فصل: تفسير الآيات (51- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (51- 60):

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} قال الزجاج: ذكر الاثنين توكيداً لقوله إلهين وقال: صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلهاً، ولكن اتخذوا إلهاً واحداً، وهو قوله تبارك وتعالى: {إنما هو إله واحد} لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدره والإرادة فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لايجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد {فإياي فارهبون} يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه {وله ما في السموات والأرض} لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيداً وملكاً {وله الدين واصباً} يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب: الدائم. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً {أفغير الله تتقون} يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الانكار قوله عز وجل: {وما بكم من نعمة فمن الله} يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها {ثم إذا مسَّكم الضر} أي الشدة والأمراض والأسقام {فإليه تجأرون} يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر.
والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا داعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى: {ثم إذا كشف الضر عنكم} يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم {إذا فريق منكم} يعني طائفة وجماعة منكم {بربهم يشركون} يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى {ليكفروا بما آتيناهم} قيل: إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل: إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء {فتمتعوا} لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد. يعني: فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم {فسوف تعلمون} يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم. قوله سبحانه وتعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً} قيل الضمير في قوله: {لما لا يعلمون} عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون. وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني. قال: لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى: ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيباً وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله: {مما رزقناهم} يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام {تالله} أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {لتسألن عما كنتم تفترون} يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيباً من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه {ويجعلون لله البنات} هم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم {سبحانه} نزه الله نفسه عن الولد والبنات {ولهم ما يشتهون} يعني: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} يعني متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ.
وقوله سبحانه وتعالى: {وهو كظيم} يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً {يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به} يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى: {أيمسكه على هون} يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم {أم يدسه في التراب} يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير: إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها: زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون فد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها: انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك:
وعمي الذي منع الوائدات ** فأحيا الوئيد فلم يوأد

عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الوائدة والمؤودة في النار» أخرجه أبو داود. وقوله تعالى: {ألا ساء ما يحكمون} يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمه ضيزى} وقيل: معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر {ولله المثل الأعلى} أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله {وهو العزيز} أي الممتنع في كبريائه وجلاله {الحكيم} يعني في جميع أفعاله.

.تفسير الآيات (61- 67):

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
قوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم. فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسماً واحداً من ثلاثة. قلت: قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم، وقيل: أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله: {إن الشرك لظلم عظيم} وقوله: {وما ترك عليها} يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأض {من دابة} يعني أن الله سبحانه وتعالى، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. قال قتادة: وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد {ولكن يؤخرهم} يعني يمهلهم بفضله، وكرمه وحلمه {إلى أجل مسمى} يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه. وقيل: أراد بالأجل المسمى يوم القيامة، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون {ويجعلون لله ما يكرهون} يعني لأنفسهم وهي البنات {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} يعني ويقولون: إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله. وقيل: أراد بالحسنى الجنة، والمعنى أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا: إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول: {لا جرم أن لهم النار} يعني في الآخرة لا الجنة {وأنهم مفرطون} قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني مسرفون وقرئ بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل: متروكون. وقال قتادة: معجلون إلى النار. وقال الفراء: مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {فزين لهم الشيطان أعمالهم} يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحداً أو يهدي أحداً، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته {فهو وليهم} أي ناصرهم {اليوم} ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه ولياً لهم لطاعتهم إياه {ولهم عذاب أليم} يعني في الآخرة {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل والحلال من الحرام {وهدى ورحمة} يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بياناً وهدى ورحمة {لقوم يؤمنون} لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى: {والله أنزل من السماء ماء} يعني المطر {فأحيا به} يعني بالماء {الأرض} يعني بالنبات والزروع {بعد موتها} يعني يبسها وجدوبتها {إن في ذلك لآية} يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا {لقوم يسمعون} يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات {وإن لكم في الأنعام لعبرة} يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك {نسقيكم مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام، وكان حقه أن يقال مما في بطونها، واختلف النحوين في الجواب، فقيل: إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر وبحسب المعنى جميع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين: مما في بطونها. وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي: إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن {من بين فرث} وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثاً {ودم لبناً خالصاً} يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو {سائغاً للشاربين} يعني هنيئاً سهلاً يجري في الحلق بسهولة.
قيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك فقال: ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل عليه الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً، وما رأى أحد في كرشها دماً ولا لبناً بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وهو الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة في الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبناً فهذا صورة تكوَّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن توليد أولاً من الفرث ثم من الدم ثانياً ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبناً خالصاً من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقباً صغيراً ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفاً من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفاً احتبس في البدن، وهو المراد بقوله خالصاً هنيئاً مريئاً. قوله عز وجل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} يعني ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه {سكراً ورزقاً حسناً} قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة: السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكراً، وسكراً والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك. فإن قلت: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل: إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضاً، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم: السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكراً منسوخ.
سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر: ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت: القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية: السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره: السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده {لآية} يعني دلالة وحجة واضحة {لقوم يعقلون} يعني أن من كان عاقلاً استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقاً، ومدبراً قادراً على ما يريد.