فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (31):

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
قوله سبحانه وتعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} يعني اتخذ اليهود والنصارى علماءهم وقراءهم والأحبار العلماء من اليهود والرهبان أصحاب الصوامع من النصارى أرباباً من دون الله يعني أنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وذلك أنهم أحلوا لهم أشياء وحرموا عليهم أشياء من قبل أنفسهم فأطاعوهم فيها فاتخذوهم كالأرباب لأنهم عبد وهم واعتقدوا فيهم الإلهية. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبد ونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه». أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. قال عبد الله بن المبارك:
وهل بدل الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها

{والمسيح ابن مريم} يعني اتخذوه إلهاً وذلك لما اعتقدوا فيه النبوة والحلول اعتقدوا فيه الإلهية {وما أمروا} يعني وما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم {إلا ليعبد وا إلهاً واحداً} لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة لا غيره {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} أي تعالى الله وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.

.تفسير الآيات (32- 33):

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
{يريدون} يعني يريد رؤساء اليهود والنصارى {أن يطفئوا نور الله بأفواههم} يعني يريد هؤلاء إبطال دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بتكذيبهم إياه. وقيل المراد: من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وهي أمور أحدها المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه وثانيها القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند الله فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه وثالثها أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه واتباع طاعته والأمر بعبادته والتبرئ من كل معبود سواه فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بمزيد النصر وإعلاء الكلمة وإظهار الدين بقوله: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} يعني ويأبى الله أن يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ولو كره ذلك الكافرون.
قوله عز وجل: {هو الذي أرسل رسوله} يعني أن الله الذي يأبى إلا أن يتم نوره هو الذي أرسل رسوله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى} يعني بالقرآن الذ أنزله عليه وجعله هادياً إليه {ودين الحق} يعني دين الإسلام {ليظهره} يعني ليعليه {على الدين كله} يعني على سائر الأديان وقال ابن عباس: الهاء في ليظهره عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها وقال غيره من المفسرين الهاء راجعة إلى الدين الحق والمعنى ليظهر دين الإسلام على الأديان كلها وهو ألا يعبد الله إلا به وقال أبو هريرة والضحاك ذلك عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام» عن المقداد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل إما أن يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما أن يذلهم فيدينون له» أخرجه البغوي بغير سند.
(م) عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت يا رسول الله إني كنت أظن حين أنزل الله تعالى هو الذين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله إن ذلك تام قال: «إنه سيكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث ريحاً طيبة تتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» قال الشافعي: وقد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا هو ظهوره على الدين كله {ولو كره المشركون}.

.تفسير الآية رقم (34):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان} قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الاحبار من اليهود والرهبان من النصرى وفي قوله سبحانه وتعالى: {إن كثيراً} دليل على ان الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في قوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتباً يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند الله ويأخذون بها ثمناً قليلاً وهي المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبه لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهب عنهم تلك المآكل وقيل إن التوارة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلباً للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك قوله تعالى: {ويصدون عن سبيل الله} يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الإسلام {والذين يكنزون الذهب والفضة} أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم الله بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب. قال معاوية بن أبي سفيان: لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريق الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه. وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين.
(خ)
عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشأم فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب.
فقلت: نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذين أنزلني هذا المنزل ولو أمر على عبد حبشي لسمعت وأطعت واختلف العلماء في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته وروي عن ابن عمر: أنه قال له أعرابي أخبرني عن قول الله عز وجل: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها ويل له هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهراً للأموال. أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة ورواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال: كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفوناً. وروي عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما فوقها كنز وما دونها نفقة. وقيل: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. وروي الطبري بسنده عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان كان هذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الزكاة فكان يجب على كل من فضل معه شيء من المال إخراجه لاحتياج غيره إليه فلما فرضت الزكاة نسخ ذلك الحكم.
عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: والذين يكنزون الذهب والفضة، كبر على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم. فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم. قال: فكبر عمر ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» أخرجه أبو داود عن ثوبان قال: لما نزلت والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة فلو علمنا أي المال خيراً اتخذناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن والصحيح من هذه الأقوال القول الأول وهو ما ذكرنا عن ابن عمر أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر وإن كان كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب عليه وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة ويستحق على منع الزكاة والوعيد من الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بعفوه وغفرانه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقتضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطؤه باظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» أخرجه مسلم بزيادة فيه قوله كلما ردت أعيدت له هكذا هو في بعض نسخ صحيح مسلم ردت بضم الراء وفي بعضها بردت بالباء وهذا هو الصواب والرواية الأولى هي رواية الجمهور قوله حلبها هو بفتح اللام على المشهور وحكى إسكانها وهو ضعيف قوله بقاع قرقر هو المستوى من الأرض الواسع الأملس والعقصاء هي الشابة الملتوية القرنين وإنما استثناها لأنها لا تؤلم بنطحها وكذا الجلحاء وهي الشاة التي لا قن لها وكذا العضباء وهي الشاة المكسورة القرن.
(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله سبحانه وتعالى: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم}» الآية، الشجاع الحية والأقرع صفة له بطول العمر لأن مَن طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات والزبيبتان هما الزبدتان في الشدقين واللهزمتان عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.
وقوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} يعني ولا يؤدون زكاتها وإنما قال ولا ينفقونها ولم يقل ينفقونهما لأنه رد الكناية إلى المال المكنوز وهي أعيان الذهب والفضة وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب أموال الناس {فبشرهم بعذاب أليم} يعني الكافرين الذين لا يؤدون زكاة أموالهم.
(ق) عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس» هذا لفظ مسلم وفرقه البخاري في موضعين.

.تفسير الآيات (35- 36):

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
وقوله تعالى: {يوم يحمى عليها} يعني الكنوز فتدخل النار فيوقد عليها حتى تبيض من شدة الحرارة {في نار جهنم فتكوى بها جباههم} يعني الكنوز جباه كانزيها {وجنوبهم وظهورهم} قال ابن عباس: لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته. قال بعض العلماء: إنما خص هذه الأعضاء، بالكي من بين سائر الأعضاء لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئاً تبدو منه آثار الكراهة والمنع فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه ثم إن كرر السائل الطلب نأى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانباً ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال ولاه ظهره وأعرض عنه واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل وهذا دأب ما نعى البر والإحسان. وعادة البخلاء فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة.
وقوله سبحانه وتعالى: {هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي يقال لهم ذلك يوم القيامة {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي فذوقوا عذاب ما كنزتم في الدنيا من الأموال ومنعتم حق الله منها.
(ق) عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً هذا لفظ مسلم وفيه زيادة لم أذكرها. وزاد البخاري قلت: من هذا؟ قالوا: أبا ذر. قال: فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل فقال ما قلت إلا شيئاً سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} هي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وهذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمس وخمسون يوماً والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف.
قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان يقع حجهم تارة في وقته وتارة في المحرم وتارة في صفر وتارة في غيره من الشهور فأعلم الله عز وجل أن عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهراً على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تبارك وتعالى إن عدة الشهور عند الله يعني في علمه وحكمه اثنا عشر شهراً {في كتاب الله} يعني في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلق وما يأتون وما يذرون. وقيل: أراد بكتاب الله القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وقيل أراد بكتاب الله الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به {يوم خلق السموات والأرض} يعني أن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض أن السنة اثنا عشر شهراً {منها} يعني من الشهور {أربعة حرم} وهي رجب فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وإنما سميت حرماً لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه وابنه وأخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يهجه ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيماً ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف وكذلك السيئات أيضاً أشد من غيرها فلا يجوز انتها حرمة الأشهر الحرم {ذلك الدين القيم} يعني ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي فالدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه» يعني: حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت. وقيل: أراد بالدين القيم الحكم الذي لا يغير ولا يبدل. والقيم هنا: بمعنى الدائم الذي لا يزول. فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبياعاتهم وأجل ديونهم وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور.
(ق) عن أبي بكر أن البني صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر. قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال: ألا هل بلغت ألا هل بلغت قلنا نعم قال: اللهم اشهد».
وقوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قيل: الكناية في فيهن ترجع إلى جميع الأشهر أي لا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقاً في جميع الأوقات إلى الممات. وقيل: إن الكناية ترجع إلى الأشهر الحرم وهو قول أكثر المفسرين. وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل عظيماً. وقال ابن عباس: لا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراماً ولا حرامها حلالاً كفعل أهل الشرك وهو النسئ. وقيل: إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس لا جرم أن الله خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات فربما تكرها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريقة والأشهر المحرمة المعظمة سبباً لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم. وكذلك الأمكنة أيضا. وقوله سبحانه وتعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} يعني قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة والمعنى تعاونوا وتناصروا على قتالهم ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيراً حراماً ثم نسخ بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} يعني في الأشهر الحرم وفي غيرهن وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفاً بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: إنه غير منسوخ. قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها {واعلموا أن الله مع المتقين} يعني بالنصر والمعونة على أعدائه.