فصل: تفسير الآيات (29- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (29- 37):

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)}
{فأشارت إليه} أي أشارت مريم إلى عيسى أن كلمهم، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل لما أشارت إليه غضب القوم وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً} قيل أراد بالمهد الحجر وهو حجرها، وقيل هو المهد بعينه قيل لما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم، وقيل لما أشارت إليه ترك الرضاع واتكأ على يساره وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه {قال إني عبد الله} قال وهب: أتاها زكرياء عند مناظرتها اليهود، فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوماً، وقيل: بل يوم ولد إني عبد الله أقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم لئلا يتخذ إلهاً. فإن قلت إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت نفي التهمة عن أمه وأن عيسى لم ينص على ذلك، وإنما نص على إثبات عبوديته لله تعالى.
قلت كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن أمه، فلهذا أول ما تكلم باعترافه على نفسه بالعبودية لتحصل إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في زنا، والتكلم بإزالة التهمة عن أمه لا يفيد إزالة التهمة عن الله سبحانه وتعالى فكان الاشتغال بذلك أو {آتاني الكتاب وجعلني نبياً} قيل معناه سيجعلني نبياً ويؤتيني الكتاب وهو الإنجيل وهذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ وهو كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال: «كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد» وقال الأكثرون إنه أوتي الإنجيل، وهو صغير وكان يعقل عقل الرجال الكمل وعن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه {وجعلني مباركاً أينما كنت} معناه أني نفاع أينما توجهت، وقيل معلماً للخير أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وقيل مباركاً على من يتبعني {وأوصاني بالصلاة والزكاة} أي أمرني بهما وكلفني فعلهما. فإن قلت كيف يؤمر بالصلاة والزكاة، في حال طفوليته وقد قال صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ» الحديث. قلت إن قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل المراد أوصاه بأدائهما في الوقت المعين لهما وهو البلوغ، وقيل إن الله تعالى صيره حين انفصل عن أمه بالغاً عاقلاً وهذا القول أظهر في سياق قوله: {ما دمت حياً} فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه إليه في زمان جميع حياته حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل الأرض بعد رفعه {وبراً بوالدتي} أي جعلني براً بوالدتي {ولم يجعلني جباراً شقياً} أي عاصياً لربي متكبراً على الحق بل، وأنا خاضع متواضع وروي أنه قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي، وقال بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا هذه الآية، وقيل الشقي الذي يذنب ولا يتوب.
{والسلام علي يوم ولدت} أي السلامة عند الولادة من طعن الشيطان {ويوم أموت} أي عند الموت من الشرك {ويوم أبعث حياً} أي من أهوال يوم القيامة فلما كلمهم عيسى بذلك علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الأطفال {ذلك عيسى ابن مريم} أي ذلك الذي قال إني عبد الله هو عيسى بن مريم {قول الحق} أي هذا الكلام هو القول الحق أضاف القول إلى الحق، وقيل هو نعت لعيسى يعني بذلك عيسى بن مريم كلمة الله الحق والحق هو الله {الذي فيه يمترون} أي يشكون ويختلفون فقائل يقول هو ابن الله وقائل يقول ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى: {ما كان لله أن يتخذ ولد} أي ما كان من صفاته اتخاذ الولد لا ينبغي له ذلك {سبحانه إذا قضى أمراً} أي إذا أراد أن يحدث أمراً {فإنما يقول له كن فيكون} أي لا يتعذر عليه اتخاذه على الوجه الذي أراده {وإن الله ربي وربكم فاعبد وه} هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك يعني لأن الله ربي وربكم لا رب للمخلوقات سواه {هذا صراط مستقيم} أي هذا الذي أخبرتكم به أن الله أمرني به هو الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة {فاختلف الأحزاب من بينهم} يعني النصارى سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عيظم} يعني يوم القيامة حين.

.تفسير الآيات (38- 46):

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
{أسمع بهم وأبصر} أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا، وقيل معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع ويصدع قلوبهم {يوم يأتوننا} أي يوم القيامة {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} قيل أراد باليوم الدنيا، يعني أنهم في الدنيا في خطأ بين وفي الآخرة يعرفون الحق، وقيل: معناه لكن الظالمون في الآخرة في ضلال عن طريق الجنة بخلاف المؤمنين.
قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة} يعني خوف يا محمد كفار مكة يوم الحسرة، سمي بذلك لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان، يدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا ما ندمه يا رسول الله قال: إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع» أخرجه الترمذي. قوله أن لا يكون نزع النزع عن الشيء: الكف عنه، وقال أكثر المفسرين يعني بيوم الحسرة حين يذبح الموت.
(ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي مناد آخر يا أهل النار فيشرفون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» ثمر قرأ.
{وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده إلى الدنيا وزاد الترمذي فيه «فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار» قوله كهيئة كبش أملح والأملح: المختلط بالبياض والسواد، قوله فيشرفون يقال إلى الشيء إذا تطلع ينظر إليه ومالت نحوه نفسه. قوله فيذبح بين الجنة والنار اعلم أن الموت عرض ليس بجسم في صورة كبش أو غيره فعلى هذا يتأول الحديث، على أن الله تعالى يخلق هذا الجسم وهو حيوان فيذبح فيموت فلا يبقى يرجى له حياة ولا وجود، وكذلك حال أهل الجنة والنار بعد الاستقرار فيهما لا زوال لهما ولا انتقال.
(ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم».
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة أحد إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ولا يدخل النار أحد إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة» أخرجه البخاري.
وقوله تعالى: {إذا قضي الأمر} أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت {وهم في غفلة} أي عما يراد بهم في الآخرة {وهم لا يؤمنون} أي لا يصدقون {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} أي نميت سكان الأرض جميعاً ويبقى الله سبحانه وتعالى وحده فيرثهم {وإلينا يرجعون} فنجزيهم بأعمالهم. قوله عز وجل ويبقى {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً} أي كثير الصدق وهو مبالغة في كونه صديقاً، وقيل الصدِّيق الكثير التصديق قيل من صدق الله في وحدانيته وصدق أنبياءه ورسله وصدق بالبعث بعد الموت وقام بالأوامر فعمل بها فهو صديق، ولما قربت رتبة الصديق من رتبة النبي انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً، والنبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه وإي رتبة أعلى من رتبة من جعله الله تعالى واسطة بينه وبين عباده {إذ قال لأبيه} يعني آزر وهو يعبد الأصنام {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع} يعني صوتاً {ولا يبصر} لا ينظر شيئاً {ولا يغني عنك} أي يكفيك {شيئاً} وصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية، وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا يستحقها إلا من له ولاية الإنعام وله أوصاف الكمال وهو الله تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو {يا أبت إني قد جاءني من العلم} يعني بالله والمعرفة {ما لم يأتك فاتبعني} أي على ديني {أهدك صراطاً سوياً} أي مستقيماً {يا أبت لا تعبد الشيطان} أي لاتطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك.
{إن الشيطان كان للرحمن عصياً} أي عاصياً {يا أبت إني أخاف} أي أعلم، وقيل هو على ظاهره لأنه يمكن أن يؤمن فيكون من أهل الجنة، أو يصر على الكفر فيكون من أهل النار فحمل الخوف على ظاهره أولى. واعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن مقروناً بالتلطف والرفق، فإن قوله في مقدمة كلامه يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صرفه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأصنام ثم أمره باتباعه في الإيمان، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي بقوله إني أخاف {أن يَمَسَّك} أي يصيبك {عذاب من الرحمن} أي إن أقمت على الكفر {فتكون للشيطان ولياً} أي قريناً في النار، وقيل صديقاً له في النار، وإنما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا مع أبيه لأمور أحدها: لشدة تعلق قلبه بصلاحية أبيه وأداء حق الأبوة والرفق به، وثانيها: أن النبيّ الهادي إلى الحق لابد أن يكون رفيقاً لطيفاً حتى يقبل منه كلامه، وثالثها: النصح لكل أحد فالأب أولى {قال} يعني أباه مجيباً له {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أتاركها أنت وتارك عبادتها {لئن لم تتنه} أي ترجع وتسكت عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها {لأرجمنك} قال ابن عباس: معناه لأضربنك، وقيل لأقتلنك بالحجارة، وقيل لأشتمنك، وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح والقول الأول هو الصحيح {واهجرني} أي اجتنبني قال ابن عباس: اعتزلني سالماً لا يصيبنك مني معرة {مليئاً} أي دهراً طويلاً.

.تفسير الآيات (47- 57):

{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}
{قال} يعني إبراهيم {سلام عليك} أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه وذلك لأنه لم يؤمن بقتاله على كفره، وقيل هذا سلام هجران ومفارقة، وقيل هو سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه {سأستغفر لك ربي}، قيل إنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله فيه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له، وقيل معناه سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة {إنه كان بي حفياً} أي براً لطيفاً والمراد أنه يستجيب لي إذا دعوته لأنه عودني الإجابة لدعائي {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} أي أفارقكم وأفارق ما تعبد ون من دون الله وذلك أنه فارقهم وهاجر إلى الأرض المقدسة {وأدعو ربي} أي أعبد ربي الذي خلقني وأنعم علي {عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً} أي أرجو أن لا أشقى بدعاء ربي وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام، ففيه التواضع له مع التعريض بشقاوتهم. قوله عز وجل: {فلما اعتزلهم وما يعبد ون من دون الله} أي ذهب مهاجراً {وهبنا له} أي بعد الهجرة {إسحاق ويعقوب} أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد أكرم على الله من أبيه {وكلاًّ جعلنا نبياً} أي أنعمنا عليهما بالنبوة {ووهبنا لهم من رحمتنا} أي مع ما وهبنا لهم من النبوة وهبنا لهم المال والولد وذلك أنه بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق وكثرة الأولاد {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} يعني ثناء حسناً رفيعاً في أهل كل دين حتى دعا لهم أهل الأديان كلهم فهم يتولونهم ويثنون عليهم.
قوله عز وجل: {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً} قرئ بكسر اللام أي أخلص العبادة، والطاعة لله تعالى ولم يراء وقرئ بالفتح أي مختاراً اختاره الله تعالى ثم استخلصه واصطفاه {وكان رسولاً نبياً} فهذان وصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس {وناديناه من جانب الطور الأيمن} أي من ناحية يمين موسى، والطور جبل معروف بين مصر ومدين ويقال إن اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إنى أنا رب العالمين {وقربناه} قال ابن عباس: قربه وكلمه ومعنى التقريب إسماعه كلامه وقيل رفعه على الحجب حتى سمع صرير الأقلام، وقيل معناه رفع قدره ومنزلته أي وشرفناه بالمناجاة وهو قوله تعالى: {نجياً} أي مناجياً {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً} وذلك أن موسى دعا ربه فقال واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي فأجاب الله دعوته، وأرسل إلى هارون ولذلك سماه هبة له وكان هارون أكبر من موسى.
قوله عز وجل: {واذكر في الكتاب إسماعيل} هو إسماعيل بن إبراهيم وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم {إنه كان صادق الوعد} قيل إنه لم يعد شيئاً إلا وفى به وقيل إنه وعد رجلاً أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد، حتى رجع إليه الرجل وقيل إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظر فقال إن وعده نهاراً فكل النهار وإن وعده ليلاً فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى {وكان رسولاً} إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم أسماعيل بوادي مكة حين خلفهم إبراهيم، وجرهم هو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ وقحطان أبو قبائل اليمن {نبياً} أي مخبراً عن الله تعالى {وكان يأمر أهله} أي قومه وجميع أمته {بالصلاة والزكاة} قال ابن عباس: يريد الصلاة المفروضة عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا، وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاة والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم {وكان عند ربه مرضياً} أي قائماً لله بطاعته وقيل رضيه لنبوته ورسالته وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات.
قوله عز وجل: {وإذكر في الكتاب إدريس} هو جد أبي نوح واسمه أخنوخ، سمي إدريس لكثرة دراسة الكتب وكان خياطاً وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب وليس المخيط وكانوا من قبل يلبسون الجلود وهو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب.
{إنه كان صديقاً نبياً} وذلك أن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة {ورفعناه مكاناً علياً} قيل هي الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا، وقيل إنه رفع إلى السماء. وهو الأصح يدل عليه ما روى أنس بن مالك بن صعصعة «عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج» متفق عليه وكان سبب رفع إدريس إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره: أنه سار يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوماً فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال يا رب خلقتني لحر الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال إن عبد ي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فأجبته قال يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس، فكان إدريس يسأله ما سأله أن قال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي لعلي ازداد شكراً وعبادة فقال الملك: {ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها} وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً.
قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً وقال وهب: كان يرفع لإدريس فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي. فأوحى الله إليه أن اقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعداداً له. ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى. قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكاً أن يرفع أبوابها فأراها.
ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة، وقال ما أخرج منها فبعث الله إليه ملكاً حكماً بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن الله تعالى قال {كل نفس ذائقة الموت} وقد ذقته ثم قال {وإن منكم إلا واردها} فأنا وردتها وقال {وما هم منها بمخرجين} فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى: {ورفعناه مكاناً علياً} واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت. فقال قوم هو ميت واستدل بالأول. وقال قوم هو حي واستدل بهذا. وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء أثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس. وإثنان في السماء وهما إدريس وعيسى.