فصل: تفسير الآيات (134- 136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (134- 136):

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}
قوله تعالى: {ولما وقع عليهم الرجز} يعني لما نزل بهم العذاب الذي ذكره في الآية المتقدمة هو الطوفان وما بعده وقال سعيد بن جبير الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت فنزل بهم الطاعون حتى مات منهم في يوم واحد سبعون ألفاً فأمسوا وهم لا يتدافنون.
(ق) عن أبي أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بين إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» وقوله تعالى: {قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك} يعني بما أوصاك وقيل بما عهد عندك من إجابة دعوتك {لئن كشفت عنا الرجز} يعني العذاب الذي وقع بنا {لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} حتى يذهبوا حيث شاؤوا {فلما كشفنا عنهم الرجز} يعني بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام {إلى أجل هم بالغوه} يعني إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم {إذا هم ينكثون} يعني إذا هم ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به.
واعلم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات هي معجزات في الحقيقة دالة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام ووجه ذلك أن العذاب كان مختصاً بآل فرعون دون بني إسرائيل فاختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز وكون بني إسرائيل في أمان منه وعافية وقوم فرعون في شدة وعذاب وبلاء مع اتحاد المساكن معجز أيضاً.
فإن اعترض معترض وقال إن الله تعالى علم من حال آل فرعون أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها.
فالجواب على مذهب أهل السنة إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يُسأل عما يفعل وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة فلعله تعالى علم من قوم فرعون أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات وظهورها فلهذا السبب والاها عليهم والله أعلم بمراده.
قوله عز وجل: {فانتقمنا منهم} يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم. وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب {فأغرقناهم في اليم} والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه. قال الزهري: اليم معروف لفظه سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: {فاقذفيه في اليم} والمراد به نيل مصر وهو عذب {بأنهم كذبوا بآياتنا} يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا {وكانوا عنها} يعني عن آياتنا {غافلين} يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين.
ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزاً لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان.

.تفسير الآيات (137- 140):

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}
قوله عز وجل: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} يعني ومكنّا القوم الذين كانوا يقهرون ويغلبون على أنفسهم وهو أن فرعون وقومه كانوا قد تسلطوا على بني إسرائيل فقتلوا أبناءهم واستخدموهم فصيروهم مستضعفين تحت أيديهم {مشارق الأرض ومغاربها} يعني أرض الشام ومصر وأراد بمشارقها ومغاربها جميع جهاتها ونواحيها. وقيل: أراد بمشارق الأرض ومغاربها الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب. وقيل: أراد جميع جهات الأرض وهو اختيار الزجاج قال: لأن داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض.
وقوله عز وجل: {التي باركنا فيها} يدل على أنها الأرض المقدسة يعني باركنا فيها بالثمار والأشجار والزروع والخصب والسعة {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل} يعني وتمت كلمة الله وهي وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم وقيل كلمة الله هي قوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الآية والحسنى صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمامها إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم {بما صبروا} يعني إنما حصل لهم ذلك التمام وهو ما أنعم الله تعالى بهم عليهم من إنجاز وعده لهم بسبب صبرهم على دينه وأذى فرعون لهم {ودمرنا} يعني وأهلكنا والدمار الهلاك باستئصال {ما كان يصنع فرعون وقومه} في أرض مصر من العمارات والبينان {وما كانوا يعرشون} يعني يسقفون من ذلك البنيان وقال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور. وقال الحسن: وما كانوا يعرشون من الثمار والأعناب.
قوله عز وجل: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} يعني وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد إهلاك فرعون وقومه وإغراقهم فيه يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.
وقال الكلبي عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى: {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} يعني فمر بنو إسرائيل بعد مجاوزة البحر على قوم يعكفون أي يقيمون ويواظبون على أصنام لهم يعني تماثيل لهم كانوا يعبد ونها من دون الله. قال ابن جريج: كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شان العجل. وقال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالرقة يعني بالرقة ساحل البحر وقيل كان أولئك الأقوام من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقتالهم {قالوا} يعني قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا ذلك التمثال {يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} يعني كما لهم أصنام يعبد ونها ويعظمونها فاجعل لنا أنت إلهاً نعبد ه ونعظمه. قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم وقال غيره هذا يدل على غاية جهل بني إسرائيل وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعد ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وعبادتهم غير الله تعالى فحملهم جهلهم على أن قالوا لنبيهم موسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام بقوله: {قال إنكم قوم تجهلون} يعني تجهلون عظمة الله تعالى وأنه لا يستحق أن يعبد سواه لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه.
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن مَن كان قبلكم» أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى: {إن هؤلاء متبرٍ ما هم فيه} أي مهلك والتتبير الإهلاك {وباطل ما كانوا يعلمون} البطلان عبارة عن عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائده ونفعه والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا يدفع عنهم ضراً لأنه عمل لغير الله تعالى فكان باطلاً لا نفع فيه {قال أغير الله أبغيكم إلهاً} لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً لنا إلهاً كما لهم آلهة حكم عليهم بالجهالة وقال مجيباً لهم على سبيل العجب والإنكار عليهم أغير الله أبغيكم إلهاً يعني أطلب لكم وأبغي لكم إلهاً {وهو فضّلكم على العالمين} والمعنى أن الإله ليس هو شيئاً يطلب ويلتمس ويتخير بل الإله هو الذي فضلكم على العالمين لأنه القادر على الإنعام والإفضال فهو هذا الذي يستحق أن يعبد ويطاع لا عبادة غيره ومعنى قوله فضلكم على العالمين يعني على عالمي زمانكم وقيل فضلهم بما خصهم به من الآيات الباهرة التي لم تحصل لغيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم.

.تفسير الآيات (141- 143):

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}
قوله عز وجل: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم} هذه الآية تقدم تفسيرها في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذن أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
قوله عز وجل: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} يعني وواعدنا موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاتنا ثلاثين ليلة وهي ذو القعدة {وأتممناها بعشر} يعني عشر ذي الحجة وهذا قول ابن عباس ومجاهد. قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأيتهم بكتاب من عند الله عز وجل فيه بيان ما يأتون وما يذرون فما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه عز وجل أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصامها فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل بل أكل من ورق الشجر فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام وقيل إن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يصوم ثلاثين يوماً ويعمل فيها ما يتقرب به إلى الله ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال: وتممناها بعشر وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} فذكره هناك على الإجمال وذكره هنا على التفصيل.
وقوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} يعني فتم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى عليه الصلاة والسلام وعبادته أربعين ليلة لأن الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال ولهذا قيل مواقيت الحج {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي} يعني كن أنت خليفتي فيهم من بعدي حتى أرجع إليك {وأصلح} يعني وأصلح أمور بني إسرائيل واحملهم على عبادة الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الرفق بهم والإحسان إليهم {ولا تتبع سبيل المفسدين} يعني ولا تسلك طريق المفسدين في الأرض ولا تطعهم والمقصود من هذا الأمر التأكيد لأن هارون عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين فهو كقوله ولكن ليطمئن قلبي وكقولك للقاعد اقعد بمعنى دُم على ما أنت عليه من القعود.
قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} يعني للوقت الذي وقتنا له أن يأتي فيه لمناجاتنا وهو قوله: {وكلمه ربه} وفي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام واختلف الناس في كلام الله تعالى فقال الزمخشري كلمه ربه عز وجل من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في الألواح هذا كلامه وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأن الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبد ني وأقم الصلاة لذكري} فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهبت الحنابلة ومن وافقهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قد تم وذهب جمهور المتكلمين إلى أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول قالوا إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع تلك الصفة الأزلية الحقيقية وقالوا كما أنه لا يبعد رؤية ذاته وليس جمساً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته. قال أهل التفسير والأخبار: لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن الله تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشطيان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه الله تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه وكلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم الله تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته {قال رب أرني أنظر إليك} قال الزجاج: فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك إنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظناً منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى الله عن ذلك {قال لن تراني} يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر اليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام: إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك. وقال السدي: لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو لله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان عند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال {ربي أرني أنظر إليك} قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام {لن تراني}.
فصل:
وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى: {لن تراني} قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود {ولن يتمنوه أبداً} مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} وقوله: {يا ليتها كانت القاضية} فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولاً على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضاً فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفاً بالله تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على الله عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى وأيضاً فإن الله عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل الله تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً والله أعلم بمراده.
قال وهب ومحمد بن إسحاق: لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل الله الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى أهل السموات أن يعترضوا على موسى عليه الصلاة والسلام فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقرة تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد فقال موسى: رب إني كنت عن هذا غنياً ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه مثل الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف موسى بن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وبدنه ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني مما أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس لهم جلب كجلب الجيش العظيم أوالنهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة ورئيسهم: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقيل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصير عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهطبوا عليه وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من الملائكة كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى عليه الصلاة والسلام رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبد ك فلا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن أقمت مت فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدأ العرش انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبداً لا يموت فارتج الجبل لشدة أصواتهم واندك واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله تعالى برحمته الروح فتغشته وقلب عليه الحجر الذي كان جلس عليه موسى فصار عيله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه الصلاة والسلام وأقامت الروح عليه مثل اللامة فلما أفاق موسى قام يسبح ويقول آمنت بك وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك والإله العظيم لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلّك يا رب العالمين فذلك قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال ابن عباس: ظهر نور ربه للجبل فصار تراباً واسم الجبل زبير.
وقال الضحاك أظهر الله عز وجل من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ما تجلى للجبل من الله تعالى إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً. وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على الفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل ذكره البغوي هكذا بغير سند وأخرجه الترمذي أيضاً عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال حماد هكذا وأمسك بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى فساخ الجبل وخرّ موسى عليه السلام صعقاً. وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ويروى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً يعني مستوياً بالأرض وقال ابن عباس: جعله تراباً وقال سفيان ساخ الجبل حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي صار رملاً هائلاً وقال الكلبي جعله دكاً يعني كسراً جبالاً صغاراً وقيل إنه صار لعظمة الله تعالى ستة أجبل فوقع ثلاثة بالمدينة وهي: أحد وورقان ورضى ووقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبر وحراء وقوله تعالى: {وخر موسى صعقاً} قال ابن عباس والحسن يعني مغشياً عليه. وقال قتادة يعني ميتاً والأول أصح لقوله: {فلما أفاق} والميت لا إفاقة له إنما يقال أفاق من غشيته قال الكلبي صعق موسى عليه الصلاة والسلام يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. وقال الواقدي: لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات: ما لا بن عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو في غشيته فجعلوا يركلونه ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة فلما أفاق يعني من غشيته ورجع علقه إليه وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له {قال سبحانك} يعني تنزيهاً لك من النقائص كلها {تبت إليك} يعني من مسألتي الرؤية بغير إذنك وقيل من سؤال الرؤية في الدنيا وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال سبحانك تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي وقيل لما سأل الرؤية ومنعها قال تبت إليك يعني من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئآت المقربين {وأنا أول المؤمنين} يعني بأنك لا ترى في الدنيا وقيل أنا أول المؤمنين يعني من بني إسرائيل بقي في الآية سؤالات: الأول أن الرؤية عين النظر فكيف قال أرني أنظر إليك وعلى هذا يكون التقدير أرني حتى أراك؟ والجواب عنه: أن معنى قوله أرني اجعلني متمكن من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ حتى يكون مطابقاً لقوله: {أنظر إليك}؟ والجواب: أن النظر لما كان مقدما الرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
السؤال الثالث: كيف استدرك وكيف اتصل الاستدراك من قوله: {ولكن انظر إلى الجبل} بما قبله؟ والجواب أن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً لا يقوى على رؤيته تعالى إلا من قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أصل التجلي للجبل اندك وتقطع فهذا هو المراد من هذا الاستدراك لأنه يدل على تعظيم أمر الرؤية والله أعلم بمراده.