فصل: تفسير الآيات (33- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (33- 38):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}
قوله تعالى: {هل ينظرون} يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمد {إلا أن تأتيهم الملائكة} يعني لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك} يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال. وقيل: المراد به يوم القيامة {كذلك فعل الذين من قبلهم} يعني من الكفر والتكذيب {وما ظلمهم الله} يعني بتعذيبه إياهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني باكتسابهم المعاصي، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة، {فأصابهم سيئات ما عملوا} يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبد نا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء. والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة، فقالوا: لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجئ ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجئ. وإذا كان كذلك فالكل من الله، فلا فائدة في بعثه رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا: إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثاً كان هذا اعتراضاً على الله تعالى، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله، ولا يجوز لأحد أن يقول لو فعلت هذا، ولم لم تفعل هذا كان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر. ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه. ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبد نا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلاً منهم، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثه الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد. وأما قوله تعالى: {ولا حرمنا من دونه من شيء} يعني الوصيلة والسائبة والحام. والمعنى: فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره {كذلك فعل الذين من قبلهم} يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} يعني كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم {أن اعبد وا الله واجتنبوا الطاغوت} يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله {فمنهم} يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل {من هدى الله} يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله {ومنهم من حقت عليه الضلالة} يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم.
قوله سبحانه وتعالى: {إن تحرص على هداهم} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد {فإن الله لا يهدي من يضل} قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل: معناه لا يهتدي من أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له {وما لهم من ناصرين} أي مانعين يمنعونهم من العذاب {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} قال ابن الجوزي: سبب نزولها أن رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم: والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية. وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم {لا يبعث الله من يموت} فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى: {بلى} يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي. والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئاً فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى {وعداً عليه حقاً} يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يعني لايفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء.

.تفسير الآيات (39- 50):

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
{ليبين لهم الذي يختلفون فيه} يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} يعني في قولهم لا بعث بعد الموت {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده.
(خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولداً، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني» وفي رواية «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد» وقوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال: يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطونهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم. وقالت قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى: {لنبوأنهم في الدنيا حسنة} يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية.
وقيل: معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين {ولأجر الآخرة أكبر} يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا {لو كانوا يعلمون} قيل: الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل: إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين {الذين صبروا} يعني في الله على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله {وعلى ربهم يتوكلون} يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكيل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} نزلت هذه الآية جواباً لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولاً من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة {فاسألوا أهل الذكر} يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلاً منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم {إن كنتم لا تعلمون} الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك {بالبينات والزبر} اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك.
والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقة، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل: {وأنزلنا إليك الذكر} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكراً لأن فيه مواعظ، وتنبيهاً للغافلين {لتبين للناس ما نزل إليهم} يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن وبيان الكتاب يطلب منه السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعضهم: متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر {ولعلهم يتفكرون} يعني فيما أنزل إليهم فيعلموا به {أفأمن الذين مكرو السيئات} فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل: المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقيل: المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة {أن يخسف الله بهم الأرض} يعني كما خسف بقرون من قبلهم {أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم {أو يأخذهم في تقلبهم} بمعنى في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم. وقال ابن جريج: إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم {فما هم بمعجزين} يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم {أو يأخذهم على تخوف} قال ابن عباس ومجاهد: يعني على تنقص. قال ابن قتيبة: التخوف التنقص ومثله التخون. يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه، ويقال: هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أن ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحاك والكلبي: هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على أخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى، ختم الآية بقوله: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} يعني أنه سبحانه وتعالى، لا يعجل العقوبة والعذاب.
قوله سبحانه وتعالى: {أولم يروا} قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة {إلى ما خلق الله من شيء} يعني من جسم قائم له ظل، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله، ويتفكرون فيه فيعتبر به {يتفيئوا ظلاله} يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لايكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل يكون الغداة، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال، وهو جمع مفرد وهو قوله: {من شيء} لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال {عن اليمين والشمائل} قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك. وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع {سجداً لله} في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، {وهم داخرون} أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى.
فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت: لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض ولهذا أفرد الملائكة في قوله: {والملائكة} لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل: أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأميل والتدبر {وهم لا يستكبرون} يعني الملائكة {يخافون ربهم من فوقهم} وكقوله: {وهو القاهر فوق عباده} وقد تقدم تفسيره {ويفعلون ما يؤمرون} عن أبي ذر قال رسول الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسعمون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجداً والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدت تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر: لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفاً.
فصل: وهذ السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها.