فصل: تفسير الآيات (5- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (5- 7):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)}
{هو الذي جعل الشمس ضياء} يعني ذات ضياء {والقمر نوراً} يعني ذا نور.
واختلف العلماء أصحاب الكلام في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض، والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة فالنور اسم لأصل هذه الكيفية والضوء اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية فلهذا خص الشمس بالضياء لأنها أقوى وأكمل من النور وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما لو تساوياً لم يعرف الليل من النهار فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر {وقدَّره منازل} قيل: الضمير في وقدَّره يرجع إلى الشمس والقمر والمعنى قدر لهما منازل أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانهما في السير ولا يقصران عنهما وإنما وحد الضمير في وقدره للإيجاز أو اكتفى بذكر أحدهما دون الآخر فهو كقوله سبحانه وتعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} وقيل: الضمير في وقدره يرجع إلى القمر وحده لأن سير القمر في المنازل أسرع وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي السنة القمرية لا الشمسية. ومنازل القمر ثمان وعشرون منزلة: وهي الشرطين، والبطين، والثرايا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف والجبهة، والزبرة، والصفرة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت، فهذه منازل القمر وهي مقسومة على اثني عشر برجاً وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، لكل برج منزلان وثلث منزل وينزل القمر كل ليلة منزلاً منهما إلى انقضاء ثمانية وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين وإن كان تسعاً وعشرين اختفى ليلة واحدة {لتعلموا عدد السنين} يعني قدر هذه المنازل لتعلموا بها عدد السنين ووقت دخولها وانقضائها {والحساب} يعني: ولتعلموا حساب الشهور والإيام والساعات ونقصانها وزيادتها {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} يعني للحق وإظهار قدرته ودلائل وحدانيته ولم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً {يفصل الآيات لقوم يعلمون} يعني يبين دلائل التوحيد بالبراهين القاطعة لقوم يستدلون بها على قدرة الله ووحدانيته {إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون} تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها {إن الذين لا يرجون لقاءنا} يعني لا يخافون لقاءنا يوم القيامة فهم مكذبون بالثواب والعقاب والرجاء يكون بمعنى الخوف تقول العرب: فلان لا يرجو فلاناً بمعنى: لا يخافه، ومنه قوله سبحانه وتعالى ما لكم لا ترجون الله وقاراً ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

أي لم يخفه. والرجاء يكون بمعنى الطمع، فيكون المعنى: لا يطمعون في ثوابنا {ورضوا بالحياة الدنيا} يعني: اختاروها وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها {واطمأنوا بها} يعني وسكنوا إليها مطمئنين فيها وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار من الميل إلى الدنيا ولذاتها أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم {والذين هم عن آياتنا غافلون} قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد.
وقال ابن عباس: عن آياتنا يعني عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ غافلون: أي معرضون.

.تفسير الآيات (8- 11):

{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} يعني: من الكفر والتكذيب والأعمال الخبثية.
قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} يعني يهديهم ربهم إلى الجنان ثواباً لهم بإيمانهم وإعمالهم الصالحة وقال مجاهد: يهديهم على الصراط إلى الجنة: يجعل لهم نوراً يمشون به.
وقال قتادة: بلغنا أن المؤمن إذا خرج من قبره يصور له عمله في صورة حسنة فيقول له: من أنت فيقول: أنا عملك. فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر بالضد، فلا يزال به عمله حتى يدخله النار وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى أن الله يزيدهم هداية بخصائص ولطائف وبصائر ينور بها قلوبهم ويزيل بها الشكوك عنهم ويجوز أن يكون المعنى ويثبتهم على الهداية وقيل معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم {تجري من تحتهم الأنهار} يعني بين أيديهم ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم فهو كقوله سبحانه وتعالى: {قد جعل ربك تحتك سرياً} لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه بل أراد بين يديها. وقيل: تجري بأمرهم {في جنات النعيم} يعني ذلك لهم جنات النعيم {دعواهم فيها} أي قولهم وكلامهم فيها. وقيل: الدعوى بمعنى الدعاء أي دعاؤهم فيها {سبحانك اللهم} وهي كلمة تنزيه لله تعالى من كل سوء ونقيصة. قال أهل التفسير: هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا: سبحانك اللهم فيأتونهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تبارك وتعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وقيل: إن المراد بقوله سبحانك اللهم اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم وابتهاجهم وكمال لذتهم ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد» أخرجه مسلم.
قوله جشاء أي يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقاً.
وقوله سبحانه وتعالى: {وتحيتهم فيها سلام} يعني يحيي بعضهم بعضاً بالسلام. وقيل: تحييهم الملائكة بالسلام وقيل تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب وأنهم إذا اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك الله فيحضر ذلك الشيء وإذا فرغوا منه.
قالوا: الحمد لله رب العالمين فترفع الموائد عند ذلك وقال الزجاج: أعلم الله أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكره والثناء عليه. وقيل: إنهم يفتتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد. وقيل: إنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث قوله سبحانه وتعالى: {ولو يعجل الله للناس الشر} يعني ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر بما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال. قال ابن عباس: هذا في قول الرجل لأهله وولده عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم. وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه {استعجالهم بالخير} يعني كاستعجالهم بالخير وكما يحبون أن يعجل لهم إجابة دعائهم بالخير {لقضي إليهم أجلهم} يعني لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعاً والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته والاستعجال طلب العجلة.
وقال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال يقال لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم يعني: لفرغ من هلاكهم ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له في الشر. وقيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فعلى هذا يكون المعنى ولو يعجل الله للكافرين العذاب كما عجل لهم خير الدنيا من المال والولد لعجل قضاء آجالهم ولهلكوا جميعاً ويدل على صحة هذا القول قوله سبحانه وتعالى: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا} يعني فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت {في طغيانهم} يعني في تمردهم وعتوهم {يعمهون} يعني يترددون.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة».

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
{وإذا مس الإنسان الضر} أي الشدة والجهد والمراد بالإنسان في هذه الآية الكافر {دعانا لجنبه} أي على جنبه مضطجعاً {أو قاعداً أو قائماً} يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا ينفك عن إحدى هذه الحالات الثلاث والمعنى أن المضرور لا يزال داعياً في جميع حالاته إلى أن ينكشف ضره سواء كان مضطجاً أو قائماً أو قاعداً وهذا القول فيه بعد لأن ذكر الدعاء إلى هذه الأحوال أقرب من ذكر الضر {فلما كشفنا عنه ضره} يعني فلما أزلنا عنه ما نزل به من الضر ودفعنا عنه {مر} يعني على طريقته الأولى قبل مس الضر {كأن لم يدعنا} فيه حذف تقديره كأنه لم يدعنا وإنما أسقط الضمير على سبيل التخفيف {إلى ضر مسه} والمعنى أنه استمر على حالته الأولى قبل أن يمسه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} يعني مثل ما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح كذلك زين للمسرفين والمزين هو الله سبحانه وتعالى لأنه مالك الملك والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيف يشاء وقيل المزين هو الشيطان وذلك بأقدار الله إياه على ذلك والمسرف هو المجاوز الحد في كل شيء وإنما سمي الكافر مسرفاً لأنه أتلف نفسه ويضعها في عبادة الأصنام وأتلف ماله وضيعه في البحائر والسوائب وما كانوا ينفقونه على الأصنام وسدنتها يعني خدامها. وقال ابن جريج: في قوله كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون يعني من الدعاء عند المصيبة وترك الشكر عند الرخاء. وقيل: كما زين لكم أعمالكم كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم. وبيان مقصود الآية أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند حصول النعماء والرخاء فإذا مسه الضر أقبل على الدعاء والتضرع في جميع حالاته مجتهداً في الدعاء طالباً من الله إزالة ما نزل به من المحنة والبلاء فإذا كشف الله ذلك عنه أعرض عن الشكر ورجع إلى ما كان عليه أولاً وهذه حالة الغافل الضعيف اليقين فأما المؤمن العاقل فإنه بخلاف ذلك فيكون صابراً عند البلاء شاكر الله عند الرخاء والنعماء كثير التضرع والدعاء في جميع أوقات الراحة والرفاهية وهاهنا مقام أعلى من هذا وهو أن المؤمن إذا ابتلي ببلية أو نزل به مكروه يكون مع صبره على ذلك راضياً بقضاء الله غير معرض بالقلب عنه بل يكونه شاكراً لله عز وجل في جميع أحواله وليعلم العبد المؤمن أن الله تبارك وتعالى مالك الملك على الإطلاق حكيم في جميع أفعاله وله التصرف في خلقه بما يشاء ويعلم أنه إن أبقاه على تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل.
قوله سبحانه وتعال: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم} يعني أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم يخوف بذلك كفارة مكة {لما ظلموا} يعني لما أشركوا {وجاءتهم رسلهم بالبينات} يعني فكذبوهم {وما كانوا ليؤمنوا} يعني: هذه الأمم برسلهم ويصدقوهم بما جاؤوا به من عند الله {كذلك نجزي القوم المجرمين} يعني: كما أهلكنا الأمم الخالية لما كذبوا رسلهم كذلك نهلككم أيها المشركون بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} الخطاب لأهل مكة الذين أرسل فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم {لننظر كيف تعملون} يعني خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب أعمالكم والنظر هنا بمعنى العلم يريد لنختبر أعمالكم وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون. قال أهل المعاني: معنى النظر، هو طلب العلم وجاز في وصف الله سبحانه وتعالى إظهاراً للعدل لأنه سبحانه وتعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله تبارك وتعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} ذكره الواحدي والرازي.
(م) عن سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خصرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء» أخرجه مسلم قوله فاتقوا الدنيا معناه احذروا فتنة الدنيا واحذروا فتنة النساء.

.تفسير الآيات (15- 17):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
قوله سبحانه وتعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} يعني وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتابنا الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات يعني واضحات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوتك {قال الذين لا يرجون لقاءنا} يعني قال هؤلاء المشركون الذين لا يخافون عذابنا ولا يرجون ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وكل من كان منكراً للبعث فإنه لا يرجوا ثواباً ولا يخاف عقاباً {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} قال قتادة: قال ذلك مشركو مكة، وقال مقاتل: هم خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام، قال هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن غير هذا ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزله الله عليك فقل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالاً ومكان حلال حراماً.
قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء وهو قولهم لو جتنا بقرآن غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم السخرية والاستهزاء. الثاني: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كان كاذباً في قوله: إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله. ومعنى قوله: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} يحتمل أن يأتي بقرآن آخر مع وجود هذه القرآن ولتبديل لا يكون إلا مع وجوده وهو أن يبدل بعض آياته بغيرها كما طلبوه ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يجيبهم بقوله: {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} يعني أن هذا الذي طلبتموه من التبديل ليس إليّ وما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي ولم أومر به {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} يعني فيما آمركم به أو أنهاكم عنه وما أخبركم إلا ما يخبرني الله به وإن الذي أتيتكم به هو من عند الله لا من عندي {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} أي: قل لهم يا محمد إني أخشى من الله إن خالفت أمره أو غيرت أحكام كتابه أو بدلته فعصيته بذلك أن يعذبني بعذاب عظيم في يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت.
قوله سبحانه وتعالى: {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله {لو شاء الله ما تلوته عليكم} يعني لو شاء الله لم ينزل علي هذا القرآن ولم يأمرني بقراءته عليكم {ولا أدراكم به} قال ابن عباس: ولا أدراكم الله به ولا أعلمكم به {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله} يعني فقد مكثت فيكم قبل أن يوحى إلي هذا القرآن مدة أربعين سنة لم آتكم بشيء ووجه هذا الاحتجاج أن كفار مكة كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وعلموا أحواله وأنه كان أمياً لم يطالع كتاباً ولا تعلم من أحد مدة عمره قبل الوحي وذلك أربعون سنة ثم بعد الأربعين جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والآداب ومكارم الأخلاق والفصاحة والبلاغة ما أعجز البلغاء والفصحاء عن معارضته فكل من له عقل سليم وفكر ثاقب يعلم أن هذا لم يحصل إلا بوحي من الله تعالى لا من عند نفسه وهو قوله: {أفلا تعقلون} يعني أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ لا من قبل نفسي.
(ق) عن ابن عباس قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين ثم توفي صلى الله عليه وسلم: في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وفي رواية أن النبي أقام بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً وثمان سنين يوحى إليه وأقام بالمدينة عشراً أو توفي وهو ابن خمس وستين سنة أخرجاه في الصحيحين.
(ق) عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة.
أخرجاه في الصحيحين.
(م) عن أنس قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين وعمر وهو ابن ثلاث وستين أخرجه مسلم.
(ق) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ليس بجعد قطط ولا سبط رجل أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي وبالمدينة عشراً وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعره بيضاء. أخرجاه في الصحيحن قال الشيخ محيي الدين النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات إحداها أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهو أصحها وأشهرها رواها مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس واتفق العلماء على أن أصحها ثلاث وستون سنة وتأولوا الباقي عليه فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس متأولة أيضاً بأنها حصل فيها اشتباه.
قوله: يسمع الصوت، يعني صوت الهاتف من الملائكة ويرى الضوء يعني شوء الملائكة أو نور آيات الله حتى رأى الملك بعينه وشافه بالوحي من الله عز وجل وقوله ليس بالأبيض الأمهق المراد به الشديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهم الناظر أنه برص. والمراد: أننه كان أزهر اللون البياض والحمرة.
قوله عز وجل: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} يعني فزعم أن له شريكاً وولداً والمعنى: أني لم أفتر على الله كذباً ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله وأنتم قد افترتيم على الله الكذب فزعمتم أن له شريكاً وولداً والله تعالى منزه عن الشريك والولد وقيل: معناه إن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني من حيث إني أفتريته على الله ولما كان هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ وجب أن يقال ليس أحد في الدنيا أجهل ولا أظلم على نفسه منكم من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله فقد كذبتم بآياته وهو قوله تعالى: {أو كذب بآياته} يعني جحد بكون القرآن من عند الله وأنكر دلائل التوحيد {إنه لا يفلح المجرمون} يعني المشركون وهذا وعيد وتأكيد لما سبق.