فصل: تفسير الآيات (38- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (38- 43):

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه؛ والمعنى أنك تعلم أحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء، والطلب إنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك، وتخشعاً لعظمتك وتذللاً لعزتك وافتقاراً إلى ما عندك وقيل: معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء وقيل: ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام إلى من تكلنا قال: إلى الله قالت إذاً لا يضيعنا {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} فقيل: هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون: إنه من قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال: فهو كقوله وكذلك يفعلون {الحمد لله رب الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، ومعنى قوله: {على الكبر} مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد لهذا شكر الله على هذه المنة. فقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق. فإن قلت: كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر باسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عندما بشر باسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر والله أعلم بحقيقة الحال {إن ربي لسميع الدعاء} كان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله: {رب هب لي من الصالحين} فلما استجاب الله دعاءه ووهبه ما سأل شكر الله على ما أكرمه به ومن إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله {ربِّ اجعلني مقيم الصلاة} يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها {ومن ذريتي} أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام الله إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته {ربنا وتقبل دعاء} سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب الله لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه كرمه {ربنا اغفر لي} فان قلت طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة له؟ قلت: المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية لله تعالى والاتكال على رحمته {ولوالدي}.
فإن قلت: كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء {وللمؤمنين} يعني واغفر للمؤمنين كلهم {يوم يقوم الحساب} يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله سبحانه وتعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق الله محال فلابد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً قال سفيان بن عيينة: فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت: تعالى الله عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم غافلاً وهو أعلم الناس به أنه لم غافلاً حتى قيل له ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون. قلت: إذا كان المخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان: أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً فهو كقوله: {ولا تكونن من المشركين} {ولا تدع مع الله إلهاً آخر} وكقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلاً الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى: ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله فمن جوز أن يحسبه غافلاً فلجهله بصفاته {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم {مهطعين} قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً باهتاً فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت {مقنعي رؤوسهم} الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى: {لا يرتد إليهم طرفهم} أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم {وأفئدتهم هواء} أي خالية.
قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئاً ولا تعقل من شدة الخوف. وقال سعيد بن جبير: وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}
{وأنذر الناس} يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى: {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم: طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى: {نجب دعوتك ونتبع الرسل} فأجيبوا بقوله: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل} يعني في دار الدنيا {مالكم من زوال} يعني ما لكم عنها انتقال وةلا بعث ولا نشور.

.تفسير الآيات (45- 48):

{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}
{وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم {وضربنا لكم الأمثال} يعني الأمثال التي ضربها الله عز وجل في القرآن ليتدبروها، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية، والقرون الماضية وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك. قوله سبحانه وتعالى: {وقد مكروا مكرهم} اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل: إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول الله صل الله عليه وسلم ومكرهم ما ذكره الله تعالى بقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك. وقوله تعالى: {وعند الله مكرهم} يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند الله ليجازيهم به يوم القيامة {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل: معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قولاً آخر: وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرو: إن كان ما يقول إبراهيم حقاً فلا أنتهى حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت، واتخذ تابوتاً من خشب وجعل له باباً من أعلى وباباً من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعاً في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحماً أحمر وقعد هو في التابوت، وأقعد معه رجلاً آخر، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه، وطارت إليه فطارت النسور يوماً أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له: افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان. قال: فطارت النسور يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخاً بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائراً أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم مطلخاً بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها، فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال: إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده {إن الله عزيز} أي غالب {ذو انتقام} يعني من أعدائه قوله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبدل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء: ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس بها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقى، وهو الخبر الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله: ليس به علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل: بأن تصير الأرض نيراناً والسماء جناناً وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث: أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء. وقال أهل اللغة: هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاماً نزلاً لأهل الجنة والله على كل شيء قدير. فإن قلت: إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها} وهو أن تحدث أخبارها وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها، قلت: وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولاً صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلاً ثانياً، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضاً ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه سلم عن قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال: «على الصراط» أخرجه مسلم وروى ثوبان بأن حبراً من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال: «هم في الظلمة دون الجسر» ذكره البغوي بغير سند، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى: {وبرزوا} يعني وخرجوا من قبورهم {لله} يعني لحكم الله، والوقوف بين يديه للحساب {الواحد القهار} صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.