فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (36- 40):

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}
{وما يتبع أكثرهم إلا ظناً} يعني: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته بل هم في شك منه وريبة وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميع المشركين يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم وقيل المراد بالأكثر الرؤساء {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئاً ولا يقوم مقامه وقيل في الآية إن قولهم إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم ظن منهم لم يرد به كتاب ولا يعني أنها لا تدفع عنهم من عذاب الله شيئاً {إن الله عليم بما يفعلون} يعني من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين.
قوله تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} يعني وما كان ينبغي لهذا القرآن أن يختلف ويفتعل لأن معنى الافتراء الاختلاق والمعنى ليس وصف القرآن وصف شيء ممكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر وذلك أن كفار مكة زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق فأخبر الله عز وجل أن هذا القرآن وحي أنزل الله عليه وأنه مبرأ من الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يؤكد هذا بقوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه} يعني ولكن الله أنزل هذا القرآن مصدقاً لما قبله من الكتب التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل. وتقرير هذا، أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بها القرآن العظيم المعجز وفيه أخبار الأولين وقصص الماضين وكل ذلك موافق لما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة قبله ولو لم يكن كذلك لقدحوا فيه لعداوة أهل الكتاب له ولما لم يقدح فيه أحد من أهل الكتاب علم بذلك أن ما فيه من القصص والأخبار مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع القطع بأنه ما علم ما فيها فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله عليه وأنه مصدق لما بين يديه وأنه معجزة له صلى الله عليه وسلم. وقيل في معنى قوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه} يعني من أخبار الغيوب الآتية، فإنها جاءت على وفق ما أخر {وتفصيل الكتاب} يعني وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام {لا ريب فيه من رب العالمين} يعني أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من رب العالمين وأنه ليس مفترى على الله وأنه لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله وهو قوله سبحانه وتعالى: {أم يقولون افتراه} يعني أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمد هذا القرآن وخلقه من قبل نفسه وهو استفهام إنكار وقيل أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه {قل} أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون {فأتوا بسورة مثله} يعني بسورة شبيهة به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي في الفصاحة والبلاغة.
فإن قلت: قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة فأتوا بسورة من مثله وقال سبحانه وتعالى هنا فأتوا بسورة مثله فما فائدة ذلك وما الفرق بينهما.
قلت لما كان محمداً صلى الله عليه وسلم أمياً لم يقرأ ولم يكتب وأتى بهذا القرآن العظيم كان معجزاً في نفسه فقيل لهم فأتوا بسورة من مثله يعني: مع إنسان أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم الكتابة والقرآءة.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {فأتوا بسورة مثله} أي فأتوا بسورة تساوي سورة القرآن في الفصاحة والبلاغة وهو المراد بقوله فأتوا بسورة مثله يعني أن السورة في نفسها معجزة فإن الخلق لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه وهو المراد من قوله: {وادعوا من استطعتم من دون الله} يعني وادعوا للاستعانة على ذلك من استطعتم من خلقه {إن كنتم صادقين} يعني في قولكم إن محمداً افتراه ثم قال تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} يعني القرآن. أي: كذبوا بما لم يعلموه. قال عطاء: يريد أنه ليس خلق يحيط بجميع علوم القرآن. وقيل: معناه بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها مما لم يحيطوا بعلمه، لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله. وقيل: إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص وأخبار الأمم الخالية ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك أنكروها لجهلهم فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة لا يقدر أحد على استيعابها وتحصيلها {ولما يأتهم تأويله} يعني أنهم كذبوا به ولم يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في القرآن به من العقوبة. والمعنى: أنهم لم يعلموا ما تؤول إليه عاقبة أمرهم. وقيل: معناه أنهم لم يعلموه تنزيلاً ولا علموه تأويلاً فكذبوا به وذلك لأنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله {كذلك كذب الذين من قبلهم} يعني كما كذب هؤلاء بالقرآن كذلك كذب الأمم الماضية أنبياءهم فيما وعدوهم به {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: فانظر يا محمد كيف كان عاقبة من ظلم من الأمم كذلك تكون عاقبة من كذبك من قومك ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس.
والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم فاحذر أن تفعل مثل فعله.

.تفسير الآيات (41- 45):

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)}
{وإن كذبوك} يعني وإن كذبك قومك يا محمد {فقل} أي فقل لهم {لي عملي} يعني الطاعة وجزاء ثوابها {ولكم عملكم} يعني الشرك وجزاء عقابه {أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون} قيل: المراد منه الزجر والرجوع. وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الإمام فخر الدين الرازي: وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً الحكم المنسوخ. ومدلول الآية: اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى: {ومنهم} يعني ومن هؤلاء المشركين {من يستمعون إليك} يعني بأسماعهم الظاهرة ولا ينفعهم ذلك لشدة بغضهم وعداوتهم لك {أفأنت تسمع الصم} يعني كما أنك لا تقدر على إسماع الصم فكذلك لا تقدر على إسماع من أصم الله سمع قلبه {ولو كانوا لا يعقلون} يعني أن الله سبحانه وتعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يسمعون ولم يوفقهم لذلك فهم بمنزلة الجهال إذا لم ينتفعوا بما لم يسمعوا وهم أيضاً كالصم الذين لا يعقلون شيئاً ولا يفهمونه لعدم التوفيق {ومنهم من ينظر إليك} يعني بأبصارهم الظاهرة {أفأنت تهدي العمي} يريد عمي القلوب {ولو كانوا لا يبصرون} لأن الله أعمى بصائر قلوبهم فلا يبصرون شيئاً من الهدى وفي هذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ولا تقدر أن تهدي من سلبته البصر ولا تقدر أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون}.
قال العلماء: لما حكم الله عز وجل على أهل الشقوة بالشقاوة لقضائه وقدره السابق فيهم أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقاوة عليهم ما كان ظلماً منه لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيدة وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالماً وإنما قال ولكن الناس أنفسهم يظلمون لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم.
قوله سبحانه وتعالى: {ويوم يحشرهم} يعني: واذكر يا محمد يوم نجمع هؤلاء المشركين لموقف الحساب. وأصل الحشر: إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} يعني كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من النهار. وقيل: معناه كأنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار. والوجه الأول أولى، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار لبثهم في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمله على أمر يختص بحال الكافر وهو أنهم لما لم ينتفعوا بأعمارهم في الدنيا استقلوها.
والمؤمن لما انتفع بعمره في الدنيا لم يستقله. وسبب استقلال الكفار: مدة مقامهم في الدنيا أنهم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على ما فيها ولم يعملوا بطاعة الله فيها كان وجود ذلك كالعدم فلذلك استقلوه. وقيل: إنهم لما شاهدوا أهوال يوم القيامة وطال عليهم ذلك، استقلوا مدة مقامهم في الدنيا، لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جداً {يتعارفون بينهم} يعني: يعرف بعضهم بعضاً إذا خرجوا من قبورهم كما كانوا يتعارفون في الدنيا ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، وفي بعض الآثار: أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ولا يقدر أن يكلمه هيبة وخشية، وقيل: إن أحوال يوم القيامة مختلفة ففي بعضها يعرف بعضها بعضاً وفي بعضها ينكر بعضهم بعضاً لهول ما يعاينون في ذلك اليوم {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} يعني أن من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه أثر الفاني على الباقي {وما كانوا مهتدين} يعني إلى ما يصلحهم وينجيهم من هذا الخسار.

.تفسير الآيات (46- 50):

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
{وإما نرينك} يعني يا محمد {بعض الذي نعدهم} يعني ما نعدهم به من العذاب في الدنيا فذاك {أو نتوفينك} قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى: {فإلينا مرجعهم} يعني في الآخرة وفيه دليل على أن الله يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعاً من عذاب الكافرين وذلهم وخزيهم في حال حياته في الدنيا وقد أراه ذلك في يوم بدر وغيره من الأيام وسير به ما أعد لهم من العذاب في الآخرة بسبب كفرهم وتكذيبهم {ثم الله شهيد على ما يفعلون} فيه وعيد وتهديد لهم يعني أنه سبحانه وتعالى شاهد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة.
قوله عز وجل: {ولكل أمة رسول} لما بيَّن الله عز وجل حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بيَّن أن حال الأنبياء مع أممهم كذلك فقال تعالى: وكل أمة، يعني قد خلت وتقدمت قبلكم، رسول يعني: مبعوثاً إليهم يدعو إلى الله وإلى طاعته والإيمان به {فإذا جاء رسولهم} في هذا الكلام إضمار تقديره، فإذا جاءهم رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون {قضي بينهم بالقسط} يعني حكم بينهم بالعدل وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما: أنه في الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى كل أمة رسولاً لتبليغ الرسالة وإقامة الحجة وإزالة العذر فإذا كذبوا رسلهم وخالفوا أمر الله قضى بينهم، وبين رسلهم في الدنيا فيهلك الكافرين وينجي رسلهم والمؤمنين ويكون ذلك عدلاً لا ظلماً لأن قبل مجيء الرسول لا يكون ثواباً ولا عقاباً.
القول الثاني: إن وقت القضاء في الآخرة وذلك أن الله إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والقضاء بينهم والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم. والمراد من ذلك، المبالغة في إظهار العدل، وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} يعني من جزاء أعمالهم شيئاً ولكن يجازي كل أحد على قدر عمله. وقيل: معناه أنهم لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم {ويقولون} يعني هؤلاء الكفار {متى هذا الوعد} يعني الذي تعدنا به يا محمد من نزلو العذاب وقيل قيام الساعة، وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد {إن كنتم صادقين} يعني فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك أو يكون المعنى: إن كنتم صادقين أنت وأتباعك يا محمد أوذكروه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم {قل} أي: قل لهم يا محمد {لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً} يعني لا أملك لنفسي دفع ضر أو جلب نفع ولا أقدر على ذلك {إلا ما شاء الله} يعني أن أقدر عليه أو أملكه.
والمعنى: أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصر للأولياء وعلم قيام الساعة لا يقدر عليه إلا الله فتعيين الوقت إلى الله سبحانه وتعالى بحسب مشيئته ثم إذا حضر ذلك الوقت الذي وقته الله لحدوث هذه الأشياء فإنه يحدث لا محالة وهو قوله سبحانه وتعالى: {ولكل أمة أجل} أي مدة مضروبة ووقت معين {إذا جاء أجلهم} يعني إذا انقضت مدة أعمارهم {فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني لا يتأخرون عن ذلك الأجل الذي أجل لهم ولا يتقدمونه {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك {أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً} يعني ليلاً يقال بات يفعل كذا إذا فعل بالليل والسبب فيه إن الإنسان في الليل لا يكون إلا في البيت غالباً فجعل الله هذه اللفظة كناية عن الليل {أو نهاراً} يعني في النهار {ماذا يستعجل منه المجرمون} يعني ما الذي يستعجلون من نزول العذاب وقد وقعوا فيه وحقيقة المعنى أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} يعني أي شيء يعلم المجرمون ما يطلبون ويستعجلون كما يقول الرجل لغيره وقد فعل فعلاً قبيحاً ماذا جنيت على نفسك.

.تفسير الآيات (51- 56):

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
{أثمّ إذا ما وقع} يعني إذا ما نزل العذاب ووقع {آمنتم به} يعني آمنتم بالله وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس وقيل معناه صدقتم بالعذاب عند نزوله ودخلت همزة الاستفهام على ثم للتوبيخ والتقريع {آلآن} فيه إضمار تقديره يقال لهم آلآن تؤمنون أي حين وقوع العذاب {وقد كنتم به تستعجلون} يعني تكذيباً واستهزاء {ثم قيل للذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بسبب شركهم وكفرهم بالله {ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} يعني في الدنيا من الأعمال.
قوله سبحانه وتعالى: {ويستنبئونك أحق هو} يعني ويستخبرونك يا محمد أحق ما تعدنا به من نزول العذاب وقيام الساعة {قل إي وربي} أي قل لهم يا محمد نعم وربي {إنه لحق} يعني إن الذي أعدكم به حق، لا شك فيه {وما أنتم بمعجزين} يعني بفائتين من العذاب لأن من عجز عن شيء فقد فاته {ولو أن لكل نفس ظلمت} يعني أشركت {ما في الأرض} يعني من شيء {لافتدت به} يعني يوم القيامة. والافتداء: بمعنى البذل لما ينجو به من العذاب إلا أنه لا ينفعه الفداء ولا يقبل منه {وأسرّوا الندامة} يعني يوم القيامة، وإنما جاء بلفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة، لأن أحوال يوم القيامة لما كانت واجبة الوقوع، جعل الله مستقبلها كالماضي والإسرار يكون بمعنى الإخفاء وبمعنى الإظهار فهو من الأضداد، فلهذا اختلفوا في قوله: {وأسروا الندامة} فقال أبو عبيدة: معناه وأظهروا الندامة لأن ذلك اليوم ليس يوم تصبر وتصنع. وقيل: معناه أخفوا، يعني أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء والأتباع خوفاً من ملامتهم إياهم وتعبيرهم لهم {لما رأوا العذاب} يعني: حين عاينوا العذاب وأبصروه {وقضي بينهم بالقسط} يعني وحكم بينهم بالعدل قيل بين المؤمن والكافر وقيل: بين الرؤساء والأتباع. وقيل: بين الكفار لاحتمال أن بعضهم قد ظلم بعضاً فيؤخذ للمظلوم من الظالم وهو قوله سبحانه وتعالى: {وهم لا يظلمون} يعني في الحكم لهم وعليهم بأن يخفف من عذاب المظلوم ويشدد في عذاب الظالم {ألا إن لله ما في السموات والأرض} يعني أن كل شيء في السموات والأرض لله ملك له لا يشركه فيه غيره فليس للكافر شيء يفتدي به من عذاب الله يوم القيامة لأن الأشياء كلها لله وهو أيضاً ملك لله فكيف يفتدي من هو مملوك لغيره بشيء لا يملكه {ألا إن وعد الله حق} يعني ما وعد الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ثواب الطائع وعقاب العاصي حق لا شك فيه {ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني حقيقة ذلك {هو يحيي ويميت} يعني الذي يملك ما في السموات والأرض قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد {وإليه ترجعون} يعني بعد الموت للجزاء.