فصل: تفسير الآيات (18- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (18- 20):

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}
قوله عز وجل: {قال اخرج منها} أي: قال الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه وذلك بسبب مخالفته وعصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة {مذؤوماً} يعني معيباً والذأم أشد العيب {مدحوراً} يعني مطروداً مبعداً. وقال ابن عباس: صغيراً ممقوتاً. وقال قتادة: لعيناً مقيتاً وقال الكلبي: ملوماً مقصياً من الجنة ومن كل خير {لمن تبعك منهم} يعني من بني آدم {لأملان جهنم منكم أجمعين} اللام لام القسم أقسم الله تعالى أن من اتبع إبليس من بني آدم وأطاعه منهم.
وقوله تعالى: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة {فكُلا من حيث شئتما} يعني فكُلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما.
فإن قلت: قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق؟
قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى.
قوله تعالى: {فوسوس لهما الشيطان} يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال: وسوس إذا تكلم كلاماً خفيفاً مكرراً وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعلَ الوسوسة وألقاها إليهما.
فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أُخرج منها؟
قلت: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن السؤال عن الحسن أنه قال: كان يوسوس في الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصه مشهورة ركيكة، وقال آخرون: إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك.
فإن قلت: إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله؟
قلت: يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما {إني لكما من الناصحين} فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة {ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما} يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي هلما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما {وقال} يعني وقال إبليس لآدم وحواء {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} يعني عن الأكل من هذه الشجرة {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الملَك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه.
قلت: ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)}
وقوله تعالى: {وقاسمهما} أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد {إني لكما لَمن الناصحين} قال قتادة: حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما وقد يُخدع المؤمن بالله فقال إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له {فدلاهما بغرور} يعني فخدعهما بغرور يقال من زال فلان يدلي فلاناً بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري وأصله ان الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وإبليس أول من حلف بالله كاذباً فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به {فلما ذاقا الشجرة} يعني: طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير {بدت لهما سوءاتهما} يعني: ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. وقال وهب: كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة: كان لباس آدم في الجنة ظفراً كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته {وطفقا} يعني وأقبلا وجعلا {يخصفان عليهما من ورق الجنة} يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. وقال الزجاج: جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها.
روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان آدم صلى الله عليه وسلم رجلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت ل سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّاً فعرضت له شجرة من شجرة الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفاً ومرفوعاً.
قوله تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال: ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسداً وبغياً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال فأني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة. وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.

.تفسير الآيات (23- 26):

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
قوله عز وجل: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها {وإن لم تغفر لنا} يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا {وترحمنا} يعني وتتفضل علينا برحمتك {لنكونن من الخاسرين} يعني من الهالكين.
قال قتادة: قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك، قال: إذاً أدخلك الجنة.
وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل.
فصل:
وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرقعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخَذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجِلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل، ذنوباً وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم. وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ والخلاف فيه فأغنى عنه الإعادة والله أعلم.
قوله تعالى: {قال اهبطوا} قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري: قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله: قوله تعالى: {اهبطوا} يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية {بعضكم لبعض عدو} يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس {ولكم في الأرض مستقر} يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر} يعني القبور {ومتاع إلى حين} يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجلكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {ومتاع إلى حين} يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا {قال فيها تحيون} يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم} اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقراً لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم فقال تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم} يعني لباساً تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباساً.
قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً أحدهما: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباساً أو بمعنى رزقناكم لباساً.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى: {وأنزلنا الحديد} {وريشاً} الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى وأنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى: {لتركبوها وزينة} وقال {ولكم فيها جمال} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشاً يعني مالاً، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال: تريش الرجل إذا تمّول. وقال ابن زيد: الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضاً، وقيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يبلس أو يفرش والريش أيضاً المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضاً في الخصب ورفاهية العيش {ولباس التقوى} اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضاً في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير.
وقيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبد ون بالتعري وخلع الثياب في الطواب بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى: {لباس التقوى} آلآت الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يبلسها أهل الزهد والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن بلاس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى: {ذلك خير} يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى:
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى ** عريت وإن وارى القميصَ قميصُ

وقوله تعالى: {ذلك من آيات الله} يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده {لعلهم يذكرون} يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.