فصل: تفسير الآيات (49- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (49- 52):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}
قوله عز وجل: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} نزلت في الجد بن قيس وكان من المنافقين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم تتخذ منهم سراري ووصفاء. فقال الجد: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بحب النساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي قال ابن عباس: اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» فأنزل الله عز وجل فيه ومنهم يعني ومن المنافقين من يقول ائذن لي يعني في التخلف والقعود في المدينة ولا تفتني يعني ببنات بني الأصفر وهم الروم {ألا في الفتنة سقطوا} يعني أنهم وقعوا في الفتنة العظيمة وهي النفاق ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عنه {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} يعني يوم القيامة تحيط بهم وتجمعهم فيها.
قوله سبحانه وتعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم} يني إن تصبك يا محمد حسنة من نصر وغنيمة تحزن المنافقين {وإن تصبك مصيبة} يعني من هزيمة أو شدة {يقولوا} يعني المنافقين {قد أخذنا أمرنا} يعني أخذنا أمرنا بالجد والحزم في القعود عن الغزو {من قبل} يعني من قبل هذه المصيبة {ويتولوا وهم فرحون} يعني مسرورين لما نالك من المعصية وسلامتهم منها {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} يعني قل يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه لن يصيبنا إلا ما قدره الله لنا وعلينا وكتبه في اللوح المحفوظ لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهاً نزل به أو يجلب لنفسه نفعاً أراده لم يقدر له {هو مولانا} يعني أن الله سبحانه وتعالى هو ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يعني في جميع أمورهم {قل هل تربصون بنا} يعني: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين هل تنتظرون بنا أيها المنافقون {إلا إحدى الحسنيين} يعني إما النصر والغنيمة وإما الشهادة والمغفرة وذلك أن المسلم إذا ذهب إلى الغزو والجهاد في سبيل الله إما أن يغلب عدوه فيفوز بالنصر والغنيمة والأجر العظيم في الآخرة وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي الغاية القصوى ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله وفي رواية تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة» أخرجاه في الصحيحين.
وقوله سبحانه وتعالى: {ونحن نتربص بكم} يعني ونحن ننتظر بكم إحدى السوأيين {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} يعني فيهلككم كما أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية {أو بأيدينا} يعني أو يصيبكم بأيدي المؤمنين بأن يظفرنا بكم ويظهرنا عليكم {فتربصوا إنا معكم متربصون} قال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه.

.تفسير الآيات (53- 55):

{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}
{قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} نزلت في الجد بن قيس المنافق وذلك أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عنه وقال أنا أعطيكم مالي فأنزل الله عز وجل رداً عليه قل أي قل يا محمد لهذا المنافق وأمثاله في النفاق أنفقوا طوعاً أو كرهاً يعني أنفقوا طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق {لن يتقبل منكم} لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حل كل من أنفق ماله لغير وجه الله بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه ثم علل بسبب منع القبول بقوله: {إنكم} أي لأنكم {كنتم قوماً فاسقين} والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} أي المانع من قبول نفقاتهم هو كفرهم بالله وبرسوله {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} جمع كسلان يعني متثاقلين في الإتيان إلى الصلاة وذلك لأنهم لا يرجون على فعلها ثواباً ولا يخافون على تركها عقاباً فلذلك ذمهم مع فعلها {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} لأنهم كانوا يعتقدون الإنفاق في سبيل الله مغرماً ومنع ذلك الإنفاق مغنماً {فلا تعجبك} يا محمد {أموالهم ولا أولادهم} هذا الخطاب وإن كان مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المرد به جميع المؤمنين والمعنى فلا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم والإعجاب السرور بالشيء مع نوع من الافتخار به مع الاعتقاد أنه ليس لغيره مثله وهذا يدل على استغراق النفس بذلك الشيء ويكون سبب انقطاعه عن الله عز وجل فينبغي للإنسان أن لا يعجب بشيء من أمور الدنيا ولذاتها فإن العبد إذا كان من الله عز وجل في استدراج كثر ماله وولده فيكثر إعجابه بماله وولده فيبطر ويكفر نعم الله عليه ولهذا قال سبحانه وتعالى: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} فإن قلت كيف يكون المال والولد عذاباً في الدنيا وفيهما اللذة والسرور في الدنيا.
قلت: قال مجاهد وقتادة: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقيل: إن سبب كون المال والولد عذاباً في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الحزن والغم بسب المصائب الواقعة فيهما، فعلى هذا القول، لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصل لكل أحد من بني آدم مؤمنهم وكافرهم فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا العذيب في الدنيا وأجيب عن هذا الإيراد بأن المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا العذاب وهو أن المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وإنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً في الدنيا وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له وإنه ليس فيها ثواب فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والشدة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين.
وقيل: إن تعذيبهم بهما في الدنيا أخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله غير مثابين على ذلك وربما قتل الولد في الغزو فلا يثاب الوالد المنافق على قتل ولده وذهاب ماله. وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه وحفظه والكره في إنفاقه والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ثم يقدم في الآخرة على ملك لا يعذره {وتزهق أنفسهم} يعني وتخرج أنفسهم {وهم كافرون} والمعنى أنهم يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة.

.تفسير الآيات (56- 58):

{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}
قوله عز وجل: {ويحلفون بالله} يعني المنافقين {إنهم لمنكم} يعني على دينكم وملتكم {وما هم منكم} يعني أنهم كاذبون في أيمانهم {ولكنهم قوم يفرقون} يعني أنهم يخافون أن تظهروا على ما هم عليه من النفاق {لو يجدون ملجأ} يعني حرزاً وحصناً ومعقلاً يلجؤون إليه وقيل لو وجدوا مهرباً لهربوا إليه وقيل لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم ولفارقوكم {أو مغارات} يعني غيراناً في الجبل جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يستتر {أو مدخلاً} يعني موضع دخول يدخلون فيه وهو السرب في الأرض كنفق اليربوع وقال الحسن: وجهاً يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم {لولو إليه} والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً بهذه الصفة أو على أحد هذه الوجوه الثلاثة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه أي لرجعوا إليه وتحرزوا فيه {وهم يجمحون} يعني وهم يسرعون إلى ذلك المكان والمعنى أن المنافقين لشدة بغضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لو قدروا أن يهربوا منكم إلى أحد هذه الأمكنة لصاروا إليه لشدة بغضهم إياكم.
قوله سبحانه وتعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير وهو أصل الخوارج.
(ق) عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئاً فأتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم فقال يا رسول الله اعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك من يعدل إذا لم أعدل» وفي رواية: «قد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» زاد في رواية: «يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين» وفي رواية «من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين، يقال له أبو الجواظ لم تقسم بالسوية فنزلت هذه الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل فما عدلت فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك فمن ذا يعدل بعدي» وقال ابن زيد: قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا من يهواه فأنزل الله سبحانه وتعالى: {ومنهم من يلزمك في الصدقات} يعني ومن المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات وفي تفريقها ويطعن عليك في أمرها يقال همزه ولمزه بمعنى واحد أي عابه {فإن أعطوا منها} يعني من الصدقات {رضوا} يعني رضوا عنك في قسمتها {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} يعني وإن لم تعطهم منها عابو عليك وسخطوا.

.تفسير الآيات (59- 60):

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
{ولو أنهم رضوا} يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم الله لهم وقنعوا {ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله} أي كافينا الله {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} يعني إليه {إنا إلى الله راغبون} يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب لو محذوف تقديره لكان خيراً لهم وأعود عليهم.
قوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات بيَّن الله عز وجل في هذه الآية إن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ومصرفها إليهم ولا تعلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه منها شيئاً فلم يلمزونه ويعيبون عليه فلا مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات. عن زياد بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود.
فصل في بيان حكم هذه الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الإغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس وذلك من وجوه، الوجه الأول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال محبوباً بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال اشتغل به عن حب الله عز وجل وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله عز وجل فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن الله فيصير سبباً للقرب من الله عز وجل بإخراج الزكاة منه. الوجه الثاني: إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها ولذاتها فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب. الوجه الثالث سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن لأن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق على النفس فأوجب الله عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال لتميز بذلك المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها. الوجه الرابع أن المال مال الله والأغنياء خزان الله والفقراء عيال الله فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله.
(ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كاملاً موفراً طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال التي بأيدي الأغنياء فأوجب الله عز وجل نصيباً للفقراء في ذلك المال تطييباً لقلوبهم. الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى لا يصير ذلك المال معطلاً بالكلية.
المسألة الثانية: الآية تدل على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا هؤلاء الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه لأن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك لأنها مركبة من إن وما فكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات لا تصرف إلا إلى الأصناف الثمانية.
المسألة الثالثة: في بيان الأصناف الثمانية فالصنف الأول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على الشيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وقال قتادة: الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن والمسكين من له مال أو حرفة ولكن لا تقع منه موقعاً لكفايته سائلاً كان أو غير سائل فالمكسين عنده أحسن حالاً من الفقير. وقال أبو حنيفة، وأصحاب الرأي: الفقير أحسن حالاً من المسكين ومن الناس من قال لا فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن الله سبحانه وتعالى حكم بصرف الصدقات إلى هؤلاء الأصناف الثمانية دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فالأهم فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت ** رفع القوادم كالفقير الأعزل

قال ابن الأعرابي: الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر وقال: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت بهذا أن المسكين أحسن حالاً من الفقير ولأن الله سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملكاً مع اسم المسكنة لأن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ولأن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير قوله أو مسكيناً ذا متربة وصف المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة ولأن الله تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج أيضاً بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سبد

واحتج أيضاً بقول الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وكذا قال القتيبي: الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له وقيل: الفقير الذي له المسكن والخادم والمسكين الذي لا ملك له وقيل: إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنياً عن غيره قال الله سبحانه وتعالى: {أنتم الفقراء إلى الله} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو مسكيناً ذا متربة فهو حجة لمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لأنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن الاستدلال ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه فسقط الاستدلال به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين. وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «ولا لذي مرة قوي» عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: «أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه «أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن الصدقة فقال: إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حده أن يملك مائتي درهم. وقال قوم: من ملك خمسين درهماً أو قيمتها لا تحل له الصدقة لما روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا: لا يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين درهماً من الزكاة وقيل: أربعين درهماً لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» أخرجه أبو داود وكانت الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهماً الصنف الثالث قوله سبحانه وتعالى: {والعالمين عليها} وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر وبه. قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات. وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي يقول: هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل لنا الصدقة وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} وهم قسمان: قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم الأول هم قوم من أشراف العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤلاء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في الإسلام وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في الإسلام وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفاً لقومهم ترغيباً لأمثالهم في الإسلام فيجوز للإمام أن يعطي أمثال هؤلاء من خمس خمس الغنيمة والفيء من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات أيضاً.
القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤلاء الذين بإزائهم من المسلمين لا يجاهدونهم لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة قلوبهم ومن هؤلاء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى الإمام فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل الله. روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيراً وأما مؤلفة الكفار فهم قوم يخشى شرهم أو يرجى إسلامهم فيجوز للإمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسلامه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام أما اليوم فقد أعز الله الإسلام وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من المشركين فلا يعطى مشرك تألفاً بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه. وقال قوم: سهمهم ثابت لم يسقط. يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس قوله سبحانه وتعالى: {وفي الرقاب} قال الزجاج: فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير الرقاب أقوال الأول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، القول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال لا بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله في الرقاب يقتضي التبعيض. القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعقتوا من الزكاة. قال أصحابنا: الأحوط في سهم الرقاب أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدمة بلام الملك فقال: إنما الصدقات للفقراء.
وقال: في الصنف الخامس وفي الرقاب فلابد لهذا الفرق من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في تخليص رقابهم من الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى: {والغارمين} أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين غرماً لكونه شاقاً على الإنسان والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا لأنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرسلاً لأن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلاً بمعناه أما من كان دينه في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئاً الصنف السابع قوله تعالى: {وفي سبيل الله} يعني وفي النفقة في سبيل الله وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري ولا يعطى من سهم الله لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال لأن قوله وفي سبيل الله عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه. الصنف الثامن قوله سبحانه وتعالى: {وابن السبيل} يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق قال الشاعر:
أنا ابن الحرب ربتني وليداً ** إلى أن شبت واكتهلت لداتي

فكل مريد سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال، وقال قتادة: ابن السبيل هو الضيف وقال فقهاء العراق: ابن السبيل هو الحاج المنقطع.
وقوله تعالى: {فريضة من الله} يعني أن هذه الأحكام التي ذكرها في الآية فريضة واجبة من الله وقيل فرض الله هذه الأشياء فريضة {والله عليم} يعني بمصالح عباده {حكيم} يعني فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقض ولا خلل.
المسألة الرابعة: في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز صرفها كلها إلى بعض الأصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعض الأصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال: يجب أن يقسم زكاة ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء لأن سهم المؤلفة ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من الأصناف الستة لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منه ثلاثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثلاثة جاز فإن لم يجد من بعض الأصناف إلا واحداً دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد الاستحقاق فإن انتهت حاجة وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز لأن الله سبحانه وتعالى إنما سمى هذه الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الثمانية إلا إيجاباً منه لقسمتها بينهم جميعاً وهذا قول عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل. قال أحمد بن حنبل: يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى. وقال إبراهيم النخعي: إن كان المال كثيراً يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلاً وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله شيئاً من الصدقة فلا يعطي بعده شيئاً وإن كان محترفاً لكنه لا يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فالاعتبار عند الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يدفع الحاجة من غير حد.
وقال أحمد بن حنبل: لا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطى رجل واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه فقيراً فبان أنه غني فهل يجزئ فيه قولان ولا يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطى والداً وإن علا ولا ولداً وإن سفل ولا زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فلا يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا آل بيت لا تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم ولا تحرم على بني المطلب دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وتحرم الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله صلى الله عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك لا تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن الله سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان والله أعلم.