فصل: تفسير الآيات (18- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (18- 20):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)}
قوله عز وجل: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} يعني أي الناس أشد تعدياً ممن اختلق على الله كذباً فكذب عليه وزعم أن له شريكاً أو ولداً وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله تعالى: {ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً} ورد في معرض المبالغة {أولئك} يعني المفترين على الكذب {يعرضون على ربهم} يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا {ويقول الأشهاد} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، قاله مجاهد وقال ابن عباس: هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة: الأشهاد الخلق كلهم {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} يعني: في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله {ألا لعنة الله على الظالمين} يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته.
(ق) عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرب رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» وفي رواية «ثم تطوى صحيفة حسناته» وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية «فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» قوله سبحانه وتعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله} هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام {ويبغونها عوجاً} يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام {وهم بالآخرة هم كافرون} يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه {أولئك} يعني من هذه صفتهم {لم يكونوا معجزين في الأرض} قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم {وما كان لهم من دون الله من أولياء} يعني وما كان لهؤلاء المشركين من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءاً وعذاباً {يضاعف لهم العذاب} يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} قال قتادة صموا عن سمع الحق فلا يسمعون خيراً فينتفعون به ولا يبصرون خيراً فيأخذون به.
وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم.

.تفسير الآيات (21- 26):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
{أولئك الذين خسروا أنفسهم} يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله {وضل عنهم ما كانوا يفترون} يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم {لا جرم} يعني حقاً وقال الفراء لا محالة {أنهم في الآخرة هم الأخسرون} لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين.
قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم} لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عز وجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات الخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمل الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع {أولئك} يعني الذين هذه صفتهم {أصحاب الجنة هم فيها خالدون} أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال.
قوله سبحانه وتعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلاً فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكفارين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئاً البتة، والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها، والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه {هل يستويان مثلاً} قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن {أفلا تذكرون} يعني فتتعظون.
قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين} يعني أن نوحاً عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالفة أمر الله وعبد غيره؛ وهو قوله سبحانه وتعالى: {أن لا تعبد وا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} يعني مؤلم موجع قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفاً وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو يومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.

.تفسير الآيات (27- 30):

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح {ما نراك} يا نوح {إلا بشراً مثلنا} يعني آدمياً مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بني آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخباراً عن قوم نوح {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالاو ذلك جهلاً منهم أيضاً لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين {بادي الرأي} يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك، ولو تفكروا ما اتبعوك.
وقيل: معناه ظاهر الرأي، يعني أنهم اتبعوك من غير أن تفكروا باطناً {وما نرى لكم علينا من فضل} يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضاً جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة {بل نظنكم كاذبين} قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم {قال} يعني نوحاً {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به {وآتاني رحمة من عنده} يعني هدياً ومعرفة ونبوة {فعميت عليكم} يعني خفيت وألبست عليكم {أنلزمكموها} الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا {وأنتم لها كارهون} وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً} يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً {إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا} وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون {إنهم ملاقو ربهم} فلا أطردهم {ولكني أراكم قوماً تجهلون} يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم} يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون {أفلا تذكرون} يعني فتتعظون.

.تفسير الآيات (31- 36):

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله} هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالاً والمعنى لا أسألكم عليه مالاً ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جواباً من نوح عليه السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيباً لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله: {ولا أعلم الغيب} يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله {ولا أقول إني ملك} وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.
فصل:
استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحاً عليه السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وافضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحاً عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى: {ولا أقول إني ملك} ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة {لن يؤتيهم الله خيراً} يعني توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً {الله أعلم بما في أنفسهم} يعني من الخير والشر {إني إذاً لمن الظالمين} يعني إن طردتهم مكذباً لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من الظالمين {قالوا يا نوح قد جادلتنا} يعني خاصمتنا {فأكثرت جدالنا} يعني خصومتنا {فأتنا بما تعدنا} يعني من العذاب {إن كنت من الصادقين} يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا {قال إنما يأتيكم به الله إن شاء} يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم {وما أنتم بمعجزين} يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم} يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب {إن كان الله يريد أن يغويكم} يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك {هو ربكم} يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه {وإليه ترجعون} يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم {أم يقولون افتراه} أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به {قل إن افتريته} أي اختلقته {فعلي إجرامي} أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله {وأنا بريء مما تجرمون} يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام وقال مقاتل {أم يقولون} يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخاً منهم جاء متكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن {فلا تبتئس} يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم {بما كانوا يفعلون} يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحاً فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه فإذا فاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكا نوح إلى الله عز وجل فقال يا رب {أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه.