فصل: تفسير الآيات (176- 177):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (176- 177):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
{ذلك بأن الله نزل الكتاب} يعني ذلك العذاب بسب إن الله نزل الكتاب {بالحق} فكفروا به وأنكروه وقيل معناه فعلنا بهم ذلك، لأن الله أنزل الكتاب بالحق فحرفوه فعلى هذا يكون المراد بالكتاب التوراة {وإن الذين اختلفوا في الكتاب} يعني اختلفوا في معانيه وتأويله فحرفونها وبدلوها، وقيل: آمنوا ببعض وكفروا ببعض {لفي شقاق} أي خلاف ومنازعة {بعيد} يعني عن الحق.
قوله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} هذا خطاب لأهل الكتاب لأن النصارى تصلي قبل المشرق واليهود قبل المغرب إلى بيت المقدس، وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكن فيما بينه في هذه الآية. وقال ابن عباس: هو خطاب للمؤمنين وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام إذا أتى بالشهادتين وصلى إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة، أنزل الله هذه الاية فقال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} أي في صلاتكم قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا ذلك {ولكن البر} يعني ما بينته لكم البر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله الموجبة للثواب والمؤدية إلى الجنة ثم بين خصالاً من البر فقال تعالى: {من آمن بالله} أي ولكن البر من آمن بالله فالمراد بالبر هنا الإيمان بالله والتقوى من الله {واليوم الآخر} وإنما ذكر الإيمان باليوم الآخر، لأن عبد ة الأوثان كانوا ينكرون البعث بعد الموت {والملائكة} أي ومن البر الإيمان بالملائكة كلهم لأن اليهود قالوا: إن جبريل عدونا {والكتاب} قيل: أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله: {والنبيين} يعني أجمع وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها {وآتى المال على حبه} يعني من أعمال البر إيتاء المال على حبه قيل إن الضمير راجع إلى المال فالتقدير على هذا وآتى المال على حب المال.
(ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» قوله حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح وإن لم يتقدم لها ذكر وقوله لفلان كذا هو كناية عن الموصى له وقوله وقد كان لفلان كناية عن الوارث وقيل الضمير في حبه راجع إلى الله تعالى أي وآتي المال على حب الله وطلب مرضاته {ذوي القربى} يعني أهل قرابة المعطي وإنما قدمهم لأنهم أحق بالإعطاء.
عن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة» أخرجه النسائي.
(ق) «إن ميمونة رضي الله عنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني اعتقت وليدتي قال أو قد فعلت قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» الوليدة الجارية {واليتامى} اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر وقيل: يقع على الصغير والبالغ أي وآتى الفقراء من اليتامى {والمساكين} جمع مسكين بذلك لأنه دائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له {وابن السبيل} يعني المسافر المنقطع عن أهله سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل هو الضيف ينزل بالرجل لأنه إنما وصل إليه من السبيل وهو الطريق قول والأول أشبه لأن ابن السبيل اسم جامع جعل للمسافر {والسائلين} يعني الطالبين المستطعمين. عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للسائل حق ولو جاء على فرس» أخرجه أبو داود عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» أخرجه مالك في الموطأ عن أم نجيد قالت: قلت يا رسول الله إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئاً أعطيه إياه قال: «إن لم تجدي إلاّ ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ردوا المسكين ولو بظلف محرق» قوله ردوا المسكين، لم يرد به رد الحرمان وإنما أراد به ردوه بشيء تعطونه إياه ولو كان ظلفاً وهو خف الشاة وفي كونه محرقاً مبالغة في قلة ما يعطي {وفي الرقاب} يعني المكاتبين. وقيل: هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأسارى {وأقام الصلاة} يعني المفروضة في أوقاتها {وآتى الزكاة} يعني الواجبة {والموفون بعهدهم} يعني ما أخذه الله من العهود على عباده بالقيام بحدوده والعمل بطاعته. وقيل: أراد بالعهد ما يجعله الإنسان على نفسه ابتداء من نذر وغيره. وقيل: العهد الذي كان بينه وبين الناس مثل الوفاء بالمواعيد وأداء الأمانات {إذا عاهدوا} يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا نذروا أوفوا وإذا حلفوا بروا في أيمانهم وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم صدقوا في أقوالهم وإذا ائتمنوا أدوا {والصابرين في البأساء} أي في الشدة والفقر والفاقة {والضراء} يعني المرض والزمانة {وحين البأس} يعني القتال والحرب في سبيل الله. وسمي الحرب بأساً لما فيه من الشدة.
(ق) عن البراء قال كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا الذي يخاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم قوله احمر البأس: أي اشتد الحرب ونتقي به أي نجعله وقاية لنا من العدو {أولئك الذين صدقوا} أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم {وأولئك هم المتقون}

.تفسير الآية رقم (178):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} نزلت في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية بسبب قتيل، فكانت بينهم قتلى وحروب وجراحات كثيرة، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام. وقيل نزلت في الأوس والخزرج، وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهر، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وأمره بالمساواة فرضوا وسلموا. وقيل: إنما نزلت هذه الآية لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل والعرب في الجاهلية كانوا يوجبون القتل تارة ويوجبون أخذ الدية تارة عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل والعرب في الجاهلية كانوا يوجبون القتل تراة ويوجبون أخذ الدية تارة وكانوا يتعدون في الحكمين فإن وقع القتل على شريف قتلوا بهد عدداً ويأخذون دية الشريف أضعاف دية الخسيس، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أوجب الله رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم} أي فرض عليكم {القصاص في القتلى}. فإن قلت: كيف يكون القصاص فرضاً والولي مخير فيه بين العفو والقصاص وأخذ الدية؟ قلت: إن القصاص فرض على القاتل للولي لا على الولي. وقيل إذا أردتم القصاص فقد فرض عليكم. والقصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل فيفعل به مثل ذلك، فلو قتل رجل رجلاً بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر فمات فيقتل بمثل الذي قتل به وهو قول مالك والشافعي وأحدى الروايتين عن أحمد وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة والرواية الثانية عن أحمد {الحر بالحر والعبد وبالعبد والأنثى بالأنثى} ومعناه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم فيقتل كل صنف إذ قتل بمثله الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا مذهب مالك الشافعي وأحمد ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: سألت علياً هل عندكم من النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ أن يؤتى الله عبد اً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة قال: العقل وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر، وقد أخرج مسلم عن علي نحو هذا من غير رواية أبي جحيفة.
العقل هنا هو الدية والعاقلة الجماعة من أولياء القاتل الذين يعقلون. عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد» أخرجه الترمذي، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل الذمي والحر بالعبد وهذه الآية مع الأحاديث حجة لمذهب الشافعي ومن وافقه ويقولون هي مفسرة لما أبهم في قوله: {النفس بالنفس} وأن تلك واردة لحكاية ما كتب على بني إسرائيل في التوراة وهذه الآية خطاب للمسلمين بما كتب عليهم وذهب أصحاب الرأي إلى أن هذه منسوخة بقوله: {النفس بالنفس} وتقتل الجماء بالواحد يدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن غلاماً قتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. قال البخاري وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه: أن أربعة قتلوا صبياً فقال عمر مثله. وروى مالك في الموطا عن ابن المسيب أن عمر قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً. الغيلة أن يقتل الرجل خديعة ومكراً من غير أن يعلم ما يراد به. وقوله لقتلهم لو تمالأ أي تعاونوا واجتمعوا عليه. وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد، ورضي بالدية أو العفو عنها، أو قبول الدية في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه وأراد بالأخ ولي المقتول، وإنما قيل له أخ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم والمطالب به. وقيل: إنما ذكره بلفظ الأخوة ليعطف احدهما على صاحبه بما هو ثابت بينهما من الجنسية وأخوة الإسلام. وفي قوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود وثبتت الدية لأن شيئاً من الدم قد بطل {فاتباع بالمعروف} أي فليتبع الولي القاتل بالمعروف فلا يأخذ أكثر من حقه ولا يعنفه {وأداء إليه بإحسان} أي على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه وقيل في تقدير الآية: وإذا عفا ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل، وهو وجوب القصاص فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وليؤد ما وجب عليه من الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مطل ولا مدافعة. وفي الآية دليل على أن القاتل يصير كافراً وأن الفاسق مؤمن ووجه ذلك من وجوه: الأول إن الله تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمناً بقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} فسماه مؤمناً حال ما وجب عليه من القصاص.
وإنما وجب عليه بعد صدور القتل منه وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.
الوجة الثاني: أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم بقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} أراد بالأخوة أخوة الإيمان فلولا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة.
الوجه الثالث: أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والعفو لا يليق إلاّ عن المؤمن لا عن الكافر. وقوله تعالى: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} يعني الذي ذكر من الحكم بشرع القصاص والعفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم، يعني في حقكم ورحمة، وذلك لأن العفو وأخذ الدية كان حراماً على اليهود وكان القصاص حتماً في التوراة، وكان في شرع النصارى أخذ الدية ولم يكتب عليهم القصاص، وقيل: كان عليهم العفو دون القصاص وأخذ الدية فخير الله هذه الأمة بين القصاص أو العفو وأخذ الدية توسعة عليهم وتيسيراً وتفضيلاً لهم على غيرهم {فمن اعتدى بعد ذلك} يعني بعد هذا التخفيف فقتل الجاني بعد العفو أو قبول الدية {فله عذاب أليم} وهو أن يقتل قصاصاً ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه. وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الآخرة.

.تفسير الآيات (179- 180):

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}
قوله عز وجل: {ولكم في القصاص حياة} أي بقاء، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل قتل ترك القتل وامتنع عنه فيكون فيه بقاؤه من هم بقتله. وقيل: إن نفس القصاص سبب للحياة وذلك أن القاتل إذا اقتص منه ارتدع غيره ممن كان يهم بالقتل. واعلم أن هذا الحكم ليس مختصاً بالقصاص الذي هو القتل بل يدخل فيه جميع الجراح والشجاج وغير ذلك لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح لم يجرح، فيصير ذلك سبباً لبقاء الجارح والمجروح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت فيقتص من الجارح. وقيل في معنى الآية إن الحياة سلامته من قصاص الآخرة فإنه إذا اقتص منه في الدنيا لم يقتص منه في الآخرة، وفي ذلك حياته وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة {يا أولي الألباب} أي يا ذوي العقول الذين يعرفون الصواب لأن العاقل لا يريد إتلاف نفسه بإتلاف غيره {لعلكم تتقون} يعني لعلكم تنتهون عن القتل خوف القصاص.
قوله عز وجل: {كتب} أي فرض وأوجب {عليكم إذا حضر أحدكم الموت} أي قرب ودنا منه، وظهرت آثاره عليه من العلل والأمراض المخوفة وليس المراد منه معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء {إن ترك خيراً} يعني مالاً قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري: فتجب الوصية في الكل وقيل: إن لفظة الخير لا تطلق إلاّ على المال الكثير وهو قول الأكثرين واختلفوا في مقدار الكثير الذي تقع فيه الوصية فقيل: ألف درهم فما زاد عليها. وقيل: سبعمائة فما فوقها. وقيل: ستون ديناراً فما فوقها. وقيل: إنه من خمسمائة إلى ألف وقيل: إنه المال الكثير الفاضل عن العيال، روي أن رجلاً قال لعائشة: إني أريد أن أوصي فقالت كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم قالت: كم عيالك؟ قال أربعة. قالت إنما قال الله: {إن ترك خيراً} وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. {الوصية} أي الإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به وقيل: هي القول المبين لما يستأنف من العمل والقيام به بعد الموت {للوالدين والأقربين} كانت الوصية في ابتداء الإسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال. وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشرف والرياء ويتركون الأقربين فقراء فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بأية المواريث، وبما روي عن عمر بن خارجة قال: كنت آخذاً بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعته يقول: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» أخرجه النسائي والترمذي، نحوه وذهب ابن عباس إلى أن وجوبها صار منسوخاً في حق من يرث، وبقي وجوبها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين.
وهو قول الحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار وحجة هؤلاء أن الآية دالة على وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك الوجوب في حق من يرث بآية الميراث وبالحديث، المذكور فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يرث فعلى قول هؤلاء النسخ يتناول بعض أحكام الآية، وذهب الأكثرون من المفسرين والعلماء وفقهاء الحجاز والعراق إلى أن وجوبها صار منسوخاً في حق الكافة وهي مستحبة في حق من لا يرث ويدل على استحباب الوصية والحث عليها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه» وفي رواية: «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين» وفي رواية: «ثلاث ليال إلاّ ووصيته مكتوبة عنده» قال نافع سمعت عبد الله بن عمر يقول: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلاّ ووصيتي مكتوبة عندي أخرجه الجماعة. قوله: ما حق امرئ الحق يشتمل معناه على الوجوب والندب والحث، فيحمل هنا على الحث في الوصية لأن لا يدري متى يأتيه الموت فربما أتاه بغتة فيمنعه عن الوصية. وقوله تعالى: {بالمعروف} أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط فلا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير.
(ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله إني قد بلغ بي الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي أفأتصدق بثلثي ما لي قال لا قلت فالشطر يا رسول الله قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير أو قال والثلث كبير إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» العالة الفقراء وقوله يتكففون الناس التكفف. المسألة: من الناس كأنه من الطلب بالأكف.
(ق) عن ابن عباس قال: في الوصية: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد والثلث كثير وقال علي بن أبي طالب لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك وقيل يوصي بالسدس أو بالخمس أو الربع {حقاً} أي ثابتاً ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب {على المتقين} أي على المؤمنين الذين يتقون الشرك.