فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان.
وقالوا: إنها محتاجة إليه. وكانوا إذا هلك شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به وإذا انتقص شيء مما جعلوه للأوثان جبروه مما جعلوه لله فذلك قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} وفيه اختصار تقديره وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً وللأصنام نصيباً {فقالوا هذا لله بزعمهم} يعني قولهم الذي هو بغير حقيقة لأن معنى زعم حكاية قول يكون مظنة الكذب ولذلك لا يجيء إلا في موضع ذم لقائليه وإنما نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا الله بزعمهم وإن كانت الأشياء كلها لله لإضافتهم نصيب الأصنام مع نصيب الله وهو قولهم: {وهذا لشركائنا} يعني الأصنام وإنما سموا الأصنام شركاء لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها: {فما كان لشركائهم} يعني وما جعلوا لها من الحرث والأنعام {فلا يصل إلى الله} يعني فلا يعطونه المساكين ولا ينفقونه على الضيفان {وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم} والمعنى أنهم كانوا يقرون ما جعلوه للأصنام مما جعلوه لله ولا يقرون ما جعلوه لله مما جعلوه للأصنام، وقال قتادة: كانوا إذا أصابتهم سنة قحط وشدة استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا مما جعلوه لشركائهم ولم يأكلوا منه شيئاً. وقال الحسن والسدي: كانوا إذا هلك ما جعلوا لشركائهم أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون ذلك فيما جعلوه لشركائهم فلذلك ذمهم الله تعالى فقال: {ساء ما يحكمون} يعني: بئس ما يحكمون ويقضون وذلك أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله تعالى في الرعاية والحفظ وهذا سفه منهم. وقيل: إن الأشياء كلها لله عز وجل وهو خلقها فلما جعلوا للأصنام جزءاً من المال وهي لا تملك ولا تخلق ولا تضر ولا تنفع نسبوا إلى الإساءة في الحكم والمقصود من ذلك بيان ما كانوا عليه في الجاهلية من هذه الأحكام الفاسدة التي لم يرد بها شرع ولا نص ولا يحسنها عقل.
قوله عز وجل: {وكذلك} عطف على قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} يعني كما فعلوا ذلك جهلاً منهم كذلك زين لكثير منهم قتل أولادهم شركاؤهم. والمعنى أن جعلهم لله نصيباً من أموالهم ولشركائهم على قتل أولادهم في نهاية الجهالة أيضاً فكأنه قال ومثل ذلك الذي فعلوه في القسم جهلاً وخطأ وضلالاً كذلك {زين} يعني حسَّن {لكثير من المشركين قتل أولادهم} يعني به وأد البنات أحياء مخافة الفقر والعيلة {شركاؤهم} يعني شياطينهم أمروهم أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من معصية الله وقتل الأولاد فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم وأضيف الشركاء إلى المشركين لأنهم أطاعوهم واتخذوهم أرباباً، وقال الكلبي: شركاؤهم سدنة آلهتهم يعني خدامها وهم الذين كانوا يزينون ويحسنون للكفار قتل الأولاد وكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن آخرهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله فعلى هذا القول، الشركاء هم السدنة وخدام الأصنام سموا شركاء لأنهم أشركوهم في الطاعة {ليردوهم} يعني ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به.
والإرداء في اللغة: الإهلاك. قال ابن عباس: ليردوهم في النار {وليلبسوا عليهم دينهم} يعني وليخلطوا عليهم دينهم. قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل عليه السلام فرجعوا عنه بتلبيس الشياطين، وإنما فعلوا ذلك ليزيلهم عن الدين الحق الذي كان عليه إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فوضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم {ولو شاء الله ما فعلوه} يعني ولو شاء الله لعصمهم من ذلك الفعل القبيح الذي زين لهم من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد أخبر الله عز وجلّ أن جمع الأشياء بمشيئته وإرادته إذ لو لم يشأ ما فعلوا ذلك {فذرهم} يعني فاتركهم يا محمد {وما يفترون} يعني وما يختلقون من الكذب على الله فإن الله لهم بالمرصاد.