فصل: تفسير الآيات (109- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (109- 111):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
قوله سبحانه وتعالى: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} يعني فلا تك في شك يا محمد في هذه الأصنام التي يعبد ها هؤلاء الكفار فإنها لا تضر ولا تنفع {ما يعبد ون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل} يعني أنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند إلا أنهم رأوا آباءهم يعبد ونها فعبد وها مثلهم {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} يعني وإنا مع عبادتهم هذه الأصنام نرزقهم الرزق الذي قدرناه لهم من غير نقص فيه ويحتمل أن يكون المراد من توفية نصيبهم يعني من العذاب الذي قدر لهم في الآخرة كاملاً موفراً غير ناقص.
قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {فاخلتف فيه} يعني في الكتاب فمنهم مصدق به ومكذب به كما فعل قومك يا محمد بالقرآن ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {ولولا كلمة سبقت من ربك} يعني بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقونه من تعجيل العقوبة في الدنيا على كفرهم وتكذيبهم وهو قوله تبارك وتعالى: {لقضي بينهم} يعني لعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم {وإنهم لفي شك منه} يعني من القرآن ونزوله عليك يا محمد {مريب} يعني أنهم قد وقعوا في الريب والتهمة {وإن كلاًّ} يعني من الفريقين المختلفين المصدق والمكذب {لما ليوفينهم ربك أعمالهم} اللام لام القسم تقديره والله ليوفينهم جزاء أعمالهم في القيامة فيجازي المصدق على تصديقه الجنة ويجازي المكذب على تكذيبه النار {إنه بما يعملون خبير} يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت ففيه وعد للمحسنين المصدقين وفيه وعيد وتهديد للمكذبين الكافرين.

.تفسير الآيات (112- 115):

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
قوله سبحانه وتعالى: {فاستقم كما أمرت} الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك والأمر في فاستقم للتأكيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عيها كقولك للقائم قم حتى آتيك أي دُم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك {ومن تاب معك} يعني ومن آمن معك من أمتك فليستقيموا أيضاً على دين الله والعمل بطاعته قال عمر بن الخطاب: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ منه روغان الثعلب.
(م) عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» {ولا تطغوا} يعني ولا تجاوزوا أمري إلى غيره ولا تعصوني وقيل معناه ولا تغلوا في الدين فتجاوزوا ما أمرتكم به ونهيتكم عنه {إنه بما تعملون بصير} يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها قال ابن عباس: ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها.
(خ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» قوله: إن الدين يسر، اليسر ضد العسر وأراد به التسهيل في الدين وترك التشدد فإن هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى فسددوا أي اقصدوا السداد من الأمور وهو الصواب وقاربوا أي اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير والغدوة الرواح بكرة والرواح الرجوع عشياً والمراد منه اعملوا أطراف النهار وقتاً وقتاً والدلجة سير الليل والمراد مه اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً وقوله شيء من الدلجة إشارة إلى تقليله.
وقوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} قال ابن عباس: ولا تميلوا والركون هو المحبة والميل بالقلب، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم، وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة، وعن عكرمة لا تطيعوهم، وقيل: معناه ولا تسكنوا إلى الذين ظلموا {فتمسكم النار} يعني فتصيبكم النار بحرها {وما لكم من دون الله من أولياء} يعني أعواناً وأنصاراً يمنعونكم من عذابه {ثم لا تنصرون} يعني ثم لا تجدون لكم من ينصركم ويخلصكم من عقاب الله غداً في القيامة ففيه وعيد لمن ركن إلى الظلمة أو رضي بأعمالهم أو أحبهم فكيف حال الظلمة في أنفسهم نعوذ بالله من الظلم.
قوله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار} سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمراًَ فقلت إن في البيت تمراً هو أطيب منه فدخلت معي فأهويت إليها فقبلتها فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحى الله إليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إلى قوله ذلك ذكرى للذاكرين} قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة قال: «بل للناس عامة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقيس بن الربيع ضعّفه وكيع وغيره وأبو اليسر هو كعب بن عمرو.
(ق) عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} الآية فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه الآية قال لمن عمل بها من أمتي وفي رواية فقال رجل من القوم يا نبي الله هذه له خاصة قال: «بل للناس كافة» عن معاذ بن جبل قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً لقي امرأة وليس بينهما معرفة فليس يأتي الرجل إلى امرأته شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها قال فأنزل الله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي قال معاذ فقلت يا رسول الله أهي له خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: «بل للمؤمنين عامة؟» أخرجه الترمذي وقال هذا الحديث ليس بمتصل لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ.
أما التفسير فقوله سبحانه وتعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} يعني صلاة الغداة والعشي وقال مجاهد: طرفي النهار يعني صلاة الصبح والظهر والعصر {وزلفاً من الليل} يعني صلاة المغرب والعشاء، وقال مقاتل: صلاة الصبح والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف وزلفاً من الليل يعني صلاة العشاء وقال الحسن طرفي النهار الصبح والعصر وزلفاً من الليل المغرب والعشاء وقال ابن عباس طرفي النهار الغداة والعشي يعني صلاة الصبح والمغرب قال الإمام فخر الدين الرازي: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أن الصلاة التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {وزلفاً من الليل} فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر {وزلفاً من الليل} يعني وأقم الصلاة في زلف من الليل وهي ساعاته واحدتها زلفة وأصل الزلفة المنزلة والمراد بها صلاة المغرب والعشاء {إن الحسنات يذهبن السيئات} يعني إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ويكفرنها.
(م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن زاد في رواية ما لم تغش الكبائر» وزاد في رواية أخرى «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
(ق) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا».
(خ) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات» قال الحسن وما يبقى من الدرن.
قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحات مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر وأما الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب بالكلية.
الثاني: الندم على فعله.
الثالث: العزم التام أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى، وقال مجاهد في تفسير الحسنات إنها قول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والقول الأول أصح أنها الصلوات الخمس وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب ومجاهد في إحدى الروايتين عنه والقرظي والضحاك وجمهور المفسرين {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الاستقامة والتوبة وقيل هو إشارة إلى القرآن {ذكرى للذاكرين} يعني عظة للمؤمنين المطيعين {واصبر} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني واصبر يا محمد على أذى قومك وما تلقاه منهم، وقيل معناه واصبر على الصلاة {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} يعني أعمالهم، قال ابن عباس: يعني المصلين.

.تفسير الآيات (116- 119):

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
قوله سبحانه وتعالى: {فلولا كان من القرون} يعني فهلا كان من القرون التي أهلكناهم {من قبلكم} يعني يا أمة محمد {أولو بقية} يعني أولوا تمييز وطاعة وخير يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير وقيل معناه أولوا بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة {ينهون عن الفساد في الأرض} يعني يقومون بالنهي عن الفساد في الأرض والآية للتقريع والتوبيخ يعني لم يكن فيهم من فيه خير ينهى عن الفساد عن الأرض فلذلك أهلكناهم {إلا قليلاً} هذا استثناء منقطع معناه لكن قليلاً {ممن أنجينا منهم} يعني من آمن الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} يعني واتبع الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ما تنعموا فيه والترف التنعم والمعنى أنهم اتبعوا ما تعودوا به من النعم وإيثار اللذات على الآخرة ونعيمها {وكانوا مجرمين} يعني كافرين {وما كان ربك} يعني وما كان ربك يا محمد {ليهلك القرى بظلم} يعني لا يهلكهم بظلم منه {وأهلها مصلحون} يعني: في أعمالهم ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات، وقيل: في معنى الآية وما كان ربك ليهلك القرى بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعني يعامل بعضهم بعضاً بالصلاح والسداد والمراد من الهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا أما عذاب الآخرة فهو لازم لهم ولهذا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على التضييق والتشديد قوله عز وجل: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} يعني كلهم على دين واحد وشريعة واحدة {ولا يزالون مختلفين} يعني على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل أهل دين من هذه الأديان قد اختلفوا في دينهم أيضاً اختلافاً كثيراً لا ينضبط عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى مثل ذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» أخرجه أبو داود قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم «وستفترق أمتي» فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته وقال غيره المراد بهذه الفرق أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع والأهواء والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
وقوله سبحانه وتعالى: {إلا من رحم ربك} يعني لكن من رحم ربك فمنّ عليه بالهداية والتوفيق إلى الحق، وهداه إلى الدين القويم والصراط المستقيم فهم لا يختلفون {ولذلك خلقهم} قال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم.
قال أشهب: سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم يعني الذين يرحمهم.
وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وخلق أهل الاختلاف للاختلاف، وقيل: خلق الله عز وجل أهل الرحمة للرحمة لئلا يختلفوا وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً فحاصل الآية أن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين فحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة وهم أهل الاتفاق ومصيرهم إلى الجنة ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله تبارك وتعالى: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجميعن} وهذا صريح بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقواماً للجنة وللرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة وخلق أقواماً للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية.

.تفسير الآيات (120- 123):

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
قوله سبحانه وتعالى: {وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} لما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قصص الأمم الماضية والقرون الحالة وما جرى لهم مع أنبيائهم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله وكلاًّ نقص عليك يا محمد من أنباء الرسل يعني من أخبار الرسل وما جرى لهم مع قومهم ما نثبت به فؤادك يعني ما نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه {وجاءك} يا محمد {في هذه الحق} اختلفوا في هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل معناه وجاءك في هذه الدنيا الحق وفيه بعد لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير إليها وقيل في هذه الآية وقيل في هذه السورة وهو الأقرب وهو قول الأكثرين فإن قلت جاءه الحق في سورة القرآن فلم خص هذه السورة بالذكر قلت لا يلزم من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يكون قد جاءه الحق في غيرها من السور بل القرآن كله حق وصدق وإنما خصها بالذكر تشريفاً لها {وموعظمة وذكرى للمؤمنين} أي وهذه السورة موعظة يتعظ بها المؤمنون إذا تذكروا أحوال الأمم الماضية وما نزل بهم {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم} فيه وعيد وتهديد يعني اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة ذلك العمل فهو كقوله: إعملوا ما شئتم {إنا عاملون} يعني ما أمرنا به ربنا {وانتظروا} يعني ما يعدكم به الشيطان {إنا منتظرون} يعني ما يحل بكم من نقمة الله وعذابه إما في الدنيا وإما في الآخرة {ولله غيب السموات والأرض} يعني يعلم ما غاب عن العباد فيهما يعني أن علمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع الأشياء خفيها وجليها وحاضرها ومعدومها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء {إليه يرجع الأمر كله} يعني إلى الله يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة {فاعبد ه} يعني أن من كان كذلك كان مستحقاً للعبادة لا غيره فاعبد ه ولا تستغل بعبادة غيره {وتوكل عليه} يعني وثق به في جميع أمورك فإنه يكفيك {وما ربك بغافل عما تعملون} قال أهل التفسير هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى يحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
قال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود والله أعلم بمراد وأسرار كتابه.