فصل: تفسير الآيات (15- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (15- 22):

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}
قوله عز وجل: {واستفتحوا} يعني واستنصروا. قال ابن عباس: يعني الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة: واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب {وخاب} يعني وخسر وقيل: هلك {كل جبار عنيد} والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان، وقيل: الجبار الذي لايرى فوقه أحداً وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله. وقيل: العنيد هون المعجب بما عنده. وقيل العنيد الذي يعاند ويخالف {من ورائه جهنم} يعني هي أمامه وهو صائر إليها قال أبو عبيدة: هو من الأضداد يعني أنه يقال: وراء بمعنى خلف وبمعنى أمام وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك يعني أنه سيأتيك {ويسقى} يعني في جهنم {من ماء صديد} وهو ما سال من الجلد واللحم من القيح جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر وهو قوله: {يتجرعه} أي يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه {ولا يكاد يسيغه} أي لا يقدر على ابتلاعه. يقال: ساغ الشراب في الحلق إذا سهل انحداره فيه. قال بعض المفسرين: إن يكان صلة والمعنى يتجرعه ولا يسيغه وقال صاحب الكشاف: دخلت يكاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة وقال بعضهم ولا يكاد يسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء فعلى هذا كاد أصلها وليست بصلة، وقال ابن عباس: معناه لا يجيزه. وقيل: معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه. عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: «يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره قال وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم وقال وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. قوله: وقعت فروة رأسة أي جلدة رأسه وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها. وقوله تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} يعني أن الكافر يجد ألم الموت وشدته من كل مكان من أعضائه.
وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده وقيل يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة {ومن ورائه} يعني أمامه {عذاب غليظ} أي شديد قيل: هو الخلود في النار. قوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} هذا كلام مستأنف منقطع عما قبله وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره فيما نقص، أو فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة، وقوله: {أعمالهم كرماد} جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم فقال أعمالهم كرماد. وقال المفسرون والفراء: مثل أعمال الذين كفروا بربهم فحذف المضاف اعتماداً على ما ذكره بعد المضاف إليه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد كقولك في صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول والرماد معروف وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار، اشتدت به الريح يعني فنسفته وطيرته ولم تبق منه شيئاً في يوم عاصف، وصف اليوم بالعصوف والعصوف من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه كقولك: يوم بارد وحار وليلة ماطرة لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وقيل: معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنه قد تقدم ذكرها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفوا بها، ووجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتذهب به وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى منها شيء وكذلك أعمال الكفار تبطل، وتذهب بسبب كفرهم وشركهم حتى لا يبقى منها شيء ثم اختلفوا في هذه الأعمال ما هي فقيل: هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل: المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم. وقيل: أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير الله فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى: {لا يقدرون مما كسبوا} يعني في الدنيا {عمل شيء} يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لايجدون ثواب أعمالهم في الآخرة {ذلك هو الضلال البعيد} يعني ذلك: الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده {ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق} يعني لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح {إن يشأ يذهبكم} يعني أيها الناس {ويأت بخلق جديد} يعني: سواكم أطوع لله منكم.
والمعنى: أن الذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء. وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار، ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع {وما ذلك على الله بعزيز} يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على الله، وإن جلت وعظمت. قوله عز وجل: {وبرزوا لله جميعاً} يعني خرجوا من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه، فهو حق وصدق. وكائن لامحالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود {فقال الضعفاء} يعني الأتباع {للذين استكبروا} وهم القادة والرؤساء {ن كنا لكم تبعاً} يعني في الدين والاعتقاد {فهل أنتم} يعني في هذا اليوم {مغنون عنا} يعني دافعون عنا {من عذاب الله من شيء} من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب الله الذي حل بنا {قالوا} يعني الرؤساء والقادة، والمتبوعين للتابعين {لو هدانا الله لهديناكم} يعني لو أرشدنا الله لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} يعني مستويان علينا الجزع والصبر. والجزع، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه {ما لنا من محيص} يعني من مهرب، ولا مناجاة مما نحن فيه من العذاب. قال مقاتل: يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون: تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال الله: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} فردت الخزنة عليهم وقالوا: {ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} فردت الخزنة وقالوا: {ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} فلما يئسوا مما عند الخزنة {نادوا يا مالك ليقض علينا ربك} سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله: {إنكم ماكثون} فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص.
قوله تعالى: {وقال الشيطان} يعني إبليس {لما قضي الأمر} يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، وتوبيخه، فيقوم فيها خطيباً قال مقاتل: يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم: ما أخبر الله عنه بقوله: {إن الله وعدكم وعد الحق} فيه إضمار تقديره فصدق في وعده {ووعدتكم فأخلفتكم} يعني الوعد. وقيل يقول: لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار {وما كان لي عليكم من سلطان} يعني من ولاية وقهر، وقيل: لم آتيكم بحجة فيما وعدتكم به {إلا أن دعوتكم} هذا استثناء منقطع معناه لكن دعوتكم {فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} يعني ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، وقد سمعتم دلائل الله وجاءتكم الرسل فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفوا إليّ ولا تسمعوا قولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بأجابتي، ومتابعتي من غير حجة ولا دليل {ما أنا بمصرخكم} يعني بمغيثكم ولا منقذكم {وما أنتم بمصرخي} يعني بمغيثيّ ولا منقذيّ مما أنا فيه {إني كفرت بما أشركتمون من قبل} يعني كفرت بجعلكم إياي شريكاً كله في عبادته وتبرأت من ذلك والمعنى أن إبليس جحد ما يعتقده الكفار فيه، من كونه شريكاً لله وتبرأ من ذلك {إن الظالمين لهم عذاب أليم} روى البغوي يسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، وذكر الحديث إلى قوله «فيأتوني فيأذن الله في أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتى ربي فيشفعني، ويجعل لي نوراً من رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه، فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم، ويقول عند ذلك: {إن الله وعدكم وعد الحق} الآية».

.تفسير الآيات (23- 27):

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
قوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} لما شرح الله عز وجل حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة، شرح أحوال المؤمنين السعداء، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم الجزيل، وذلك أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم والمنفعة الخالصة إليها الإشارة دائمة بقوله: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} وكونها دائمة أشير إليه بقوله: {خالدين فيها} والتعظيم حصل من وجهين أحدهما قوله: {بإذن ربهم} لأن تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله بإنعامه الثاني قوله: {تحيتهم فيها سلام} فيحتمل أن بعضهم يحيي بعضاً بهذا الكلمة أو الملائكة تحييهم بها أو الرب سبحانه وتعالى يحييهم، ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع الآفات لأن السلام مشتق من السلامة. قوله عز وجل: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً} لما شرح الله عز وجل أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ضرب مثلاً فيه حكم هذين القسمين فقال تعالى: {ألم تر} أي بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب في للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره فيه ويحتمل أن يكون الخطاب فيه لكل فرد من الناس، فيكون المعنى ألم تر أيها الإنسان كيف ضرب الله مثلاً يعني بين شبهاً، والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويتصور. وقيل: هو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر {كلمة طيبة} هي قول لا إله إلا الله في قول ابن عباس وجمهور المفسرين: {كشجرة طيبة} يعني كشجرة طيبة الثمرة وقال ابن عباس: هي النخلة. وبه قال ابن مسعود وأنس ومجاهد وعكرمة والضحاك.
(ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني عن شجرة شبه الرجل أو قال كالرجل المسلم لا يتحات ورقها تؤتي أكلها كل حين قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه سلم: هي النخلة» قال: فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً فقال عمر لأن تكون قلته أحب إلي من كذا وكذا وفي رواية: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة».
وفي رواية عن ابن عباس، أنها شجرة في الجنة وفي رواية أخرى عنه أنها المؤمن. قوله: {أصلها ثابت} يعني في الأرض {وفرعها} يعني أعلاها {في السماء} يعني ذاهبة في السماء {تؤتي أكلها} يعني ثمرها {كل حين بإذن ربها} يعني بأمر ربها والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هذا وقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر يعني أن مدة حملها باطناً وظاهراً ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس: كل حين يعني غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت. وقال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل هذه الكلمة التي هي كلمة الإخلاص وأصل الإيمان بالنخلة حاصل من أوجه: أحدهما: أن كلمة الإخلاص شديدة الثبوت في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض. الوجه الثاني: أن هذه الكلمة ترفع عمل المؤمن إلى السماء. كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وكذلك فرع النخلة الذي هو عال في السماء. الوجه الثالث: أن ثمر النخلة يأتي في كل حين ووقت وكذلك ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كل وقت وحين ببركة هذه الكلمة، فالمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءته بركتها وثوابها وخيرها ومنفعتها. الوجه الرابع: أن النخلة شبيهة بالإنسان في غالب الأمر لأنها خلقت من فضله طينة آدم وأنها إذا قطع رأسها تموت كالآدمي بخلاف سائر الشجر فإنه إذا قطع نبت، وأنها لا تحمل حتى تلقح بطلع الذكر. الوجه الخامس: في وجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق لأن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل ثابت، وفرع قائم، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان، وقوله سبحانه وتعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} يعني أن في ضرب الأمثال زيادة في الأفهام وتصويراً للمعاني وتذكيراً ومواعظ لمن تذكر واتعظ. قوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة} وهو الشرك {كشجرة خبيثة} يعني الحنظل قاله أنس بن مالك ومجاهد: وفي رواية عن ابن عباس إنها الكشوت وعنه أيضاً أنها الثوم وعنه أيضاً أنها الكافر لأنه لا يقبل عمله فليس له أصل ثابت ولا يصعد إلى السماء {اجتثت} يعني استؤصلت وقطعت {من فوق الأرض ما لها من قرار} يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له.
قول طيب ولا عمل صالح ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة. عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال: هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي الحنظلة» أخرجه الترمذي. مرفوعاً وموقوفاً، وقال الموقوف أصح. قوله سبحانه وتعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} والقول الثابت: هي الكلمة الطيبة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، في قول جمهور المفسرين. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بكلمة الشرك قال: في هذه الآية ويضل الله الظالمين يعني بالكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك في قول جميع المفسرين وقوله: {في الحياة الدينا} يعني في القبر عند السؤال {وفي الآخرة} يعني يوم القيامة عند البعث والحساب وهذا القول واضح ويدل عليه ما روي عن البراء بن عازب. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المسلم إذا سئل في القبل يشهد أن لا إله إلله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: نزلت في عذاب القبر» زاد في رواية: «يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم» أخرجه البخاري ومسلم.
(ق) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس: «وأما المنافق» وفي رواية: «وأما الكافر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» لفظ البخاري ولمسلم بمعناه زاد في رواية: «أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملا عليه خضراً إلى يوم يبعثون» وأخرجه أبو داود عن أنس قال: وهذا لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا وضع قبره أتاه ملك فيقول: ماكنت تعبد؟ فإن هداه الله، قال: كنت أعبد الله فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله فلا يسأل عن شيء بعدها فينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا كان مقعدك ولكن عصمك الله فأبدلك به بيتاً في الجنة فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي. فيقال له: اسكن. وإن الكافر والمنافق إذا وضع في قبره، أتاه ملك فينهضه فيقول ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيه فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين» وأخرجه النسائي. أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قبر الميت أو قال إذا قبر أحدكم آتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: كنت أقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ه ورسوله فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ثم ينور له فيه ثم يقال له: ثم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه، ذلك وإن كان منافقاً فيقول سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثلهم لا أدري فيقولان: قد كنا نعلم أنك كنت تقول ذلك. فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» أخرجه الترمذي. عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهت إلى القبر، ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤؤسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً زاد في رواية قال: إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولو مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك وما دينك وما نبيك وفي رواية يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله فيقولان له وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت، زاد في رواية فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} ثم لقناه قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبد ي فافرشوا له من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره وإن كان الكافر فذكر موته قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولا ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء قد كذب عبد ي فافرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً في النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه في رواية ثم يقبض له أعمى أبكم أصم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبلاً لصار تراباً فيضربه بها ضربة، يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح» أخرجه أبو داود. عن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل» أخرجه أبو داود. عن عبد الرحمن بن ثمامة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى بكاء طويلاً، وحول وجهه إلى الجدر وجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا فأقبل بوجهه وقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وذكر الحديث بطوله وفيه «فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رسل ربي» أخرجه مسلم بزيادة طويلة فيه قيل المراد من التثبيت بالقول الثابت هو أن الله تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب كثرة مواظبتهم على شهادة الحق في الحياة الدينا وحبهم لها، فمن كانت مواظبته على شهادة الإخلاص أكثر كان رسوخها في قلبه أعظم فينبغي للعبد المسلم أن يكثر من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله في جميع حالاته، من قيامه وقعوده ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته، فلعل الله عز وجل أن يرزقه ببركة مواظبته على شهادة الإخلاص التثبيت في القبر، ويسهل عليه جواب الملكين بما فيه خلاصه من عذاب الآخرة، نسأل الله التثبيت في القبر، وحسن الجواب وتسهيله بفضله ومنه وكرمه وإحسانه، إنه على كل شيء قدير وقوله تعالى: {ويضل الله الظالمين} يعني أن الله تعالى لا يهدي المشركين إلى الجواب الصواب في القبر {ويفعل الله ما يشاء} يعني من التوفيق، والخذلان والهداية والإضلال والتثبيت، وتركة لا اعتراض عليه في جميع أفعاله لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.