فصل: تفسير الآيات (13- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (13- 23):

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
{وما ذرأ لكم في الأرض} يعني وما خلق لكم في الأرض، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار {مختلفاً ألوانه} يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها، حتى لا يشبه بعضها بعضاً من كل الوجوه، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى: {وهو الذي سخر لكم البحر} لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى: {وترى الفلك} يعني السفن {مواخر فيه} يعني جواري فيه قال قتادة: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين أحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة وأصل المخر في اللغة الشق يقال: مخرت السفينة مخراً إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد: تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة: يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن: مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعاً {ولتبتغوا من فضله} يعني الأرباح بالتجارة في البحر {ولعلكم تشكرون} يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم {وألقى في الأرض رواسي} يعني جبالاً ثقالاً {أن تميد بكم} يعني لئلا تميل وتضطرب بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب: لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحداً على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال {وأنهاراً} يعني وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى: {وأنهاراً} معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال {وسبلاً} يعني وجعل فيها طرقاً مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون {وعلامات} يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: {وعلامات} ثم ابتدأ {وبالنجم هم يهتدون} قال محمد بن كعب والكلبي: أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد: أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي: أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوماً للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به. قوله سبحانه وتعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعياً قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء {أفمن يخلق} يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها {كمن لا يخلق} يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئاً البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله: {أفلا تذكرون} يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤلان: الأول: قوله: {كمن لا يخلق} المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبد وها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله بعد هذا: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً} فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم. السؤال الثاني: قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئاً البتة والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه {إن الله لغفور} يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم {رحيم} يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي {والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون} يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، وقيل: إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى: {والذين تدعون من دون الله} يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً فقوله سبحانه وتعالى: {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار {أموات} أي جمادات ميتة لا حياة فيها {غير أحياء} كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبد ها فقد وضع العبادة في غير موضعها.
وقوله: {وما يشعرون} يعني هذه الأصنام {أيان يبعثون} يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل: معناها ما يدري الكفار الذين عبد وا الأصنام متى يبعثون. قوله سبحانه وتعالى: {إلهكم إله واحد} يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} يعني جاحدة لهذا المعنى {وهم مستكبرون} يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبراً {لا جرم} يعني حقاً {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين} يعني عن اتباع الحق.
(م) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده، وعبادته باطلاً وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقاً، وقيل: البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله: وغمط الناس يقال: غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئاً وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته.

.تفسير الآيات (24- 32):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}
قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم} يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} يعني أحاديثهم وأباطيلهم {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} اللام في ليحلموا لام العاقبة وذلك أنهم وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى: {كاملة} لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئاً يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين: وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. وقوله سبحانه وتعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أجور الاتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنه حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال الواحدي: ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»، ولكنها للجنس أي لحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله: {بغير علم} يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد. {ألا ساء ما يزرون} يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكان من مكره أنه بنى صرحاً ببابل ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه.
قال ابن عباس: وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية كانت قبائل العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} والله أعلم. وقيل: حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذي يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير، وقوله سبحانه وتعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه، هذا إذا حملنا تفسير الأية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني: وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس: من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه. وقوله تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله: {من فوقهم} للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم. وقيل: يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} يعني في مأمنهم، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم {ثم يوم القيامة يخزيهم} يعني يهينهم بالعذاب، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان {ويقول} يعني ويقول: الله لهم يوم القيامة {أين شركائي} يعني في زعمكم واعتقادكم {الذين كنتم تشاقون فيهم} يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه، والمعنى: ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان {قال الذين أوتوا العلم} يعني المؤمنين وقيل الملائكة {إن الخزي} يعني الهوان {اليوم} يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة {والسوء} يعني العذاب {على الكافرين} وإنما يقول المؤمنون: هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأُكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان والخزي قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة} تقبض أرواحهم الملائكة، وهم ملك الموت وأعوانه {ظالمي أنفسهم} يعني بالكفر {فألقوا السلم} يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} يعني شركاً وإنما قالوا: ذلك من شدة الخوف {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم.
قال عكرمة: عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر {فادخلوا} أي فيقال لهم ادخلوا {أبواب جهنم خالدين فيها} يعني مقيمين فيها لا يخروجون منها. وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذاباً من بعض {فلبئس مثوى المتكبرين} يعني عن الإيمان قوله عز وجل: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً} وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار فيقولون: هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك. فيقول الوافد: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل، فذلك قوله سبحانه وتعالى: {وقيل الذين اتقوا} يعني اتقوا الشرك، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيراً يعني أنزل خيراً فان قلت لم رفع الأول وهو قوله: {أساطير الأولين} ونصب الثاني، وهو قوله: {قالوا خيراً} قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّناً مكشوفاً معقولاً للإنزال فقالوا: خيراً أي أنزل خيراً، وتم الكلام عند قوله خيراً فهو، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} يعني الذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وقال الضحاك: هي النصر والفتح.
وقال مجاهد: هي الرزق الحسن. فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة، وهي النصر والفتح والرزق الحسن، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {ولدار الآخرة خير} يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا {ولنعم دار المتقين} يعني الجنة وقال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى هو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله: {جنَّات عدن} يعني بساتين إقامة من قولهم: عدنَ بالمكان، أي أقام به {يدخلونها} يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها {تجري من تحتها الأنهار} يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم {لهم فيها} يعني في الجنات {ما يشاؤون} يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاؤون لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا {كذلك يجزي الله المتقين} أي هكذا يكون جزاء المتقين، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} يعني مؤمنين طاهرين من الشرك. قال مجاهد: زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل: إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة {يقولون} يعني الملائكة لهم {سلام عليكم} يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؟ قلت: قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم.
اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان ذلك عدلاً منه، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلاً، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع. وفي ظاهر الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله سبحانه وتعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة، فلا تعارض بينها، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات: أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والفضل والمنة والله أعلم بمراده.