فصل: تفسير الآيات (11- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (11- 17):

{فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}
قوله سبحانه وتعالى: {فضربنا على أذانهم} أي ألقينا عليهم النوم، وقيل منعنا نفوذ الأصواب إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه {في الكهف سنين عدداً} أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة {ثم بعثناهم} أي من نومهم {لنعلم} أي علم مشاهدة وذلك أن الله عز وجل لم يزل عالماً، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً {أي الحزبين} أي الطائفتين {أحصى لما لبثوا أمداً} أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياماً وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف. قوله تعالى: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق {إنهم فتية} أي شبان {آمنوا بربهم وزدناهم هدى} أي إيماناً وبصيرة {وربطنا على قلوبهم} أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف {إذ قاموا} يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام {فقالوا} أي الفتية {ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً} إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبد ون الأصنام {لقد قلنا إذاً شططاً} قال ابن عباس: يعني جوراً وقيل كذباً يعني إن دعونا غير الله {هؤلاء قومنا} يعني أهل بلدهم {اتخذوا من دونه} أي من دون الله {آلهة} يعني أصناماً يعبد ونها {لولا} أي هلا {يأتون عليهم} أي على عبادة الأصنام {بسلطان بين} أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي وزعم أنه له شريكاً أو ولداً ثم قال بعضهم لبعض {وإذ اعتزلتموهم} يعني قومكم {وما يعبد ون إلا الله} وذلك أنهم كانوا يعبد ون الله، ويعبد ون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبد ون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته {فأووا إلى الكهف} أي الجؤوا إليه {ينشر لكم} أي يبسط لكم {ربكم من رحمته ويهيئ} أي يسهل {لكم من أمركم مرفقاً} أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم. قوله سبحانه وتعالى: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور} أي تميل وتعدل {عن كهفهم ذات اليمين} أي جانب اليمين {وإذا غربت تقرضهم} أي تتركهم وتعدل عنهم {ذات الشمال وهم في فجوة منه} أي متسع من الكهف {ذلك من آيات الله} أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها، ولكن اختار الله لهم مضجعاً في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات الله أي إن شأنهم وحديثهم من آيات الله {من يهد الله فهو المهتد} يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم {ومن يضلل} أي ومن يضلله الله ولم يرشده {فلن تجد له ولياً} أي معيناً {مرشداً} أي يرشده.

.تفسير الآيات (18- 20):

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
قوله سبحانه وتعالى: {وتحسبهم} خطاب لكل أحد {أيقاظاً} أي منتبهين لأن أعينهم مفتحة {وهم رقود} أي نيام {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} قال ابن عباس: كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، قيل كانوا يقلبون في عاشوراء وقيل كانوا لهم في السنة تقلبتان {وكلبهم باسط ذراعيه} قال ابن عباس: كان كلباً أغر وعنه أنه كان فوق القلطي ودون الكرزي. والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل كان شديد الصفرة يضرب إلى حمرة، وقال ابن عباس: كان اسمه قطمير وقيل ريان وقيل صهبان قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام {بالوصيد} أي فناء الكهف، وقيل عتبة الباب وكان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم، قيل كان ينقلب مع أصحابه فإذا انقلبوا ذات اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها، وإذا انقلبوا ذات الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها {لو اطلعت عليهم} يا محمد {لوليت منهم فراراً} وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم {ولملئت منهم رعباً} أي خوفاً من وحشة المكان. وقيل لأن أعينهم مفتحة كالمتيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام وقيل لكثرة شعورهم، وطول أظافرهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار وقيل إن الله سبحانه وتعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد. قال ابن عباس: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف الله عن هؤلاء لنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: قد منع ذلك من هو خير منك فقيل له لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً. فبعث معاوية ناساً فقال اذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقهم. قوله سبحانه وتعالى: {وكذلك بعثناهم} يعني كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان بعثناهم من النومة التي تشبه الموت {ليتساءلوا بينهم} أي ليسأل بعضهم بعضاً {قال قائل منهم} وهو رئيسهم وكبيرهم مكسلمينا {كم لبثتم} أي في نومكم وذلك، أنهم استنكروا طول نومهم وقيل إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك {قالوا لبثنا يوماً} ثم نظروا فوجدوا الشمس قد بقي منها بقية فقالوا {أو بعض يوم} فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظافرهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} وقيل إن مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم {فابعثوا أحدكم} يعني تمليخا {بورقكم} هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة {هذه إلى المدينة} قيل هي ترسوس وكان أسمها في الزمن الأول قبل الإسلام أفسوس {فلينظر أيها أزكى طعاماً} أي أحلى طعاماً وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن، ولا تكون من ذبح من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقيل أطيب طعاماً وأجود وقيل أكثر طعاماً وأرخصه {فليأتكم برزق منه} أي قوت وطعام تأكلونه {وليتلطف} أي وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان {ولا يشعرن} أي ولا يعلمن {بكم أحداً} أي من الناس {إنهم إن يظهروا عليكم} أي يعلموا بمكانكم {يرجموكم} قيل معناه يشتموكم ويؤذوكم بالقول وقيل يقتلوكم، وكان من عادتهم القتل بالحجارة وهو أخبت القتل وقيل يعذبكم {أو يعيدوكم في ملتهم} أي الكفر {ولن تفلحوا إذاً أبداً} أي إن عدتم إليه.

.تفسير الآيات (21- 25):

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}
قوله عز وجل: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي أطلعنا الناس عليهم {ليعلموا أن وعد الله حق} يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث {وأن الساعة لا ريب فيها} أي لا شك فيها أنها آتية {إذ يتنازعون بينهم أمرهم}. قال ابن عباس: في البنيان فقال المسلمون نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني بنياناً لأنهم على ملتنا وقيل كان يتنازعهم في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال قوم تبعث الأرواح فأراهم الله آية وأن البعث للأرواح والأجساد وقيل تنازعوا في مدة لبثهم وقيل في عددهم {فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم} يعني بيدروس وأصحابه {لنتخذن عليهم مسجداً} قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم} روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف عندهم فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم {كلبهم ويقولون} أي وقال العاقب وكان نسطورياً {خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون} وقال المسلمون {سبعة وثامنهم كلبهم} فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل صلى الله عليه سلم بعدما حكى قول النصارى أولاً، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى رجماً بالغيب أي ظناً وحدساً من غير يقين ولم يقل ذلك في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن لحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن هو قول النصارى وأن يكون قول المسلمين مخالفاً لقول النصارى في كونه رجماً بالغيب وظناً، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى: {قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} هذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أو من أخبره الله سبحانه وتعالى بذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبينونس وسارينوس ودنوانس وكشفيططنونس وهو الراعي واسم كلبهم قطير {فلا تمار فيهم}.
أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم {إلا مراء ظاهراً} أي إلا بظاهر ما قصصنا عليك فقف عنده ولا تزد عليه {ولا تستفت فيهم} أي في أصحاب الكهف {منهم} أي من أهل الكتاب {أحداً} أي لا ترجع إلى قول أحد منهم بعد أن أخبرناك قصتهم. قوله سبحانه وتعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} يعني إذا عزمت على فعل شيء غداً فقل إن شاء الله ولا تقله بغير استثناء وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه سلم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال أخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياماً ثم نزلت هذه الآية وقد تقدمت القصة في سورة بني إسرائيل {واذكر ربك إذا نسيت} قال ابن عباس: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع، وإن كان بعد سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان، فإن بعد لم يصح ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام متصلاً بالاستنثاء وقيل في معنى الآية واذكر ربك إذا غضبت قال وهب مكتوب في التوراة والإنجيل ابن آدم «اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب»، وقيل الآية في الصلاة يدل عليه ما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذ ذكرها قال تعالى: {أقم الصلاة لذكري}» متفق عليه زاد مسلم أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، وقيل إن الله سبحانه وتعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ويسأله أن يذكره أو يهديه لما هو خير له من أن يذكر ما نسي وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أن الله سبحانه وتعالى سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث أتاه من علم غيب المرسلين وقصصهم مما هو أوضح وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل هذا شيء أمره الله أن يقوله إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان قوله إن شاء الله فتوبته من ذلك أن يقول مع قوله إن شاء الله عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً. قوله عز وجل: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً} قيل هذا خبر عن قول أهل الكتاب ولو كان خبراً من الله عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله أعلم بما لبثوا وجه ولكن الله رد قولهم.

.تفسير الآيات (26- 29):

{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}
قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} والأصح أنه إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ويكون معنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا، يعني إن نازعوك في مدة لبثهم في الكهف فقل أنت الله أعلم بما لبثوا أي هو أعلم منكم وقد أخبر بمدة لبثهم وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنين فرد الله عليهم بذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله. فإن قلت لم قال سنين ولم يقل سنة، قلت قيل لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة} فقالوا أياماً أو شهوراً أو سنين فنزلت سنين على وفق قولهم وقيل هو تفسير لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وازدادوا تسعاً وقيل قالت نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت قل الله أعلم بما لبثوا. وقيل إن عند أهل الكتاب لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية والتفاوت بين القمرية والشمسية في كل مائة سنة ثلاث سنين فتكون الثلاثمائة الشمسية ثلاث مائة وتسع سنين قمرية {له غيب السموات والأرض} يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها فإنه العالم وحده به فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف {أبصر به وأسمع} معناه ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع لا يغيب عن سمعه وبصره شيء يدرك البواطن كما يدرك الظواهر والقريب والبعيد والمحجوب وغيره لا تخفى عليه خافية {ما لهم} أي ما لأهل السموات والأرض {من دونه} أي من دون الله {من ولي} أي ناصر {ولا يشرك في حكمه أحداً} قيل معناه لا يشرك الله في علم غيبه أحداً وقيل في قضائه. قوله تعالى: {واتل} أي واقرأ يا محمد {ما أوحي إليك من كتاب ربك} يعني القرآن واتبع ما فيه واعمل به {لا مبدل لكلماته} أي لا مغير للقرآن ولا يقدر أحد على التطرق إليه بتغيير أو تبديل. فإن قلت موجب هذا أن لا يتطرق النسخ إليه. قلت النسخ في الحقيقة ليس بتبدليل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً. وقيل معناه لا مغير لما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه {ولن تجد من دونه} أي من دون الله إن لم تتبع القرآن {ملتحداً} أي ملجأ وحرزاً تعدل إليه. قوله عز وجل: {وأصبر نفسك} الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء ومنهم سلمان وعليه صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك أي احبس يا محمد نفسك {مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} يعني طرفي النهار {يريدون وجهه} أي يريدون وجه الله لا يريدون عرض الدنيا، وقيل نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» {ولا تعد} أي لا تصرف ولا تجاوز {عيناك عنهم} إلى غيرهم {تريد زينة الحياة الدنيا} أي تطلب مجالسه الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا يعني عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف {واتبع هواه} أي في طلب الشهوات {وكان أمره فرطاً} ضياعاً ضيع أمره وعطل أيامه، وقيل ندماً وقيل سرفاً وباطلاً وقيل مخالفاً للحق {وقل الحق من ربكم} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلى من ذلك شيء {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله: {اعملوا ما شئتم} وقيل معنى الآية وقل الحق من ربكم أي لست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً وإن آمنتم فلكم ما وصف الله لأهل طاعته، وعن ابن عباس في معنى الآية: من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر {إنا أعتدنا} أي هيأنا من العتاد وهو العدة {للظالمين} أي الكافرين {ناراً أحاط بهم سرادقها} السرادق الحجزة التي تطيف بالفساطيط عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة» أخرجه الترمذي قال ابن عباس: هو حائط نار وقيل هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة وقيل هو دخان يحيط بالكفار {وإن يستغيثوا} أي من شدة العطش {ثغاثوا بماء كالمهل} قال ابن عباس: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قوله سبحانه وتعالى بماء كالمهل قال: «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه منه» أخرجه الترمذي. وقال رشدين أحد رواة الحديث قد تكلم بفيه من قبل حفظة الفروة جلدة الوجه وقيل المهل الدم والقيح وقيل هو الرصاص والصفر المذاب {يشوي الوجوه} أي ينضج الوجوه من حره {بئس الشراب} أي ذلك الذي يغاثون به {وساءت} أي النار {مرتفقاً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منزلاً وقيل مجتمعاً وأصل المرتفق المتكأ وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا متكأ.