فصل: تفسير الآيات (58- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (58- 62):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}
قوله عز وجل: {أولئك الذي أنعم الله عليهم من النبيين} أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم الله عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه {من ذرية آدم} يعني إدريس ونوحاً {وممن حملنا مع نوح} أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح {ومن ذرية إبراهيم} يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب {وإسرائيل} أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فرتب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى: {ومن هدينا واجتبينا} أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً} جمع ساجد {وبكياً} جمع باك، أخبر الله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعاً وخشوعاً وخوفاً حذراً. والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء خشوع القلب عند سماع القرآن.
فصل:
وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعو بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك. وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم} أي من بعد النبيين المذكورين {خلف} أي قوم سواء أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وتابعهم وقيل هم في هذه الأمة {أضاعوا الصلاة} أي تركوا الصلاة المفروضة. وقيل أخروها عن وقتها وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تأتي المغرب {واتبعوا الشهوات} أي آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله وقيل اتبعوا المعاصي وشرب الخمور، وقيل هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان بنزو بعضهم على بضع في الأسواق والأزقة {فسوف يلقون غياً} قال ابن عباس: الغي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن له ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق، ولشاهد الزور وقيل هو وادٍ في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه يسيل قيحاً ودماً، وقيل: واد في جهنم أبعدها قعراً وأشدها حراً فيه بئر تسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتستعر بها جهنم وقيل معنى غياً خسراناً وقيل هلاكاً وعذاباً، وليس معنى يلقون يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية.
قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} يعني إلا من تاب من التقصير في الصلوات والمعاصي وآمن من الكفر وعمل صالحاً بطاعة الله تعالى {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} أي لا ينقصون شيئاً ثم وصف الجنة فقال تعالى: {جنات عدن} أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم {التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي إنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم وهم غائبون عنها {إنه كان وعده مأتياً} أي آتياً وقيل معنى وعده موعود وهو الجنة مأتياً أي يأتيه أولياء الله وأهل طاعته {لا يسمعون فيها لغواً} أي باطلاً وفحشاً وهو فضول الكلام {إلا سلاماً} يعني بل يسمعون فيها سلاماً والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن معنى السلامة، وذلك أن أهل الجنة لا يسمعون فيها ما يؤلمهم، وإنما يسمعون تسليمهم، وقيل هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم، وقيل هو تسليم الله عليهم {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} قال أهل التفسير: يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار كعادتهم في الدنيا وقيل إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب، وقيل المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق ولا تقتير، وقيل: كانت العرب لا تعرف أفضل من الرزق الذي يؤتى به البكرة والعشي، فوصف الله تعالى الجنة بذلك.

.تفسير الآيات (63- 71):

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)}
وقوله تعالى: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا} أي نعطي وننزل وقيل يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا {من كان تقياً} أي المتقين من عباده عز وجل: {وما نتنزل إلا بأمر ربك}.
(خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزرونا فنزلت وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا» الآية قال فكان هذا جواب جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل احتبس جبريل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله اليهود عن أمر الروح وأصحاب الكهف، ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك، فقال له جبريل وإني كنت أشوق إليك ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا احبست احتبست» فأنزل الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} وأنزل الله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى} وقوله: {له ما بين أيدنا وما خلفنا} أي له علم ما بين أيدينا وما خلفنا، وقيل أكد ذلك بقوله ما بين أيدينا وما خلفنا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل، وقيل معناه له ما بين أيدينا من أمر الآخرة والثواب والعقاب وما خلفنا أي ما مضى من الدنيا {وما بين ذلك} أي من هذا الوقت إلى أن تقوم الساعة، وقيل ما بين ذلك أي ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة، وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما بقي منها وما بين ذلك مدة حياتنا {وما كان ربك نسياً} أي ناسياً أي ما نسيك ربك وما تركك {رب السموات والأرض وما بينهما} اي من يكون كذلك لا يجوز عليه النيسان لأنه لابد أن يدبر أحوالها كلها، وفيه دليل على أن فعل العبد خلق الله لأنه حاصل بين السموات والأرض فكان لله تعالى {فاعبد ه واصطبر لعبادته} أي اصبر على أمره ونهيه {هل تعلم له سمياً} قال ابن عباس: مثلاً وقيل هل تعلم أحداً يسمى الله غير الله.
قوله تعالى: {ويقول الإنسان} أي جنس الإنسان والمراد به الكفار الذين أنكروا البعث، وقيل هو أبي بن خلف الجمحي وكان منكراً للبعث {أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} قاله استهزاءً وتكذيباً للبعث قال الله تعالى: {أولا يذكر الإنسان} أي يتذكر ويتفكر يعني منكر البعث {أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً} والمعنى أولاً يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة.
قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ثم أقسم بنفسه فقال تعالى: {فو ربك} وفيه تشريف للنبيّ صلى الله عليه وسلم {لنحشرنهم} أي لنجمعنهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث {والشياطين} أي مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً} قال ابن عباس: جماعات وقيل جاثين على الركب لضيق المكان، وقيل إن البارك على ركبتيه صورته كصورة الذليل. فإن قلت هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية} قلت وصفوا بالجثو على العادة المعهودة في مواقف المقالات والمناقلات، وذلك لما فيه من القلق مما يدهمهم من شدة الأمور التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثواً {ثم لننزعن} أي لنخرجن {من كل شيعة} أي من كل أمة وأهل دين من الكفار {أيهم أشد على الرحمن عتياً} قال ابن عباس: يعني جرأة وقيل فجوراً وتمرداً، وقيل قائدهم رئيسهم في الشرك، والمعنى أنه يقدم في إدخال النار الأعتى ممن هو أكبر جرماً وأشد كفراً. وفي بعض الأخبار أنهم يحضرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين، ثم يقدم الأكفر فالأكفر فمن كان أشد منهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم وأشد لأن عذاب الضال المضل واجب أن يكون فوق عذاب الضال التابع لغيره في الضلال. وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب فلذلك قال في جمعيهم {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً} ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب وقيل معنى الآية أنهم أحق بدخول النار.
قوله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} أي وما منكم إلا واردها وقيل القسم فيه مضمر أي والله ما منكم من أحد إلا واردها والورود هو موافاة المكان، واختلفوا في معنى الورود ها هنا وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله واردها فقال ابن عباس الأكثرون: معنى الورود هنا الدخول، والكناية راجعة إلى النار، فيدخلها البر والفاجر ثم ينجي الله الذين اتقوا منها، يدل عليه ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول فقال نافع: ليس الورود الدخول فقرأ ابن عباس {إنك وما تعبد ون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} أدخلها هؤلاء أم لا ثم قال يا نافع والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله أن يخرجك منها بتكذيبك فمن قال بدخول المؤمنين النار يقول من غير خوف ولا ضرر ولا عذاب البتة بل مع الغبطة والسرور لأن الله تعالى أخبر عنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر.
فإن قلت كيف يدفع عن المؤمنين حر النار وعذابها، قلت يحتمل أن الله تعالى يخمد النار فتعبرها المؤمنون، ويحتمل أن الله تعالى يجعل الأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار من النار محرقة والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين تكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت في حق إبراهيم عليه السلام، وكما أن الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها فإن قلت إذا لم يكن على المؤمنين عذاب فما فائدة دخولهم النار.
قلت فيه وجوه، أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه، وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار، حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها، وثالثها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب الذي على الكفار صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وقال قوم ليس المراد من الورود الدخول، وقالوا لا يدخل النار مؤمن أبداً لقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} فعلى هذا يكون المراد من الورود الحضور والرؤية، لا الدخول كما قال تعالى: {ولما ورد ماء مدين} أراد به الحضور، وقال عكرمة الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها وروي عن ابن مسعود أنه قال وإن منكم إلا واردها، يعني القيامة والكناية راجعة إليها والقول الأول أصح وعليه أهل السنة فإنهم جميعاً يدخلون النار ثم يخرج الله منها أهل الإيمان بدليل قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} أي الشرك وهم المؤمنون والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه، يدل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يموت لأحد من المؤمنين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» وفي رواية «فيلج النار إلا تحلة القسم» أخرجاه في الصحيحين، اراد بالقسم قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها}.
(م) عن أم مبشر الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها قالت بلى يا رسول الله فانتهزها فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}».
وقال خالد بن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة وفي الحديث: «تقول النار للمؤمنين جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» وروي عن مجاهد في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} قال: من حم المسلمين فقد وردها، وفي الخبر: «الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار».
(ق) عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء»، قوله: جهنم وهجها وحرها. وقوله تعالى: {كان على بك حتماً مقضياً} أي كان ورود جهنم قضاء لازماً قضاء الله تعالى عليكم وأوجبه.

.تفسير الآية رقم (72):

{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}
{ثم ننجي الذين اتقوا} أي الشرك {ونذر الظالمين فيها جثياً} اي جميعاً، وقيل جاثين على الركب قالت المعتزلة في الآية دليل على صحة مذهبهم، وفي أن صاحب الكبيرة والفاسق يخلد في النار بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها، وهم المتقون والفاسق لا يكون متقياً فبقي في النار أبداً. وأجيب عنه بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك بقول لا إله إلا الله ويشهد لصحة ذلك أن من آمن بالله ورسوله، صح أن يقول إنه متق من الشرك ومن صدق عليه أنه متق من الشرك صح أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي من الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار بعموم قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} فصارت الآية التي توهمها دليلاً لهم من أقوى الدلائل على الفساد قولهم، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار.
(خ) عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» وفي رواية: «من إيمان».
(ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا. يا رسول الله. قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة، فيقول الله من كان يعبد شيئاً فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذٍ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم. قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من ينجدل ثم ينجون حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجوهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أعضاء السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة مقابل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فيقول هل عيست إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها سكت ما شاء الله تعالى أن يسكت، ثم يقول يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت المواثيق والعهود أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت أن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره فيقول وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطى ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول يا رب أدخلني الجنة. فيقول الله تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول له تمنى فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تمن كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله لك ذلك ومثله معه» قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة «وعشرة أمثاله» قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد رضي الله عنه: سمعته يقول: «لك ذلك وعشرة أمثاله». وفي رواية للبخاري قال: «فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا عرفناه. فيأتيهم الله من الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه» قلت أما ما يتعلق بمعاني الحديث والكلام على الرؤية فسيأتي في تفسير سورة ن والقيامة ونتكلم ها هنا على شرح غريب ألفاظه، قوله مثل شوك السعدان هو نبت ذو شوك معقف وهو من أجود مراعي الإبل.
وقوله فمنهم من يوبق بعمله يقال أوبقته الذنوب أي أهلكته. والمنجدل المرمى المصورع وقيل هو المقطع.
والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يقع في النار. قوله وقد امتحشوا أي احترقوا، وقيل هو أن تذهب النار الجلد وتبدي العظم. قوله كما تنبت الحبة في حميل السيل، الحبة بكسر الحاء وهي البذورات جميعاً وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه، قوله قشبني ريحها أي آذاني والقشب السم فكأنه قال قد سمني ريحها. قوله وأحرقني ذكاؤها أي اشتعالها ولهبها قوله رأى زهرتها الزهرة الحسن والنضارة والبهجة.
(ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً للجنة رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى. فيقول الله تعالى له اذهب فادخل فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي أضراسه وأنيابه، وقيل هي آخر الأسنان.
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة، قال فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة، قال فيرش عليهم أهل الجنة من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حمالة السيل» أخرجه الترمذي الحمم الفحم والحمالة كل ما جاء به السيل، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار ودلت الآية الثانية والأحاديث أن الله تعالى أخرج منها المتقين وجميع الموحدين وترك فيها الظالمين وهم المشركون.