فصل: تفسير الآيات (40- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (40- 43):

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{وإن ما نرينك} يعني يا محمد {بعض الذي نعدهم} يعني من العذاب {أو نتوفينك} يعني قبل أن نريك ذلك {فإنما عليك البلاغ} يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ {وعلينا الحساب} يعني وعلينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم. قوله عز وجل: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} يعني أو لم ير كفار مكة الذين سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم الآيات أنا نأتي الأرض يعني أرض الشرك ننقصها من أطرافها. قال أكثر المفسرين: المراد منه فتح دار الشرك فإن ما زاد في دار الإسلام فقد نقص في دار الشرك والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنفتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضاً بعد أرض حوالى أراضيهم أفلا يعتبرون، فيتعظون وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين: وذلك أن المسلمين إذا استولوا على بلاد الكفار قهراً وتخريباً كان ذلك نقصاناً في ديارهم، وزيادة في ديار المسلمين، وقوتهم وكان ذلك من أقوى الدلائل على أن الله تعالى ينصر عبد ه ويعز جنده ويظهر دينه، وينجز له ما وعده. وقيل: هو خراب الأرض والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها أفلا يخافون أن نفعل بهم مثل ذلك، وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة والشعبي نحوه وهذا القول قريب من الأول وقال عطاء وجماعة من المفسرين نقصانها موت العلماء وذهب الفقهاء.
(ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس»، وفي رواية «من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» قال الحسن قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار، وقال عبد الله أيضاً: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر فإذا هلك الأول ولم يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك العلماء. فعلى هذا القول فالمراد بالأطراف العلماء، والأشراف من الناس: حكى الجوهري عن ثعلب قال: الأطراف الأشراف. واستدل الواحدي لهذه اللغة بقول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ** أطراف كل قبيلة من يتبع

قال: يريد أشراف كل قبيلة. قال الواحدي: والتفسير على القول الأول أولى لأن هذا وإن صح فلا يليق بهذا الموضع. قال الإمام فخر الدين الرازي: ويمكن أن يقال أيضاً إن هذ الوجه لا يليق بهذا الموضع وتقديره أن يقال: أو لم يروا أن كل ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغييرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة، فيجعلهم ذليلين بعدما كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه أيضاً يجوز إيصال الكلام بما قبله.
وقوله تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه} يعني لا رادّ لحكمه ولا ناقض لقضائه، والمعقب هو الذي يعقب غيره بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب. والمعنى: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً من المدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب حكمه أحد غيره بتغيير، ولا نقض {وهو سريع الحساب} قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام ممن حاسبه للمجازاة بالخير والشر فمجازاة الكفار بالانتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدم بسط الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا {وقد مكر الذين من قبلهم} يعني من قبل مشركي مكة من الأمم الماضية، الذين مكروا بأنبيائهم والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر مثل ما مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى، {فلله المكر جميعاً} يعني عند الله جزاء مكرهم. وقال الواحدي: يعني جميع مكر الماكرين له ومنه أي هو من خلقه وإرادته فالمكر جميعاً مخلوق له بيده الخير والشر وإليه النفع والضر. والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته، وفي هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم كأنه قيل: قد فعل من كان قبلهم من الكفار مثل فعلهم وصنعوا مثل صنيعهم، فلم يضروا إلا من أراد الله ضره، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله لا من أحد من المخلوقين {يعلم ما تكسب كل نفس} يعني أن جميع اكتساب العباد وتأثيراتها معلومة لله هو خالقها أو خلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله ولا يحصل ضرراً إلا بإذنه وإرادته، وفيه وعيد للكفار الماكرين {وسيعلم الكافر} على التوحيد وقرئ وسيعلم الكفار على الجمع. قال ابن عباس: يعني أبا جهل. وقيل: أراد المستهزئين وهم خمسة نفر من كفار مكة {لمن عقبى الدار} والمعنى أنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون أن العاقبة الحميدة للمؤمنين، ولهم العاقبة المذمومة في الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون الجنة قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} لما أنكر الكفار كون محمد رسولاً من عند الله أمره الله بقوله: {قل} أي قل: يا محمد لهؤلاء الكفار الذين أنكروا نبوتك {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} المراد بشهادة الله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما أظهر على يديه من المعجزات الباهرات والآيات القاهرات الدالة على صدقه، وكونه نبياً مرسلاً من عند الله {ومن عنده علم الكتاب} يعني ومن عنده علم الكتاب أيضاً يشهد على نبوتك يا محمد وصحتها.
واختلفوا في الذي عنده علم الكتاب من هو فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، والمعنى أن كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة ومن النصارى بالإنجيل علم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوته فيهما شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم، وقيل: إنهم مؤمنو أهل الكتاب يشهدون أيضاً على نبوته. قال قتادة: هو عبد الله بن سلام، وأنكر الشعبي هذا وقال: هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام بالمدينة المنورة وقال يونس لسعيد بن جبير ومن عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟ وقال الحسن ومجاهد ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى. وعلى هذا القول يكون المعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيداً بيني وبينكم. قال الزجاج: الأشبه أن الله لا يشهد على صحة حكمه لغيره. وهذا قول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً إلا أنه خلاف الأصل. فلا يقال شهد بهذا زيد والفقيه. بل يقال: شهد بهذا زيد الفقيه لكن يشهد لصحة هذا القول قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب بكسر الميم والدال، وهي قراءة ابن عباس وغيره على البناء للمفعول والمعنى ومن عند الله علم الكتاب ودليل هذه القراءة قوله: {وعلمناه من دلنا علماً} وقيل: معناه إن من علم أن القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب، وعن الأمم الماضية فمن علم بهذه الصفة كان شهيداً بيني وبينكم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

.سورة إبراهيم:

.تفسير الآيات (1- 2):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)}
قوله عز وجل: القرآن {كتاب أنزلناه إليك} يعني هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد والكتاب هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {لتخرج الناس من الظلمات الى النور} يعني بهذا القرآن والمراد من الظلمات الكفر والضلالة والجهل، والمراد بالنور: الإيمان. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: وفيه دليل على أن طرق الكفر والبدع كثيرة وطريق الحق ليس إلا واحداً لأنه تعالى قال: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهدى بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا واحد {بإذن ربهم} يعني بأمر ربهم وقيل: يعلم ربهم {إلى صراط العزيز الحميد} يعني إلى دين الإسلام وهو دينه الذي أمر به عباده، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحميد المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد {الله} قرئ بالرفع على الاستئناف وخبره ما بعده وقرئ بالجر نعتاً للعزيز الحميد فقال أبو عمرو قراءة الخفض على التقديم والتأخير تقديره إلى صراط الله العزيز الحميد {الذي له ما في السموات وما في الأرض} يعني ملكاً وما فيهما عبيده {وويل للكافرين} يعني الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبد وا من لا يملك شيئاً البتة بل هو مملوك لله لأنه من جملة خلق الله، ومن جملة ما في السموات وما في الأرض {من عذاب شديد} يعني معد لهم في الآخرة ثم وصفهم.

.تفسير الآيات (3- 14):

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}
فقال تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} يعني يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة {ويصدون عن سبيل الله} أي ويمنعون الناس عن قبول دين الله {ويبغونها عوجاً} يعني ويطلبون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار وأوصل الفعل. وقيل: معناه يطلبون سبيل الله حائدين عن القصد وقيل الهاء في ويبغونها راجعة إلى الدنيا ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق والميل إلى الحرام {أولئك} يعني من هذه صفته {في ضلال بعيد} يعني عن الحق وقيل يجوز أن يراد في ضلال بعيد ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال يبعد عن الطريق. قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} يعني بلغة قومه ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه وهو قوله تعالى: {ليبين لهم} يعني ما يأتون وما يذرون. فإن قلت: لم يبعث الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعاً بدليل قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى وقوله بلسان قومه وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة فكيف يمكن الجمع؟ قلت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وبلسانهم والناس تبع للعرب فكان مبعوثاً إلى جميع الخلق، لأنهم تبع للعرب ثم إنه يبعث الرسل إلى الرسل إلى الأطراف، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم. وقيل: يحتمل أنه أراد بقومه أهل بلدة، وفيهم العرب وغير العرب فيدخل معهم من غير جنسهم في عموم الدعوى وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه وكانت دعوته خاصة وكان كتابه بلسان قومه كان أقرب لفهمهم عنه وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه، وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه وجميع حدوده وأحكامه وقوله: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} يعني أن الرسول ليس عليه إلا التبليغ والتبيين والله هو الهادي المضل يفعل ما يشاء {وهو العزيز} يعني الذي يغلب ولا يغلب {الحكيم} في جميع أفعاله. قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} المراد بالآيات المعجزات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام، مثل العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات العظيمة الباهرة {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} أي أن أخرج قومك بالدعوة من ظلمات الكفر الى نور الإيمان {وذكرهم بأيام الله} قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: يعني بنعم الله.
وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم بما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والنقمة، فأخبر بذكر الأيام عن ذلك لأن ذلك كان معلوماً عندهم وعلى هذا يكون المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. والترغيب والوعد أن يذكرهم بما أنعم الله عليهم به من النعمة، وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما مضى من الأيام، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله، وشدة انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله، وقيل: بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والشدة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب فخلصهم الله من ذلك، وجعلهم مولكاً بعد أن كانوا مملوكين {إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور} الصبّار: الكثير الصبر، والشكور: الكثير الشكر، وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله: {وهدى للمتقين} ولأن الانتفاع بالآيات لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابراً شاكراً أما من لم يكن كذلك فلا ينتفع بها البتة {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم} لما أمر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكر قومه بأيام الله امتثل ذلك الأمر، وذكرهم بأيام الله فال {اذكروا نعمة الله عليكم} {إذ أنجاكم من آل فرعون} أي اذركوا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت الذي أنجاكم فيه من آل فرعون {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم}. فإن قلت قال في سورة البقرة: يذبحون بغير واو وقال هنا ويذبحون بزيادة واو فما الفرق؟ قلت: إنما حذفت الواو في سورة البقرة لأن قوله يذبحون تفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو كما تقول جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم وأما دخول الواو هنا في هذه السورة فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله: {ويذبحون} نوع آخر من العذاب لأنه تفسير العذاب {ويستحيون نساءكم} يعني يتركونهن أحياء {وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم}. فان قلت كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا ما فعلوا بلاء من الله؛ ووجه آخر وهون أذن لكم إشارة إلى الانجاء، وهو بلاء عظيم لأن البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً ومنه قوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} وهذا الوجه أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله اذكروا نعمة الله عليكم. فإن قلت: هب أن تذبيح الأبناء فيه بلاء فكيف يكون استحياء النساء فيه بلاء. قلت: كانوا يستحيونهن ويتركونهن تحت أيديهم كالإماء فكان ذلك بلاء {وإذ تأذن ربكم} هذا من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم، ومعنى تأذن: آذن، أي أعلم ولابد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وأذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه المعنى وإذ تأذن ربكم فقال: {ولئن شكرتم} يعني يا بني اسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح {لأزيدنكم} يعني نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما أتيتكم قيل شكر الموجود صيد المفقود.
وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب وأصل الشكر تصور النعمة، وإظهارها وحقيقته الاعتراف بنعمة المنم مع تعظيمه، وتوطين النفس على هذه الطريقة وهاهنا دقيقة وهي أن العبد إذا اشتغل بمطالعة أقسام نعم الله عز وجل عليه، وأنواع فضله وكرمه وإحسانه إليه اشتغل بشكر تلك النعمة وذلك يوجب المزيد وبذلك تتأكد محبة العبد لله عز وجل وهو مقام شريف ومقام أعلى منه وهو أن يشغله حب المنعم عن الالتفات إلى النعم، وهذا مقام الصدّيقين نسأل الله القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه وإنعامه. وقوله: {ولئن كفرتم} المراد بالكفر هاهنا كفران النعمة، وهو جحودها لأنه مذكور في مقابلة الشكر {إن عذابي لشديد} يعني لمن كفر نعمتي ولا يشكرها {وقال موسى إن تكفروا} يعني يا بني اسرائيل {أنتم ومن في الأرض جميعاً} يعني والناس كلهم جميعاً فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم بحرمانها الخير كله {فإن الله لغني} يعني عن جميع خلقه {حميد} أي محمود في جميع أفعاله لأنه متفضل وعادل {ألم يأتكم نبأ} يعني خبر {الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود} قال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون هذا خطاباً من موسى لقومه، والمقصود منه أنه عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأمر القرون الماضية والأمم الخالية والمقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم {والذين من بعدهم} يعني من بعد هؤلاء الأمم الثلاثة {لا يعلمهم إلا الله} يعني لا يعلم كنه مقاديرهم وعددهم إلا الله لأن علمه محيط بكل شيء {ألا يعلم من خلق} وقيل: المراد بقوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أقوام وأمم ما بلغنا خبرهم أصلاً ومنه قوله: {وقروناً بين ذلك كثيراً} وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول: كذب النسابون. يعني أنهم يدعون علم النسب إلى آدم، وقد نفى الله علم ذلك عن العباد. وعن عبد الله بن عباس أنه قال: بين إبراهيم وعدنان ثلاثون قرناً لا يعلمهم إلا الله وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أباً أباً إلى آدم، لأنه لا يعلم أولئك إلا الله. وقوله تعالى: {جاءتهم رسلهم بالبينات} يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات {فردوا أيديهم في أفواههم}.
وفي معنى الأيدي والأفواه قولان: أحدهما أن المراد بهما هاتان الجارحتان المعلومتان ثم في معنى ذلك وجوه. قال ابن مسعود: عضوا أيديهم غيظاً. وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به. يقال: رددت قول فلان في فيه أي كذبته. وقال الكلبي: يعني أن الأمم ردوا أيديهم إلى أفواه أنفسهم، يعني أنهم وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة منهم إلى الرسل أن اسكتوا. وقال مقاتل: ردوا أيديهم إلى أفواه الرسل يسكتونهم بذلك وقيل: إن الأمم لما سمعوا كلام الرسل عجبوا منه. وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل الذي غلبه الضحك. القول الثاني: أن المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال لفلان عندي يد أي نعمة، والمراد بالأفواه وتكذيبهم الرسل والمعنى كذبوهم بأفواههم وردوا قولهم وقيل إنهم كفوا عن قبول ما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال فلان رد يده إلى فيه إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وهذا القول فيه بعد لأنهم قد أجابوا بالتكذيب وهو أن الأمم ردوا على رسلهم {وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به} يعني إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به لأنهم لم يقروا بأنهم أرسلوا إليهم لأنهم لو أقروا بأن الرسل أرسلوا إليهم لكانوا مؤمنين {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} يعني يوجب الريبة أو يوقع في الريبة والتهمة، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قلت: إنهم قالوا أولاً إنا كفرنا بما أرسلتم به فكيف يقولون ثانياً وإنا لفي شك والشك دون الكفر أو داخل فيه. قلت: إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل فكأنهم حصل لهم شبهة توجب لهم الشك فقالوا: إن لم تدع الجزم في كفرنا فلا أقل من أن نكون شاكّين مرتابين في ذلك {قالت رسلهم} يعني مجيبين لأممهم {أفي الله شك} يعني وهل تشكون في الله وهو استفهام إنكار ونفي لما اعتقدوه {فاطر السموات والأرض} يعني وهل تشكون في كونه خالق السموات والأرض وخالق جميع ما فيهما {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} يعني ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم وحرف {من} صلة وقيل: إنها أصل ليست بصلة، وعلى هذا إنه يغفر لهم ما بينهم وبينه من الكفر والمعاصي دون مظالم العباد {ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى حين انقضاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب {قالوا} يعني الأمم مجيبين للرسل {إن أنتم} يعني ما أنتم {إلا بشر مثلنا} يعني في الصورة الظاهرة لستم ملائكة {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} يعني ما تريدون بقولكم: هذا إلا صدنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبد ونها {فأتونا بسلطان مبين} حجة بينة واضحة على صحة دعواكم {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم} يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم: هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك {ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} يعني وليس لنا من ما خصنا الله به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن الله لنا في ذلك {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم {وما لنا أن لا نتوكل على الله} يعني أن الأنبياء قالوا أيضاً قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء الله وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا {وقد هدانا سبلنا} يعني وقد عرفنا طريق النجاة، وبين لنا الرشد {ولنصبرن} اللام لام القسم تقديره والله لنصبرن {على ما آذيتمونا} يعني به من قول أو فعل {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}.
فإن قلت: كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت: نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين. قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا. فإن قلت: هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت: معاذ الله ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب، وفيه وجه آخر، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى الله فقالوا لهم: لتعودن في ملتنا ظناً منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره {فأوحى إليهم ربهم} يعني أن الله تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات {لنهلكن الظالمين} يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} يعني من بعد هلاكهم {ذلك} يعني ذلك الإسكان {لمن خاف مقامي} يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم: ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله {وخاف وعيد} أي وخاف عذابي.